تقودك الكاتبة والشاعرة الرقيقة الأستاذة تهاني دربي بداية من عنوان الديوان إلى دروب وفضاءات عديدة تستوعب كل الأسئلة أو التساؤلات المتراكمة في أعماق القلب أو الدائرة بمحركات العقل، مما يتيح لك التحليق على صهوتها بلا حدود صوب كل الأمكنة والقلوب التي تختار، أو التفاعل مع مضامين الحياة كافة بالصورة التي تحب.
(يعربد بك)… هاتان الكلمتان رسمتا عنوان الديوان الصادر عن مركز ليبيا الوطن للإعلام والذي حمل خلاصة مشوار الأستاذة تهاني دربي مع الشعر كما تقر الشاعرة نفسها بذلك من خلال إهدائها الذي يتصدر الديوان وتقول فيه (هذه خلاصتي) وتقدمها هدية لابنها الأجمل (أهديها لك أسامة. ابني الأجمل).
وقد حمل الديوان ثلاثةً وخمسين نصا كالتالي: سارق الدفق، محاولة، مباحة، وهق، فراش الصمت، يسرج على الريح، أستبيح كنهي، أنا هي.. هي أنا، طرابلس، غواية، مقاومة، نوافير، غمام، برفق، أكذوبة، هطول، حلول، هذيان، يوسف، وتر المعتاد، عناد، ثعبان، ذنب، حضور، خلاص، وسادتي، غياب، يعربد بك، ؟؟؟؟؟؟؟؟، كالذئب، هاني، انشطار لتؤم قديم، مواربة، عطش، أرضك يا زيوس، تماهي الشجر، تختلف، أدران، أزرق، قصيدة، بحر، ليلة، عشق، مقاومة، وطأة، اليد، تحية، تراص، بكاء، لذة، المرايا، أحدهم، حنكة.
وعند استعراض هذه العناوين المتنوعة نلاحظ أنه غلبت على تكوينها البنائي الكلمة المفردة التي تنوعت بين الاسم الشخصي للمذكر المفرد مثل (يوسف، هاني) واسم المكان (طرابلس) وهي المدينة الوحيدة التي نالت شرف السكن بالديوان، وأيضاً اتخاذ الشاعرة لعلامات الاستفهام (؟؟؟؟؟؟؟) عنواناً صريحاً لأحد نصوصها. كما جاءت بعض العناوين مركبة في شكل جملة فعلية مثل (يسرج على الريح) وشبه جملة مثل (كالذئب) وجملة اسمية مثل (انشطار لتؤم قديم)، وأخرى تستحضر الأسطورة التاريخية الإغريقية مثل (أرضك يا زيوس)، إلا أن ما بدا غريبا أثناء استعراض هذه العناوين هو تكرار عنوان (مقاومة) لقصيدتين مختلفتين في نصيهما، حيث جاءت القصيدة الأولى (مقاومة) المنشورة على الصفحة الثامنة والعشرين في أربعة سطور هي:
(تلوذ بغضبها
كي لا تفرش ضفيرتها
طريقاً
لمروره العابر)
والقصيدة الثانية (مقاومة) التي نشرت على الصفحة التاسعة والثمانين وجاءت أيضا في أربعة سطور هي:
(تتعملق في حضرتك المنغصات
حفلة طرد تقيمها
على شرف
عذوبتك)
ونظراً لعدم وجود تواريخ كتابة كل القصائد المنشورة بالديوان، والتي هي بلا شك تتيح للقارئ أو الناقد المتخصص متابعة تطور النص لدى الشاعرة من خلال التعرف على تواريخ إنتاجه ونشره، فإننا لا نعرف أي النصين هو الأقدم أو الأحدث، إلا إذا اتبعنا تسلسل ترقيمها على صفحات الديوان. وحول هذا الجانب لابد من التأكيد على أن عتبات وتواريخ كتابة النصوص الشعرية تمثل إضافة ثرية وأهمية بالغة في الدراسات الشعرية والأدبية عامة لكونها تمنح الدارس أو الباحث مفاتيح عبور مهمة للولوج إلى عوالم النص الإبداعي وسيرة صانعه وظروف وملابسات ولادته.
