في المجتمعات التي تسود فيها العلاقات العصبوية اجتماعية كانت أم دينية، تتحول قواعد اللعبة الديمقراطية إلى قانون يشرعن ويجذر المحاصصة بين العصبيات على حساب مفهوم المصلحة العامة والمفهوم الديمقراطي لمعنى الأغلبية والأكثرية.
ليس هناك خلاف حول أن الديمقراطية بمعناها الحديث، هي وليدة علاقات اقتصادية واجتماعية تمثلت في تطور طبقة اجتماعية، هي طبقة البورجوازية التي خرجت من رحم مجتمع كانت علاقاته يؤطرها الدين والقرابة والتراتبية الاجتماعية، فكانت الديمقراطية بما تعنيه من حرية سياسية ومساواة هي الوجه السياسي للبنية الاقتصادية الرأسمالية، التي كانت خلف تشكل هذه الطبقة. فالديمقراطية تمثل الوجه السياسي للدولة الليبرالية التي ترتبط في جوهرها بمرحلة تاريخية شهدت نظام طبقة معينة هي البورجوازية.
إذن، الديمقراطية بمفهومها السياسي لا تستطيع أن تحكم العلاقة السياسية في مجتمع تقوم علاقاته على أساس التراتبية الاجتماعية، التي تعنى اللا مساواة أو أساس مفهوم القرابة الذي يعنى العصبة الاجتماعية، ولهذا فإن محاولات تبييئة الديمقراطية في مجتمعات تقوم فيها العلاقات على أساس الترابط العصبوى أوالتراتبية الاجتماعية، بدلا من التقارب الطبقي والفئوي، تلاقي من احتمالات الفشل أكثر من احتمالات النجاح.فلا يكفي رفع شعارات من قبيل، شعب، ديمقراطية، اقتراع عام، لكي يكون هناك محتوى يتناسب معها بالضرورة.
تعتبر الانتخابات من أهم آليات الديمقراطية السياسية المتعلقة بإنتاج السلطة، لأنها هي الوسيلة التي يمكن الاحتكام إليها عند تعارض الآراء والأطروحات، ولهذا فهي تحيل إلى عدة مفاهيم من أهمها مفهوم الأغلبية والأكثرية، مفهوم المساواة، ومفهوم الائتلاف السياسي. ولكن إذا نظرنا لأي من هذه المفاهيم الثلاثة على ضوء المفهوم القبلي فإننا سنجد:
> اولا: يخرج مفهوم الأكثرية والأقلية عن معناه الحقيقي عندما يصطدم بمفهوم القبيلة، لأن ما يجرى أثناء عملية الاقتراع أو الانتخاب ليس تنافسا بين وجهات نظر سياسية، بل صراع عصبوي قبلي تحسمه الأكثرية القبلية بفضل تآزر أبناء القبيلة الأكثر عددا وليس بفضل البرنامج أو الأطروحة الأفضل من وجهة نظر المصلحة العامة وإنما من وجهة نظر مصلحة القبيلة، وفي هذه الحالة يصبح فوز الأكثرية لا يعدو كونه هزيمة قبيلة لقبيلة أخرى وانتصارا لمصلحة القبيلة الفائزة على حساب القبيلة الخاسرة. وعندئذ يخرج مفهوم الأكثرية والأقلية عن معناه كآلية ديمقراطية وظيفتها تبيان الإرادة العامة عند اختلاف الآراء.
لاشك إن هذا المعنى المغاير لمفهوم الأكثرية والأغلبية ينبع من تمحور القبيلة حول نفسها فلا ترى في فوز الأكثرية انتصارا للإرادة العامة بقدر ما هو هزيمة نكراء من قبل خصم هو الآخر لا يعتبر فوزه انتصارا للإرادة العامة بل لأبناء القبيلة.
> ثانيا: يختلف مفهوم الائتلاف السياسي عن الائتلاف القبلي، فالائتلاف السياسي ينطلق من تقارب بين أطروحات وبرامج انتخابية تعكس رؤية وطنية بصرف النظر عن صوابها من خطئها، هذه الرؤية تتضمن ما تعتبره هذه الأحزاب المؤتلفة حلولا اقتصادية وسياسية اجتماعية لإشكاليات وقضايا مجتمعية تمتد على اتساع رقعة الوطن، بينما الائتلاف القبلي الذي يتم تحت مظلة انتخابات ديمقراطية هو عبارة عن اتفاق وتآزر بين قبيلتين أو أكثر في مواجهة خصم قبلي آخر قد يكون هو أيضا ائتلافا قبليا، ولا ينطلق هذا الائتلاف من رؤية وطنية شاملة لإيجاد حلول للقضايا الاقتصادية والسياسية- الاجتماعية التي يواجهها المجتمع ( رغم انه قد تحاول القيادات النخبوية في هذه العصبيات أن تتغطى ببعض الشعارات والأطروحات الوطنية لإخفاء حقيقة أهدافها وتوجهاتها العصبوية، وهذا ما كان يفعله أعوان القذافي من القيادات الشعبية أثناء التصعيدات تحت شعارات من قبيل السلطة الشعبية والمجتمع الجماهيري).
