[إلي صديقي عاشور الطويبي]
من عادة شجرة اللوز؛
أن تشعل الشيب،
في شعرها.
تكون الضوء،
لمستوحشي الطريق.
تجئ الريح الحمقى،
تطفئ زهر اللوز.
ــــــــــ
مدينة الروح
هو المدينة؛ من خرط شوارعها، من صاغها. طرابلس كانت أويا حين طردت صور اللبنانية أهلها، الطريدة خبأت نفسها في غرب المتوسط، وأنشأت المدينة الثانية في هذا المتوسط بحر الأرجوانيين أو الفينيقيين. يخطر ذلك لبوشويشة وهو يعيد خلق المدينة وينتزعها من تاريخها.
طرابلس مأوي المطاريد؛ كانت أويا في النشأة الأولي، وفي الثانية مدينة المالوف حين أعاد الأندلسيون تطريزها كقمجة تستر الفارين العراة من أندلس، كحلم بددته الريح العاتية.
كذا أعاد كتابة المدينة المحاصرة بين بحرين من رمل وماء أجاج، نزل عن ركاب العزيزية في طفولة طائشة متغرضا ما لا يعرف وما يحدس، متخذا من الأحرف قوسا ومن اللون قزحا، ومثل كل العاشقين البلهاء أهدر قواه من أجلها؛ طرابلس الغرب التي ما كانت لولا جنونه بها.
في طفولة غير مدركة، أدرك المدينة غير المتمدنة كما أدرك الصبحُ الليل. في المدينة القديمة سكناه، حيث حدس أن غرناطة هربت من ليلها، ودست روحها بين الحيوط، كما دس روح طفولته بين النصوص؛ النصوص التي هي كشاف معمار مدينة مذهولة عن نفسها.
انشق عن المثلث كي يكون الضلع الأعوج؛ الصديق إبراهيم الكوني مسه سافي الصحاري الليبية، وكضب تنشق من روح الكماء الحياة، ومن يباس المطلق هذا روح الماء. الصديق جيلاني طريبشان المنفي في بوابة جهنم، المقطوع من شجرة الجبل الغربي، امتطى مطية عربية تدعي الشعر، كي يتغنى بالمكابدات وأختها المكائد. الصديق سعيد المحروق احترق بنار نفسه في أتون اللحظة الحجرية، صيره منطوقه الأخرس دون منطق، هو منطق الحجر.
كان الضلع الأعوج الشمالي الهوى، عاشقا لمدينة غير متمدنة، وبهذا تمترس في مواجهة القبلي. وهكذا لن يعرفه غير الدراويش، ولن يعرف غير المشردين الفارين من عقول تشدهم عن مبتغاهم، ساح في الشوارع ككلام الليل ولم يرتض نهار طرابلس الغرب المدجج بجند العجاج ورمال الصحاري الليبية.
سود الورق مرة، ومرة حفظ المزدلفة، ومرة فر من ظله؛ دس روحه في ظلال أبواب بوخوخة وعرصات الجوامع ومظلات الدكاكين، بين سوق الترك وسوق القزارة وقوس ماركوس ونافورة الغزالة. لم تعرف ظلال المدينة مثيلا له في محاربة سيوط الشمس المخبولة من أثر جنون الصحراء الكبرى.
باعتباره شكابلي أي لا زوجة له، سكن في دكان أجرها وصحبه، باعتبارها غرفة فندق حيث توجد الغرفة والفندق لا وجود له. هناك جعل صالونه الأدبي ما يفتح أبوابه كل مساء للسكارى والشعراء، والمجانين من رسامين ومتشردين وغير ذلك. وكان الأدب عنده أي الكتابة نقش الفراغ كي يمتليء بالحياة، الكتابة ليست تدوينا لما يجول في المخيلة وحسب ولكن الكتابة أيضا خلق المخيلة ذاتها، لهذا عد انكسار الضوء علي الأعمدة والأجساد والحيوط والأبواب هو مسرح الظل الذي يستحق المشاهدة.
شغفه بطرابلس الغرب تعدى ذلك؛ جعل من هذه المدينة غير المتمدنة مدنا عدة كلما يحلو له يخرج مدينة من مدائنها؛ يسكنها أو يُسكنها النفسَ ويعدها مدينة الروح. ولهذا عدَ طرابلس الغرب من الجنة لا من الناس، هي مدينة الوعد لا تظهر لغير الأطفال ولغيره باعتباره من الموعودين.
لم يعد نفسه كاتبا و لا رساما و لا من غير هؤلاء. اكتفي بأنه عاشق كل ذلك، وتعشق لذلك طرابلس الغرب كمدينة لا يراها غيره؛ باعتبار أنه مبدعها سربها فيه وجعلها السراب الذي يعني الوجود، هي الضرورة التي لا لون و لا رائحة لها.