(يعربد بك)
يثير العنوان في أعماق فكرك –عزيزي القارئ- الكثير من الأسئلة الاستفزازية الجميلة التي قد تفتح الشهية للنص، وبالتالي تسعى من خلالها إلى الاقتراب منه ومحاولة فك طلاسمه والتفاعل معه، فتواجهك علامات الاستفهام الكثيرة وتنهال عليك من كل صوب واتجاه لتصرخ فيك.. من ذا الذي يعربد بك؟ ولماذا؟ وما علاقة الشاعرة الرقيقة بالعربدة؟ وما هي أساليب العربدة وكيف تعرفت عليها؟ وأساساَ لماذا العربدة؟ وغيرها من أساليب الأسئلة التي توقعك في شباك متاهاتها العديدة. ولكن سرعان ما تسري بين أعماقك راحة وجدانية حين تكتشف أن عنوان الديوان قد اختارته الشاعرة من قصيدتها الأطول المنشورة بالديوان (يعربد بك)، وبالتالي تخلصك من متاهات الأسئلة المقلقة والمحيرة وتسلمك لتلك القصيدة، وتتركك تتابع قراءتك الانطباعية التي سرعان ما تقودك إلى التصريح بأن الشاعرة مسكونة بالأسئلة المربكة والمتوالدة أو المستنسخة من بعضها وهي إشارة إلى تفاعل قوي يدور بين أعماق قلبها ومحركات عقلها، يفتح أمامك فضاءات شاسعة ويدعوك لمعانقة النص الشعري والاستمتاع به.
ونحن إذا تتبعنا ولادة الأسئلة في ديوان (يعربد بك) لوجدنا أنها تبدأ منذ النص الأول (سارقة الدفق) حين يفاجئك السؤال بشكله الصريح “كيف تنال الرضا وكبائرها ترقص وجداً؟؟”، ويتواصل في (وهق) “كيف يمكن له أن يعانق؟” و”فما حاجتنا لوهق الجبال الزاهق؟؟”، وفي “يسرج على الريح” تتابع الأسئلة بشكل يوحي بقلق يموج في أعماق الشاعرة “كيف تراك ترفل على ضفاف يم المحطات؟” و”هل يتذاكى عليك الحنين فيحملك إلى هنا وأنت هناك” و”هل تقرأ خارطة وجهي وكأنك فيه”، ويتوالد بغزارة “كيف هي الدروب دون نبضي؟؟” و”كيف هي الصباحات دون فنجان قهوة يرتل نكهتي؟؟” لتنتهي في هذا النص بثلاثية “كيف؟ وكيف؟ وكيف؟”.
ويكاد لا يخلو نص بالديوان من ظهور علامات الاستفهام التي تفننت وتنوعت الشاعرة في استخدامها فنجد جل الأدوات حاضرة بقوة مثل (كيف، متى، هل، أليس، لماذا، كم… وغيرها). ولا يقتصر ظهور أدوات السؤال عند الشاعرة تهاني دربي في متن النص أو وسطه أو بين ثناياه، بل نجدها أحياناً تستهل به بعض نصوصها حيث يبرز منذ السطر الأول كمفتتح للدفقة الشعرية لحظة ميلادها الأولية مثلما في قصيدتها (ذنب) حين تبدأها متسائلة: “كيف لها أن تبعد شياطينك عنها…؟” وقصيدة (غواية) التي تباغث القاريء متسائلة “أيهما؟” ومن خلال ذلك تسبح الشاعرة في فضاء الكلام مستندة على تجاذبات بوصلة المشاعر الفياضة ورغبة البوح والتنفيس من قبو الصمت إلى انهمار الكلام مما يوحي بحالة عطش وجوع وهوس بحثا عن لحظة صدق نقية لإطلاق صرخات التعبير الوجداني بكل حرية.