يتصف الائتلاف القبلي بصفتين كلتيهما تتعارض مع الوحدة الوطنية والديمقراطية:
– الصفة الأولى: تتمثل في مناطقية الائتلاف، أي انه محصور جغرافيا في مناطق القبائل المؤتلفة ولا يمتد إلى خارج هذا الحيز الجغرافي المعروف باسم وطن هذه القبائل، وبالتالي فإن رؤية الائتلاف القبلي مناطقية لا تشمل غيرها من مناطق الوطن.
– الصفة الثانية: تكمن في النظرة العصبوية للانتخابات. فالائتلاف القبلي يسعى من خلال العملية الانتخابية إلى كسر شوكة الخصم القبلي سواء كان قبيلة أو ائتلافا مضادا، بالتالي فإن التنافس المفترض بين الأطروحات والبرامج الوطنية تحت المظلة الديمقراطية، يصبح صراعا عصبويا من أجل فوز مرشح أحد العصبيتين، فالناخبون القبليون في مثل هذا الصراع لا ينتخبون أفضل المرشحين من وجهة نظر المصلحة الوطنية، بل يخوضون معركة تحدٍ من أجل النخوة القبلية وشرف القبيلة واسمها التي تتجلى جميعها في المرشح ابن القبيلة الذي يعد فوزه تجسيدا لقوة القبيلة وهيبتها واستئثارها بكل المنافع الناتجة عن هذا النصر.
> ثالثا: مفهوم المساواة في العرف القبلي يختلف عن مفهوم المساواة الوطني، حيث يقوم مفهوم المساواة على قاعدة الندية بين المواطنين في الحقوق والواجبات سواء كانت حقوقا شخصية أو سياسية، غير أنه يستثنى من هذا المبدأ الحقوق المترتبة على نتائج التنافس السياسي على السلطة، فالأغلبية فقط هي التي يحق لها استلام السلطة بينما ينبغي على الأقلية أن تسلم بهذا الحق للأغلبية وتكتفي بدور المعارض حتى يتم التداول السلمي للسلطة وتسير عجلة الدولة حسب قواعد اللعبة الديمقراطية، لكن إذا خضع مفهوم المساواة للعرف القبلي فإنه يحيل إلى معنى لا تستقيم معه قواعد تداولية السلطة ديمقراطيا، لأن كل قبيلة تعتبر نفسها هوية وكيانا مساويا للقبيلة الأخرى بصرف النظر عن الفارق العددي بين الطرفين، فالمساواة في مفهوم العرف القبلي ليست بين مواطنين باعتبارهم أفرادا أحرارا لكل منهم رؤيته وخياراته بحيث تتشكل من التقاء هذه الخيارات إرادة الأغلبية بل هي مساواة مفترضة بين كيانات تقوم على أساس الانتماء العصبوي وليس على أساس الاختيار الطوعي من المنتمين إليها انطلاقا من قناعتهم بأطروحاتها المتعلقة بكيفية الحكم وتسيير المجتمع.
في ظل المبالغة في مفهوم المساواة القبلية يصعب الاحتكام إلى قاعدة الأغلبية والأكثرية بمعناها السياسي لحل الإشكاليات المتعلقة بالسلطة السياسية وممارستها لأن تطبيق هذه القاعدة في مواجهة المساواة العصبوية، ينظر إليه من زاوية المنظور القبلي على أنه مغالبة وتغلب عصبوي وليس تجسيدا لحق الأغلبية التي يمثل رأيها معيارا لقياس المصلحة العامة والقبول بفوزها من قبل الأقلية يعتبر امتثالا للإرادة العامة.
لهذا فإن المساواة في ظل المفهوم القبلي تنتج مصطلحاتها الخاصة بها مثل التوافق، المغالبة وليس الأغلبية والاقلية لأن التنافس لا يجري بين مواطنين متساوين تحترم أقليتهم خيارات أكثريتهم، بل بين كيانات عصبوية كل منها لا يقبل بغير المحاصصة في الغنيمة.