رضوان بوشويشة المنطق الطرابلسي؛ منطق الحمامة تشير لكنْهِ الأشياء دون أن تدركها؛ منذ كانت جالبة غصن الزيتون، حتى ساعة حطت علي يد بيكاسو. ومن هذا عجن خلائطه من سرد وتشكيل وكلام في الكلام وشعر، ودراما بوشويشة محرومة ذاتها لأنها تبتغي الذات الكلية.
أُعطى تفاحةً، كذا زميله.
تفاحتان لم يريا مثليهما قبل؛
– هذه الأبهةُ لا تؤكل.
– سأفعل ما فعل أبونا؛
أكل زميلهُ البهاءَ،
فيما احتفظ بتفاحته
تحت مخدته.
بعد يومين فقط؛
– في حملة تفتيش –
اتهمه الحرسُ الغاضب،
بتربية الدود.
هذا هو رضوان بوشويشة
لمن لا يعرفه.
الديك الطرابلسي
قصة : رضوان أبوشويشة
الكدوة- العزيزية القديمة
شتاء 2005
بعد أن تكاثر لصوص المال العام والخاص في ليبيا كغوغاء الجراد في السماء…وانتشروا كجفاء السيل في الأرض أعلن عن عطاء لبناء قرية نموذجية للصوص الليبيين غربي مدينة طرابلس وشرقي واحة جنزور- لإصلاح النفس وتعليمهم العناية بالوطن الظامئ منذ مطلع عصر الجفاف…حين بدأت الصحراء تتعرى على مهل قبل عشرة آلاف سنة تقريبا والذي ما يزال مستمرا حتى الآن…
… بعد اثني عشر شهرا من رسو العطاء… اكتشف الغش في المواصفات / أعتقل الجناة، وأعلن عن عطاء ثان…
… بعد ستة أشهر اكتشف الغش في المواصفات / أعتقل الجناة، و أعلن عن عطاء ثالث…
… بعد شهرين اكتشف الغش في المواصفات / اعتقل الجناة، وأعلن عن عطاء رابع.
وهكذا، وهكذا… انتشرت قرية اللصوص النموذجية…وانتشرت وانتشرت.. ومع الاتساع صار بإمكان الديك الهارب من مطاردة اللصوص أن يقفز على السطوح من طرابلس ليصل إلى جنزور…
وهكذا تحققت في حكايتي ” الديك الطرابلسي ” واحدة من وصايا سيدي عبد السلام الأسمر قدس سرّه..المتوفى قبل أربعة قرون ونصف عن عمر جاوز المائة عام والقائل : “يجيكم وقت ينقز الفروج من اطرابلس ويوصل في جنزور “.
محاكمة رضوان بوشويشة
كنا في الأقفاص ساعة جاء يسعى برفقته امرأة ذات وجه أحمر بنمش مستتر، تبدو قصيرة ولهذا يبدو طويلا، في القفص حيث كنا دار بيننا همس وتخمين أنها زوجته الايرلندية. لماذا أحضروه ولم يقبضوا عليه مثلنا ؟، كان سؤال الغيرة والحسد قد آلم بنا، كنا نعرف أنه موجود خارج البلاد عند القبض علينا كما الجيلاني طريبشان. ولكن لماذا عاد ؟ طرق رؤوسنا هذا من باب الغيظ. انه يرتدي سروالا أمريكيا وقميصا مزركشا، وكانوا ألبسونا بزة عسكرية زرقاء فسفورية مخافة هربنا؛ لاحظنا هذا من زاوية نظر منكسرة. جلس علي كرسي في القاعة، قلنا في دواخلنا هذا ليس عدلا. هو أيضا متهم مثلنا، هو أحد الكتاب بجريدة الأسبوع الثقافي، قبض علي كتاب الصحيفة جمعا، ساعتها لم يكن في البلاد هذا مبرر معقول، لكنه الآن هنا. لم يكتمل مشهد هواجسنا هذا، لأن جلبة حدتث عند إدخال رضوان بوشويشة القفص، حيث اكتمل المشهد بإعلان أحمد الأمين قاضي محكمة الجنايات ابتداء الجلسة.
حكاية تحكى لـ ” منصور أبو شناف ” وبالعكس
إلى خالدة وعلي وسارة ومفتاح
قصة: رضوان بوشويشة
في مقهى ” أويا ” قلت للكاتب منصور أبوشناف :
-“سأحكي لك حكاية حكيتها لي في الطريق من مطعم البرعي إلى المقهى الشرقي قبل ساعة ونصف لو دفعت ثمن قهوتي “…
هَشَّ منصور وعاد بقهوة اكسبريس.. وجلس ينصت :
“… في سجن بورتابينيتو.. [باب بينيتو موسوليني] ” قُطع عنَّا التدخين…بعد أسبوعين حلمت بالسندباد البحّار بطل الرسوم المتحركة يدخل إلى الزنزانة حاملا لي سيجارة رياضي في حجم عمود الكهرباء.
