النقد

جرأةُ البوحِ وعذوبةُ النصِّ (كُنْ قَمَراً مُرْتَعِشاً)

ديوان كن قمرا مرتعشا في بياضي للشاعرة غادة البشتي

(1)

(كُنْ قَمَراً مُرْتَعِشاً)(1) بهذا العنوان المثير يحلق بنا ديوان الشاعرة الدكتورة غادة البشتي منذ المصافحة الأولى في فضاءات العلاقة الوجودية للكينونة الإنسانية مع طبيعة صفة الارتعاش بحالاتها وتقاطعاتها المختلفة، وهو مدخل فكري فلسفي للغوص في جماليات العتبة النصية، وقدرتها على تفجير طوفانٍ من كوامن أسئلة عميقة ترتقي بمستوى النص الإبداعي. فالارتعاش هنا إحالة لمفاهيم التردد والاهتزاز والجبن والخوف بكل مدلولاتها غير الإيجابية وانعكاساتها وتأثيراتها، وبالتالي فإن العنوان يطرح تساؤلات عديدة أبرزها لما يا تُرى تنشد الشاعرة الرقيقة هذه الصفات السلبية لقمرها أي بعدم الثبات والاستقرار؟ ولماذا لا تريده أن يكون قمر منيراً أو جميلاً أو مبتسماً؟ وأي نوع من ظواهر الارتعاش ترمي إليها؟ هل ارتعاشة مسارات أشعة الضوء وارتداداته؟ أم ارتعاشة المشاعر العاطفية والأحاسيس الوجدانية لحظة تخلّق النصِّ الشعري في كيانها الحسي وعقلها الباطن وتفاعله مع نبضات قلبها، أم ارتعاشة الروح المرهفة أثناء لحظاتها الحميمية الفارقة التي تسمو بكيانها الجسدي بكل أطرافه وحواسه؟

لقد منحت المفردة النعتية (مُرتعِشاً) فضاءات ايقاعية موسيقية وبصرية لافتة لغلاف الديوان المثير ونصوصه بكل ما تحمله من تفسيرات قد تحمل مضامين غرائبية ومفاجآت دلالية، وظلت تستحضر في الأذهان العديد من صور الارتعاش في الشعر العربي فتتداعى قصيدة (ارتعاشة) للشاعر السعودي الدكتور فواز بن عبد العزيز اللعبون التي يختتمها ناهياَ وحاثاً زهرته بعدم الارتعاش وهو نقيض بيّن لطلب شاعرتنا ومعاكساً تماماً لرغبتها رؤية قمرها:

 يَـا زَهْرَتـي فـي عَـيْشِنـَا فُسْحَــــــةٌ

  فَـحَــــــاذِرِي أَنْ تَـيْــــــأَسِـي وَأْمـُـــلـي

 هَذَا نَمِـيْرُ الـحُبِّ مَـا فـَـاضَ مِـنْ  

مَــعِـــــــــــيْــنِـهِ إلاّ لِــــــكـَــيْ تـَـنـْـهَـلـي

 ضُـــــــمِّي إلـَى كـَـفــِّـكِ كـَـفــــِّـي ولا

تَرْتـَعِـــشِي.. فَالــدِّفءُ فـي أَنـْـمُـلي(2)      

وكذلك الشاعر العربي الكبير أمل دنقل حين يصف كيانه الوجودي بالارتعاش في مشهد قصيدته (ظمأ .. ظمأ):

(مرَّ بِي غَاسِلُو الطُرُقاتِ

فَأَدَارُوا خَرَاطِيمَهم، غَسَلوا النُصْبَ الحَجَرِيَّ ..

وَكُنْتُ عَلَى الدَّرَجَاتِ

أَتَأوَهُ مُرْتَعِشاً

وثيابي تلتصقُ في جسدي المضطربِ

الرِّياحُ تهبُ .. وتصفعني بالعواء)(3) 

كما نجد الشاعر العراقي بدر شاكر السياب في رائعته (أنشودة المطر) يضمنها ارتعاشة فصل الخريف حين يغازل حبيبته ويصف عينيها الجميلتين مستخدماً ظواهر ومواسم الطبيعة الخلابة:

(كأنَّمَا تَنْبُضُ فِي غُـورِيهِمَا، النُّجُومْ…

وَتَغْرَقَانِ فِي ضَبَابٍ مِنْ أَسَىً شَفِيفْ

كَالبَّحْرِ سَرَّحَ اليَدَيْنِ فَوْقَهُ المَسَاء،

دِفْءُ الشِتَاءِ فِيهِ وَارْتِعَاشَةُ الخَرِيفْ)(4)      