وبقدر ما للأسئلة من حضور باذخ في ديوان (يعربد بك) نلاحظ غياب موسيقى الإيقاع الرنان المؤثر في النفس والوجدان، سواء ذاك الرنين المدوي المباشر المعزز بالمحسنات البديعية كالسجع والطباق، أو المعزوف الهامس أو الخافت المتواري المنبعث من فيض الكلمات وروح العبارات العميقة الدلالة. كذلك نجد أن معظم النصوص قد افتقدت صور الخيال الخلابة التي تشد وتتلبس القاريء فتستحوذ على عواطفه الجيّاشة وأحاسيسه المفعمة، لكي يظل أسيراً لها ومنتشياً بعوالمها اللامرئية ومحلقاً في فضاءاتها الجميلة الآخاذة، ونتيجة لذلك الفقدان غلبت على نصوص الشاعرة الجمل التقريرية المتتالية فظهرت كصفوف متراصة من الكلمات والتركيبات النثرية الخالية من الإيحاء والتشويق، إضافة إلى كثرة الأخطاء النحوية التي أفسدت كثيراً مناخات الشعر وأجواءه الحالمة الرقيقة.
بيّنت نصوص الديوان أن الشاعرة تنحاز إلى عوالم العبارة الشعرية القصيرة المكثفة والتي تعرف بشعر الومضة الخاطفة، والتي هي في نفس الوقت تكشف قصر ومحدودية النفس الشعري مع الاحتفاظ بموضوعية النص كاملة مثل نصها (قصيدة) التي صاغتها بدفقة شاعرة عاشقة لوطنها ومتيمة بحب قصيدتها:
(جناحي قصيدة
وطن الحرية
حين يضيق البراح
على متنها نطير
وعلى رؤوس أصابعها
نحط)
ولولا الخطأ النحوي الذي وقعت فيه الشاعرة في أول كلمة بمستهل النص لأعلنته أجمل النصوص التي وثقت علاقة الوطن بقصائد الشعر في ديوانها. ومرة ثانية نجد الخطأ النحوي في (يعربد بك) ومرة ثالثة في (أزرق) يفسد جمالية شعرها وأحاسيسها الوطنية الصادقة. كما جاء نسيج بعض نصوص الشاعرة على هيئة أقصوصة قصيرة مكتملة الأركان مثل (أحدهم) التي لم تستطع التخلص من السؤال فازدانت نهايتها به:
(كيف تهرب منه
وهو كل الهواء
من حولها؟).
وأيضاً نجد الشاعرة تستخدم أسلوب تكرار بعض الكلمات في النص للتذكير والتأكيد على المكان كما ظهر في نصها (وسادتي) الذي تكررت فيه كلمة (هنا) إحدى عشرة مرة وسجلت اعترافها في خاتمته:
(هنا
أصوغ مجدي حتى تهدر روحي رضا
لعلي عندما أغادرها
لا ترعبني حاجتي
لكتف أبكي عليه
نهاراتي الغائمة).
لاشك أن صناعة النص الشعري ترتكز على مقومات اللغة والخيال والموضوع، وعند حضور وتدافع الأسئلة في فكر وعقل الشاعر وتفاعلها بشكل متدفق ومتسارع تصبح ملاحقتها أمراً مأمولاً لولادة نص شعري ينقل بعض تداعياتها. والشاعرة تهاني دربي تجيد إدارة محركات أسئلتها على الأصعدة كافة وكأنها موسوعة لا تكل من طرح السؤال تلو الآخر ونثره في وجوه قصائدها ونصوصها، وإشراك المتلقي أو توريطه في ذلك، إلا أن أدواتها الفنية والتعبيرية لازالت تنشد المزيد من العمل الدؤوب من أجل الارتقاء بها وتطويرها حتى تفوح كل نصوصها بشذاها الساحر برياحينه كما آسرني في (تحية) و(بكاء) و(لذة) و(مرايا) التي جاءت مكللة بالشعر والدفء. ولعل نصها الجميل (تراص) يختصر كل العربدة ليمطرنا بأسئلة الشعر اللذيذة ويغادرنا ولا يتركنا بلا عناء، بحثاً عن باقة من التحايا نزفها للشاعرة الرقيقة وهي تشد عقولنا نحو مدايات بعيدة وبكل عذوبة تباغثنا:
(على الأرض يتراص جيش الأسئلة
فهل في السماء من يلقى عليها سلام الأجوبة..؟؟).