طريد اطرابلس
معشوق الايرلنديات كأنه في دبلن تحقق من شغفه الطرابلسي؛ لقد طردته مدينة القراصنة واللصوص كمراسل لوكالة الإنباء الليبية، هناك في دبلن وجد مدينة الروح، و توكد أنه من جنس البدو حيث في الدم الترحال والسفر والقلق من المكان، لم يطأ دبلن حتى خانها مع أول عابرة سبيل، وكخائن معتد بنفسه شم في العابرة مدينة الوعد.
حين تزوج ايرلندية وأنجب فرح ظن أن الطريق سالكة للعودة، متسلحا بما يحب؛ ريح الشمال التي كان يرمز إليها عند الليبيين الإغريق بحمامة. حمامته الايرلندية كما هامت به هامت بمدينته لكن رضوان لم يخلق ليسكن. في كل مرة يجد مبررا لطرابلس كي تطرده، وفي كل مرة يسوح في الدنيا من غرناطة حتى النروج، ومن باريس حتى روما كان يبحث عن الأفق أفق طرابلس الشمالي.
ولهذا وفيه ضيع أكثر من روح من أرواحه، ليتبين أن مدينته ممسوسة بجنون كاف الجنون وجبال أكاكوس، عندها ترك الحرف وغرس القلم في الرمل، متحولا إلي ريشة، وفي ألوان صحراوية دون حد غرق.
قصص
• بوشويشة لا يعرف كيف يُحِبُ لكنه يعرف كيف يُحَبْ. عادة لا يعرف كيف يصمت لكنه يعرف كيف يتكلم. ود الأصدقاء الخلاص من جاذبية حكيه فاقترح أحدهم أن يزاد نصيبه من الخمر حتى يثقل لسانه. كثعلب لا يثق حتى في مقدراته؛ انسل من الغرفة بفندق البحر المتوسط التي ليس فيها من البحر إلا بوشويشة ذاته. غادر الجماعة إلي غرفته، التي سكنها بحجة مشاركته في الدورة الربعة للمهرجان الوطني للمسرح. هناك غرق في الرسم، وفي اليوم التالي باع اللوحة التي رسم. مر علي جماعة البارحة، يخرج من جيبه مبلغا ويمنحه لواحد منهم، من أصدقائه. قائلا : هذا الملبغ ما استدانته منك البارحة، وهكذا حتى جاء علي ثمن اللوحة. لم يكن استدان أي مبلغ من أي من أصدقائه المفلسين أصلا.
• زاره رضوان في البيت، أكل وشرب واستمتع، لما كان خارجا من علي دروج العمارة، لم يعر الجيران انتباها، صرخ بأعلى صوته : شكرا يا فوزية علي هذا الطعام الشهي، شكرا يا زوجة صديقي الوفية. أراد دفع ما يشعر أنه الدين، ولو في غير مكانه. تذكر الزوجة ذلك؛ كلما نسى صديق التنويه بطبخها.
• جئت طرابلس كي أتمكن من العودة للعمل، بعد سنين عشر قضيتها في السجن، أجول في الشوارع بين مصلحة حكومية وأخري. عند مقهي زرياب عادة التقيه متكئا علي عرصة من عرصات الشارع، بمحاذاة صاحب المقهي محسن كحيل. عندما يراني بوشويشة يختفي، أقف مدردشا مع محسن، فجأة يظهر بيده كيسا يطلب مني أن احتفظ به. يغيب فأعود بالكيس إلي غرفة الفندق. بفضول المستريب الذي غادر السجن في توه، أتفحص الكيس، أجد سندوتشات وعلب سجائر وقطعة شوكلاته وعصائر. أحيانا يمر خاطفا ويضع في كيسي أو جيبي شيئا ما، أفتش فأجد مبلغا من المال. مرة وقفت في مواجهة المقهي مر وبيده أصيص من زهور وضعه في يدي ومسرعا تركني، من بعيد صرخ : هذا لصديقتك أعرف أنك علي موعد. يومها لم يكن لي أن أفكر فيما يحدث غير أني مفلس.
• يوم كانت اطرابلس الدفوف كان رضوان بوشويشة الكمان :
ليلةُ غمرت الغيومُ القمر،
وغنى حسن عريبي،
دمعي جرى.
انسليتُ من النظرة الثاقبة،
اندسستُ وترا في آلة الكمان.
* اخترنا أن يكون هذا المقال للنشر في الذكرى الأولى لرحيل الكاتب والتشكيلي رضوان أبوشويشة.