إنَّ كل هذه القرائن والمقتبسات دليل يؤكد بأن مفردة (الارتعاش) ومشتقاتها اللغوية العديدة ليست غائبة عن ديوان الشعر العربي بل نجدها ذات حضور وافر، وإن ظل تموضعها ومعناها متفاوتاً وفق الحالة التي تتجلى فيها الصورة الشعرية، إلاّ أن شاعرتنا اختارت أن تجعلها في ديوانها جزءاً من العتبة النصية الأولى بتأويلات متعددة.

(2)

يقول الفيلسوف الألماني نيتشه (كُلُّ الأشياءِ خاضعةٌ للتأويل، وأيًّا كان التأويلُ فهو عملُ القوةِ لا الحقيقة)، وعلى هذا النهج فإنه عند مطالعة نصوص (كن قمراً مرتعشاً) لابد من التوقف أمام بعضها وقفات تمعن وتأويل تلامسها فتتعجبُ وتنبهر بها أحياناً، وتقترب منها في آحايين أخرى، وقد تلتصق بها كذلك في غوص أعمق لصورها الظاهرية المباشرة أو تأملاً فيما توارى بعيداً عن مفاهيم الذات القارئة، سعياً لاسكتشاف بعض بواطنها الخفية.

فرغم أن معظم نصوص الديوان قد طغت عليها جرأة البوح العاطفي الوجداني الخاص فبدت زاهية كوردة ربيعية نضرة عارية الروح تداعب قطرات البلل في انتشاء ودلال، ورغبة طافحة لمعانقة بهائج الحياة بكل لذائذها ورغائبها، فإنها لم تخلو من الموسيقى والأسطورة واللوحة الفنية التشكيلية وطوفان الأسئلة الهادرة التي تتفاوت بين عفويتها البسيطة وفلسفتها العميقة. ولا شك بأن كل هذا الثراء يجعل النص الشعري عند الشاعرة يكتنز بالكثير من الجماليات، ويسمو بقارئه إلى عوالم أرحب، وفضاءات انبساط شفافة نقية لا رياء فيها ولا تصنع. فالصورة الشعرية لدى الشاعرة غادة البشتي حين نتأملها بعناية نجدها تكتظ بعناصر اللغة والتكثيف والبلاغة والإيقاع والمضمون الإنساني الذي تطلقه زفرات أنثى تنحاز إلى جنسها الرقيق وإنسانيتها النبيلة بكل ثقة وتحدي وبراعة، إضافة إلى مواكبتها لمسيرة الحياة بجميع أوجهها، وللنشاط الثقافي خاصةً وتعالقها مع الكثير من مناشطه وإبداعاته مثل الغناء والموسيقى ولوحات الفنون التشكيلية التي نالت نصيباً في نصوص الديوان.

(3)

اختارت الشاعرة الدكتورة غادة البشتي أن يكون نصها الأول الذي تستهل به ديوانها (كُنْ قمراً مُرتَعِشاً) رسالة صريحة مفعمة بالأنانية اللذيذة التي لا تتنازل عن حق التملك الإنساني المستحق، ولا تتهاون معه في علاقات الحب الصادقة المتأسسة على المشترك العاطفي وقيم الحياة الإنسانية السامية. وهي حين تهتف بحبيبها وقمرها (كُلُّ عَامٍ وأنتَ لِي) فهي في ذلك لا تخالف العشاق والمحبين الحقيقيين الصادقين في مشاعرهم وإعلانهم الصريح والجريء، بل تعبر عن حق من حقوق العلاقة العاطفية في إطارها الإنساني الشامل، وتوضح الكثير من جوانبها في ثنايا تفاصيل النص الذي جاء في ثمانية مقاطع قصيرة تفصلها لازمتها المتكررة سبعة مرات (كُلُّ عَامٍ وأنتَ لِي) مما يؤكد مدى الإصرار وقوة الغيرة المشروعة بين المحبين، ومع كل تكرار تتعدد صور المشاهد التي تعزز غاية الشاعرة وهدفها من رسالتها وذلك باستعمال أفعال ماضوية تكتسي طابع الاستمرارية والتجدد والتواصل ظهرت متسلسلة (تقِّبلُ النَّهار، تضيءُ شمعة، تنعشُ يومي، تستيقظُ، تتفقدُ، تفتحُ، تقرأُ، تشربُ… وغيرها) لتنسج صوراً وصفية بلاغية مليئة بالحضور المتناسل في أحداث اليومي، وفضاءات الحياة المشتركة بين العشاق والمحبين. ثم تتحور لازمة النص لتصبح (كُلُّ عَامٍ وَأنتَ أَنْتَ) لتضفي على النص هويَّة الطيف/ القمر/ الحبيب المخاطب ليس ابتعاداً وانفصالاً من الذات الشاعرة الناطقة عنه، وإنما تفرداً واعتزازاً بتلك الهوية وخصوصياتها مع التشبت بها بكل الوله والعشق والمحبة، ثم تزداد لازمة النص تعدداً وتنوعاً، ليصبح الثنائي متوحداً في كيان المحبة (كُلّ عَامٍ … أَنْتَ… وَأَنَا……. حَبِيبَتُكَ) وهو ما يجعلها ثلاثية جامعة للمتكلم والمخاطب وصفة العلاقة الحبية بينهما، في صورة تكتسي الكثير من التلاحم والشفافية والجمالية التكوينية:

