ومرة التقيت بصديق قديم، منذ عهد الدراسة، منذ عهد الحب، منذ عهد النضال، كم خضنا معا عدة مغامرات عاطفية محكومة بالفشل، سألت صديقي الطبيب على محمل الجد، قلت: عفوا، ما هو اختصاصك بالضبط؟ انا مصاب بمرض خطير، انا أبحث عن طبيب مختص يعالج اصابتي بمرض عاطفي خطير أصبح يهدد حياتي، ارجوك لقد تدهورت حالتي الصحية، لقد تراجعت عن أفكاري النضالية، نعم تراجعت عن علاقاتي العاطفية، اشعر اني مهدد بأزمة قلبية قال: من مهامي بوصفي طبيبا مختصا في حل الازمات العاطفية المعقدة، ان اشخص اولا حالتك بالضبط، حتى اتمكن ثانيا من تشخيص طرق العلاج، يهمني جدا ان اجد لك علاجا ينسجم مع شعورك بانك مهدد بأزمة دماغية، انت مناضل قديم في الحب، اعرف انك كنت ترفع شعارات تمجد أبطال الثورة ضد الاستبداد، اعرف انك غيرت مسار ثورتك، مسار حبك، اصابتك بالحب العذري قديمة، اعرف ان جراحك عميقة، اعرف ان افكارك في الثورة خيالية، اعرف انك تخليت عن ازهار الياسمين، اجل اعرف تاريخك النضالي، كنت دائما تبحث عن حب مستحيل لا يوجد في الواقع، لا يوجد الا في القصص، كنت تحمل افكارا خيالية، تلك الافكار هدامة قد تجعلك تصاب بأزمة دماغية، كم نصحتك يجب ان تتخلى عن ذلك الحب الخيالي او عن ذلك الفكر النضالي، كم دافعت عن افكارك الثورية، كنت متحمسا جدا لأفكارك، اهم فكرة، الحب مقابل الحب، لم يتحقق هذا الشعار في الواقع، لم تستطع ان تصل الى مشروع دولة مفتوحة لا يسكنها الا العشاق، لم تظهر الى الوجود دولة حدودها مفتوحة على الحب من المحيط الى الخليج، دولتك وهمية خيالية، انت تحلم كثيرا، لم اجد مشروعك يتحقق، لا يمكن ان يتحقق الا بمعجزة، الم اقل لك انت تبحث عن حب غير موجود الا في ذهنك،؟ الم اقل لك أنك تبحث عن دولة لا وجود لها الا في عالم المثل، دولة لا حدود لها من الناحيتين الشرقية والغربية، تلك الدولة غير موجودة الا في عقلك الا في قلبك؟ يجب ان تتخلى عن مبادئك النضالية، يجب ان تتخلى عن مبادئك في الحب، بالتأكيد انت ضحية حماسك الكبير، تخليت عن قضيتك السياسية، وهي بناء دولة عربية واحدة من المحيط الى الخليج، تلك كانت قضيتك الاساسية، لماذا تخليت عن ذلك الحلم القومي؟ لماذا اخترت طريقا اخر؟ لماذا اخترت الان ان تدافع عن القضايا العاطفية؟، لماذا غيرت مسارك الثوري؟ انت شخص انقلابي، انت انفصالي متمرد، لا مبدا لك، انت الان على الصعيد الصحي، معرض الى الإصابة بأزمتين، الازمة الأولى، دماغية، على صعيد ما تحمل في عقلك من افكار لا تدل على افكار واضحة، والازمة الثانية، عاطفية، على صعيد ما تحمل في قلبك من مشاعر واضحة الى درجة غامضة، كنت دائما لا تصدقني، كنت لا تعطيني فرصة لإقناعك، كنت متعصبا لدولتك، كنت عصبيا جدا، لقد تطور شعورك بالأزمة، لم يعد هناك حل لازمتك، من الصعب ايجاد علاج لك، انت اصلا لم تجد ذلك الحب، اذن كيف تطالبني بان اجد لك علاجا لمرض تعاني منه وحدك، هو حب من طرف واحد، لا دواء له الا بتفاعل الطرف الآخر معك، انت تحمل على وجهك كل اعراض الإصابة بالداء، مازلت تحمل على لسانك كل شعارات الثورة القديمة.
