يتساءل كثيرون بشأن المصداقية الواقعية لتقسيم الحركة الأدبية إلى أجيال تتخذ من العقود أساسا لها. فنقول جيل الخمسينيات أو الستينيات، مثلا…
وكنت أعتقد ان هذا التقسيم اضطراري ذو فائدة إجرائية عملية، إضافة إلى أن المفارقة، أو المصادفة، التاريخية، في حالة المنطقة العربية، أعطته بعدا واقعيا صلبا. ففي مقابلة* معي منشورة سنة 2008 قلت ردا على هذا التساؤل “بطبيعة الحال يصعب تقسيم الأجيال [الأدبية] إلى عقود، ولكنني أعتقد أن هذا التقسيم مفيد من الناحية العملية، ولعله من باب المصادفة أن المنطقة العربية تمر بدورة تغيرات كل عشر سنوات تقريبا. فهناك في كل عقد من العقود مناخ عام يضع المنطقة العربية، …، تحت تأثير ظروف جديدة”..
والحقيقة أنه بمراجعة هذا الطرح، من حيث علاقته بالحركة الأدبية في ليبيا، منذ أربعينيات القرن الماضي، نكتشف مصداقيته وواقعيته الواضحة.
فجيل الأربيعينيات من الأدباء الليبيين، الذين ولدوا بين نهاية العشرية الأولى من القرن العشرين وبداية العشرية الثانية منه، كانوا قد عايشوا، مع بداية طفولتهم، الظروف التي أحدثها الاستعمار الإيطالي، خصوصا الحقبة الفاشية منه، في ليبيا من عمليات المقاومة ضده، والاقتلاع والتشريد والهجرة وضنك المعيشة وعمليات الإبادة المتمثلة في المعتقلات الجماعية (1929- 1934) في شرق البلاد. وما من شك في تأثير كل هذا على نفسياتهم ورؤيتهم لواقعهم والعالم وتأثيره، بالتالي، على كتاباتهم وانعكاسه فيها بشكل مباشر أو غير مباشر.
أما جيل الخمسينيات، الذي ولد معظم أدبائه أواسط العشرية الثالثة (العشرينيات) من القرن الماضي، فقد شهد أفراده، في طفولتهم الباكرة، طرفا من أعمال المقاومة والإبادة أو سمعوا عنها أو تربوا في المهاجر، ثم عايشوا ميلاد الدولة الليبية الحديثة، دولة الاستقلال، التي غذت آمالهم وطموحاتهم وتفاعلوا مع نجاحاتها وإخفاقاتها. كما أن وجدانهم لابد أن يكون قد تعرض إلى الاهتزاز بسبب النكبة التي أدت إلى تنصيب دولة إسرائيل في فلسطين.
بالنسبة إلى أدباء جيل الستينيات، مواليد نهايات الثلاثينيات وبداية الأربعينيات، فلا بد أنهم قد وقعوا، على المستوى الداخلي، تحت تأثير المردود الاقتصادي، وبالتالي الاجتماعي، الذي أحدثه تصدير النفط، وعلى المستوى الخارجي كانوا عرضة لتأثير تيارات المد القومي العربي التحرري، وحركات التحرر القومي العالمي في آفريقيا وآسيا، وتأثير الفكر الماركسي.
جيل السبعينيات من الأدباء الليبيين، عايشوا التطورات السياسية والاجتماعية التي أحدثها النظام العسكري الجديد الذي توطد بعد نهايات سنة 1969 وممارساته القمعية. وعلى المستوى العربي مست مشاعرهم إحباطات هزيمة تحالف الدول العربية أمام الدولة الصهيونية سنة 1967، ولم تفلح حرب أكتوبر في القضاء على هذه الإحباطات، كما استمرت تأثيرات حركة التحرر العالمي والفكر الماركسي. وفي المقابلة المشار إليها خصصت هذا الجيل، الذي أنتمي إليه، والذي يسميه البعض جيل الوسط*، بشيء من التفصيل في الحديث عن الظروف التي اكتنفته وانعكاس فاعليتها على توجهه الأدبي، حيث قلت:
إذا ما تصفحنا الكتابات الأدبية الليبية في السبعينيات لوجدنا خصائص معينة تجمع هذا الجيل، …، ويمكن أن أشير هنا إلى اهم نقطتين في اعتقادي. النقطة الأولى هي أن هذا الجيل، …، كان يحارب فنيا وأدبيا على جبهتين. الجبهة الأولى هي جبهة بعض التيارات اليمينية القائلة أن لا علاقة للأدب بالسياسة والآيدولوجيا (وهم يتخذون هذ الموقف ليس بناء على قناعة، وإنما كتكتيك في وجه التيارات اليسارية). والجبهة الثانية هي جبهة الأنظمة والتيارات الشعبوية التي تريد أن تجند كل شيء، ليس لصالح المشروع السياسي، وإنما لصالح الشعار السياسي، وتريد الزج بالخطاب السياسي المباشر في الأدب”.
وبخصوص الموقف الفلسفي والتوجه الجمالي لأدباء هذا الجيل قلت:
“وقد وقع هذا الجيل بين سندان الاتجاهات اليمينية ومطرقة الأنظمة الشعبوية، لأنه كان يقول التالي: إن أي أنتاج فني أو أدبي هو، في المحصلة، إنتاج آيدولوجي ويصب في رؤية سياسية وآيدولوجية معينة، ما دام يحمل تصورا عن الحياة و العالم و يتخذ منهما موفقا، إلا أن هذا الجانب الآيدولوجي أو السياسي لا يدخل إلى الأدب والفن بما هو آيدولوجيا أو سياسة، أي بشروط الخطاب الآيديولوجي والسياسي، وإنما بشروط الأدب والفن ويمر بعملية تقطير يجريها عليه العمل الأدبي أو الفني من حيث هو عمل جمالي يستهدف المتعة الجمالية. كان هذا الجيل يناضل كي يشق طريقه بين هذين التيارين اللذين يبدوان متعارضين، لكنهما متفقان، في الحقيقة، علي محاصرة هذا التيار وقمعه.
النقطة الثانية التي ميزت هذا الجيل هي تركيزه، سواء في الشعر أو القصة أو الرواية، على مسألة القهر والقمع السياسي وأيضا القمع الاجتماعي، من خلال إعلائه من شأن الحرية الفردية والكيان الفردي وحق الفرد في الاستمتاع بالحرية على المستوي السياسي، وعلى المستوى الاجتماعي في إقامة علاقات إنسانية طبيعية لإشباع حاجاته العاطفية وما إلى ذلك”.
لا يسمح المجال هنا باستعراض خصوصيات أجيال الثمانينيات والتسعينيات وعشرية الألفية الثالثة الأولى وعشريتها الثانية، وأعتقد أن في ما أوردناه أعلاه دليلا كافيا على سلامة تقسيم ملامح الحركة الأدبية الليبية إلى عقود بحيث نلاحظ في كل عقد بروز ملامح جديدة على وجهها. لكن هذا لا يعني حدوث قطيعة بين أجيال هذه الحركة، وإنما يعني أن ثمة تطورا وتواصلا مستمرين.
بوابة الوسط | الأحد 26 سبتمبر 2021
* الذين أطلقوا هذا المصطلح يعتبرون أدباء عقود الأربعينيات والخمسينيات والستينيات جيلا واحد، هو الجيل الأول المؤسس للحركة الأدبية الليبية المعاصرة. ويعتبرون جيل السبعينيات من هذه الحركة “جيل الوسط” الذي ظهر بعده أدباء الثمانينيات والتسعينيات وعشرية الألفية الثالثة الأولى.