أمام تجهل الطرف الاخر لمشاعرك، لأحلامك في وطن واحد يسكنه حب واحد، انت بحاجة إلى تصحيح مسار الثورة، انت في أمس الحاجة الى اعلان ثورة مضادة، اقول لك واثقا من نفسي: امام تجاهل الطرف الاخر لمبادئك في النضال او لمبادئك في الحب، يصعب علاجك، لا يمكن علاجك الا اذا اعترف الطرف الاخر بدولتك اي بحبك، وجود الطرف الاخر على الحدود الشرقية مهم حتى تتوسع دولتك شرقا وغربا، نفوذك ضعيف في غياب من يعترف بسيادتك على الارض، كنت تردد دائما شعار “لا حرية لشعب يأكل من وراء البحر”، عفوا صديقي، انا مضطر ان ارسلك الى بلاد بعيدة؛ وراء البحر، حتى تعالج نفسك، دواء مرضك غير موجود محليا، لا بد أن نستورد ذلك الدواء من بلاد اجنبية، تقدمت في مجال الطب، عفوا تقدمت في مجال الحب، تقدمت في مجال صناعة الأدوية الدقيقة، يحتاج التخلص من الحب الى دواء نادر لان الحب على طريقتك، داء وجوده او انتشاره نادر جدا، انت على صعيد المشاعر شخص نادر جدا، لماذا تخليت عن طموحك السياسي؟ لماذا اخترت ان تتورط في طموح عاطفي؟ اذا كان الطرف الاخر غير موجود فالدواء غير موجود، صديقي فاقد الشيء لا يعطيه، وبما انك لم تجد الدواء السحري لحل أزمتك المعقدة الى اليوم، ادعوك بوصفي طبيبا مختصا في علاج الامراض المستعصية، نعم ادعوك الى اعادة النظر في ما تحمل من افكار، ابتعد عنها قليلا، ناقش افكارك بنفسك، كن موضوعيا، ابتعد عن الذاتية المفرطة وانت تناقش نفسك بنفسك، كما أدعوك ايضا الى اعادة النظر في ما يحمل قلبك من مشاعر، ابتعد عن تلك المشاعر قليلا، دع قلبك احيانا لا يشعر، دع عقلك احيانا لا يفكر، نحن في حاجة احيانا الى ان نرفض بعض الافكار، الى ان نتخلى عن بعض المشاعر، كم قلت لك انت تفتقد على صعيد الاحساس بالأزمة الى الدقة، منذ حداثة عهدك، اخفيت حبا ما، طموحا ما، لم تصرح به، تضخم حبك وسط حبك، طموحك وسط طموحك، حتى اصبح مرضا خطيرا، يصنف ضمن الامراض المزمنة، ابحث عن بطاقة علاج لنفسك، عدم التصريح بالحب يا صديقي يهدد الحب نفسه، بل يهدد حياتك نفسها، انا طبيب مختص، انسلخت عن المنظومة العمومية، ابحث الان فقط عن صفقات خاصة، انا اعالج فئة خاصة من المرضى، تقدم بهم الحب، تقدم بهم الاحساس بالأزمة، لا يمكن ان يتراجعوا عن التفكير في حل لتلك الازمة العاطفية، انا لا اعالج الا شخصا اصيب بمرض الحب، كل المرضى في عيادتي يشعرون بالحب ولا يستطيعون تحقيق الحب، بعد شعور بالإحباط، قلت: عفوا وهل هناك دواء؟ اليس لكل داء دواء؟ ابتسم الطبيب في وجهي قائلا: هناك عدة ادوية، لكنها لا تحميك نهائيا من المرض، هي تخفف الآلام فقط، لكنها لا تقضي على المرض مطلقا، قلت له: لا اريد أدوية تقليدية، تخفف الألم ولا تقضي عليه، لا ريد علاجا جزئيا بالمسكنات يكون له مفعول وقتي رجعي، اريد علاجا جذريا يستأصل المرض من جسمي نهائيا، اريد علاجا يحميني الى الابد، ارجوك سيدي الطبيب فكر معي في علاج دائم، اطرق وجهه ثم ابتسم قائلا: الحل بسيط، بيدك، يجب ان تتخلى عن حبك، يجب ان تتخلى عن مشاعرك، لا تفكر في مشاعرك، الان لا توجد الا حقنة مسكنة، تخفف من مشاعرك، لكنها لا تقضي على تلك المشاعر، عفوا الوقاية خير من العلاج، في اقصى الحالات عندما ينتشر المرض في الجسم هناك علاج كيميائي، قلت له مستغربا: الى هذا الحد أصبح المرض خطيرا، قال: اعداد المرضى في تزايد، لم يعد اي انسان في مأمن من هذا المرض، الجميع صاروا عشاقا، الجميع لم يحققوا عشقهم، نسبة كبيرة منهم ماتوا، ونسبة قليلة منهم مازالوا احياء في عداد الاموات، قلت: اذن انت حكمت علي بالموت، لم اعد أصلح للحياة، ما ذنبي اني وقعت في العشق، وقعت في الحب؟ عليك ان تخفف من شعوري بالأزمة، ارجوك انا بحاجة إلى من يرفع من معنوياتي، دورك كطبيب مختص ان تساعد المريض في التخلص من الاحساس بالمرض، دورك يظهر في تحديد المرض، ثم في تحديد العلاج، اعرف ان كل أزمة لها حل، ارجوك فكر في حل لازمتي، لا اريد الموت، مازلت صغيرا لم احقق الحب، عفوا صديقي ما هي اهم علامات الإصابة بهذا المرض؟ قال: هناك أكثر من علامة، لعل اخطرها ارتفاع عدد دقات القلب، ارتفاع نسبة الاحساس بالألم في الرأس، لان الطرف الآخر يتجاهلك. يرفض حبك، يرفض قلبك.
بدا لي كلام الطبيب مقنعا، سيدي الطبيب انا بحاجة إلى تدخل طبي سريع، حالتي متقدمة، لم اكتشف المرض الا متأخرا، لم اجد علامات واضحة تدل على اصابتي، قال: من خصائص هذا المرض انه يهجم على خلايا الجسم مباشرة، لا يعطيك فرصة للدفاع عن نفسك، يفقد الجسم مع مرور الزمن، مع تقدم السن كل المناعة، لا يستطيع المريض ان يدافع عن نفسه، لا أمل له في الحياة، لا يمكن ان يعالج المريض نفسه الا بنفسه، قلت له حانقا: حقا النفس بالنفس والعين بالعين والبادئ اظلم، لكن سيدي الطبيب، ارجوك ساعدني انا وقعت في المرض، نعم وقعت في الحب من نظرة واحدة، لم اشعر بذلك الا فجأة، قال ساخرا: تحمل مسؤوليتك، تحمل نتيجة تصرفك، نظرة فابتسامة فلقاء، انت لم تتبع قواعد الحجر الصحي، لماذا لم ترتدي امام حبيبتك الكمامة؟ لماذا لم تضع الكمامة على عينيك؟ لماذا لم تحم عينك؟ لماذا نظرت بإعجاب؟ ينتقل هذا المرض بواسطة العين، والانف واللمس والذوق، بدأت إصابتك من العين، انت وقعت في نظرة، هي اعطتك الحب، هي نقلت لك الفيروس، ربما نقلته الى شخص اخر من نظرة واحدة او قبلة واحدة، دون ان تشعر بذلك، لا يعطيك هذا المرض فرصة ان تشعر بأنك قد اصبت به، هو يتنقل في الهواء، كل العشاق اصيبوا بالهوى، كلهم ماتوا بسبب الهوى، لم تقاوم المرض بسرعة، لم تقاوم ما امرتك به عينك، خدعتك من اول نظرة، خدعتك من اول ابتسامة، كم دام اللقاء؟ الأكيد ان نظراتك دامت مجرد لحظات، لكن الثابت الان ان المرض سيلازمك الى الابد، انت ستلازم فراشك الى الابد، يجب ان تدخل في حجر صحي شامل، يجب ان يبقى ذلك الحب من نظرة واحدة في زنزانة انفرادية، هذا المرض معد جدا، شديد الانتشار، لا تلمس احدا، لا تتنفس في وجه اي احد، ابتعد قدر ما تستطيع عن الطرف الاخر حتى لا يتكاثر الفيروس، من المؤسف ان عدد الاصابات في تزايد كل يوم، لم يعد هناك اي سرير في المشفى فارغا، كل هؤلاء يحملون نفس الفيروس، من الصعوبة بمكان علاجهم، تقدم بهم المرض، ولذلك يصعب علاجهم، انت وقعت في الحب مرة واحدة، ولذلك يصعب علاجك في مرة واحدة، زيارة واحدة للطبيب لا تكفي، يجب ان تزور الطبيب عدة مرات، حتى يشخص مرضك بالضبط، حتى يشخص لك طريقة العلاج المناسبة، من المحتمل ان يأخذ العلاج وقتا طويلا لان إصابتك بالحب تبدو بليغة، انت تقدمت بك السن، ولذلك ارى أن فرصة الشفاء من المرض الخطير فرصة ضعيفة، لماذا لم تحم جسمك من هذا الوباء من اول نظرة، او من اول احساس بالمرض يتسرب الى عينيك؟ ألم تشعر باحمرار في عينيك؟ الم تشعر بالغثيان؟ انت اضعت فرصة الشفاء، لماذا رفضت التلقيح مبكرا ضد هذا المرض المبكر؟ كنت شابا قويا بإمكانك مواجهة الحب بالحب، والان انت مسن، لا تملك اي وسيلة دفاع عن نفسك، سيلازمك هذا الحب الى الابد، عفوا لا يوجد علاج للأمراض المزمنة، بعد اصرار مني على العلاج مهما كان ثمنه، مهما كانت تكلفته، قال الطبيب: يتطلب علاجك أكثر من جرعة، أكثر من حقنة، هل انت مستعد لكل المصاريف؟، هل انت مستعد لتحمل كل الادوية؟ قلت له: املك دفتر علاج، انا منخرط في منظومة التأمين على المرض، رفضت الانخراط في المنظومة العمومية، قال: انت تجهل ان منظومة التأمين على المرض طويل الأمد، لا تعفيك من خلاص بعص الأدوية المستعصية، لعل من اهمها مرض الحب، هو حسب سلم التصنيفات المصادق عليها من طرف وزارة الصحة من الامراض الخبيثة، لن يتحمل الصندوق مصاريف العلاج لأنك لم تحم نفسك من الوقوع في الحب، لن يتحمل اي طرف مصاريف هذا العلاج، انت وحدك من سيتحمل كل الحب، عفوا كل مصاريف المرض، اعلمك بان مصاريف كل الحقن ان وجدت وهي حسب الاستطاعة، ستكون على حسابك الشخصي، انت ستدفع ثمن ذلك الحب عاجلا ام اجلا، لن تعترف بحبك اي جهة انت مدمن على الحب، علاجك قد يستغرق وقتا طويلا، حتى يحقق الدواء مفعوله، قلت: اذا لم ارفض هذا الحب، اذا لم ارفض هذا الاحساس، اذا لم ارفض حبك، اذا لم أستطع ان ارفض ذلك، ماذا يمكن ان يقع؟ قال: انت لا يحق لك اصلا ان تطالب بالدواء، كيف تقع في الحب دون اذن بالحب؟ كيف تقع في المعصية؟ استغربت من كلام الطبيب المختص في العلاج الكيميائي، قلت له غاضبا: دعني اقول لك للمرة الأخيرة انا لست مسؤولا امام الله عن حب وقعت فيه، هو قضاء وقدر، كان اللقاء صدفة، كان الاحساس غامضا غموض تلك الصدفة، كل الأمراض تأتي بسبب، الا الحب يأتي دون سبب، لا يدل على سبب، لم استطع مقاومته، هو اقوى مني واقوى منك، حتى انت ايها الطبيب لا تستطيع ان تحمي نفسك منه، هو مرض العصر قال: انت لا يحق لك ان تعالج نفسك، انت فقدت كل قرار ولم تعد تملك اي قرار، بعد تشخيص المرض اعتذر الطبيب عن مواصلة الحوار لضيق الوقت، قال: عفوا انا مضطر للخروج عندي حالة أخرى مستعصية تتطلب تدخلا جراحيا سريعا، الحالة تتطلب اجراء عملية استعجالية على القلب، قبل ان ينصرف حاملا معداته الطبية، قلت له: عفوا سيدي الطبيب، اذا كانت الحالة المستعصية تستدعي مني التبرع بالدم او بالأعضاء، هذا رقم هاتفي، هذا رقم الملف، هذا رقم الازمة، انا في خدمتكم، انا على ذمتكم في كل تجربة، انتم بحاجة إلى اكثر من تجربة حتى تكتشفوا تفاصيل المرض، حتى تكتشفوا الدواء، حتى تكتشفوا طرق العلاج، اعتقد اننا نعاني من نفس المرض، من نفس الازمة، هذا المرض عابر للقارات لا يعترف بالحدود، نحن نحمل نفس الحب، نفس الافكار، نحن نحمل نفس السلالة من الدم، اذن يمكن ان اساعدك في اجراء العملية، ستكون ناجحة، اذا فكرت في استئصال الحب في القلب من القلب. اهمل الطبيب عقلي وقلبي، رفض اجراء العملية، رفض ان يفحص قلبي، رفض كل افكاري، لم يعطيني فرصة أخرى حتى أدافع عن حبي، حتى أدافع عن دولتي، كتب لي وصفة طويلة بخط رديء غير مفهوم، كل الأطباء يكتبون الى المرضى وصفات بخط غير واضح، لم أفهم لماذا يتعمدون الكتابة بخط لا يفهمه الا الطبيب، انا لم أفهم الخط، لم أفهم الدواء، ذهبت إلى الصيدلي، طلبت ان يعطيني الدواء، لم يشعر بصعوبة في فهم الحروف المتقاطعة، ضحك في وجهي ثم قال: حسب الوصفة يقول طبيبك المختص، لا يعطى هذا المريض اي دواء، انت ممنوع عليك استعمال الدواء، لعنت الصداقة التي جمعتني بذلك الطبيب، لعنت الدواء، لكن مازلت متمسكا بحقي في الحب، بحقي في العلاج المجاني، اصبحت كل الخطوط غير واضحة اصبحت كل الأهداف واضحة.
انصرف الطبيب المختص على جناح السرعة، انصرف الى بلاد بعيدة، يبحث عن افكار بعيدة، يبحث عن حب بعيد، لم تعد الافكار القومية تستهويه، بعد ايام سمعت انه باع العيادة وقدم ورقة استقالة.