(تُقَبِّلُ النَّهَارَ وَتهْدِيهِ لِي

تُضِيءُ شَمْعَةَ الْكَلامِ تَحْتَ جِلْدِي

تُنْعِشُ يَوْمِي بِتَفَاصِيلِ اللِّقَاءِ القَادِمِ

كُلّ عَامٍ وَأَنْتَ لِي .. )(5)

وحتى يصل النص إلى خاتمته الجميلة الغارقة في التدلل والانبساط يزداد اتساعاً وشموليةً وبوح عاطفي صريح:

(تَبْحَثُ لي عَنْ هَدِيَّةٍ وَترْجِعُ بِك..!

كُلّ عَامٍ وَأَنتَ أَنت..

تُعَلِّقُك هَدِيَّةً بِشَجَرَةِ عَامِيَ الْجَدِيدِ

كُلّ عَامٍ …

أَنْتَ… وَأَنَا……. حَبِيبَتُكَ)(6)

(4)

ما يلفت الانتباه في ديوان (كُنْ قمراً مُرتَعِشاً) للدكتورة غادة البشتي أنه جاء غزيراً بالعديد من العناصر الفنية المؤثتة للصورة الشعرية في معظم نصوصها الرقيقة والتي يمكن الإشارة إليها هنا بشكل عابر وبسيط كالتالي:

الشاعرة والقاصة غادة البشتي
الشاعرة والقاصة غادة البشتي

أولاً: السؤال

من بين وظائف السؤال هو استدعاء المعرفة أو ما يؤدي ويقود إليها، بالإضافة إلى إثارة بعض مشاعر الاستفزاز أحياناً أثناء أجواء المغازلة والمشاكسة والتدلل بين المحبين والعشاق. وفي (كُنْ قمراً مُرتَعِشاً) تموضع السؤال بأماكن مختلفة في نصوصه الشعرية، حيث نجده تارةً متصدراً رأس النص وعنواناً له في أربعة نصوص هي (ماذا ستقول لها ..!؟) و(أتحتاجني هذا المساء؟) و(ماذا لو أتانا؟) و(لمَ أنتِ جميلة هكذا؟)، وتارة أخرى كان مفتتحاً واستهلالاً له منذ السطر الأول مثل قصيدة (بالنهار العابر إليك):

(هلْ أَخْبَرْتَ حيّنا أَنَّكَ مُهاجرٌ غَدًا!

وَبِأَنَّ قَلْبَكَ سَيَخْذُلُكَ!؟)(7)

وكذلك منزرعاً في ثنايا النص وبين سطوره مثل:

(لا ينفكُّ يساَلُنِي:

” لِمَ اَنْتِ جميلةٌ هكذا؟ “)(😎

وأيضاً :

(كيف – تراه – يُستعادُ القمرُ؟

بعد أن أخطأتني حظوظه؟)(9)

كما أن الشاعرة استطاعت أن تحيك السؤال بنسج خاتمة استفزازية لذيذة في نهاية النص بشكل يضفي عليه الكثير من الجاذبية والإيقاع الذي لا ينهي الشعر عند حد معين، بل يجعله متواصلاً ومستمراً إلى ما بعد انتهاء النص:

(وَعَدْتَنِي..

 أَنْ نَسْكُنَ بِقَرَارَةِ “هَوَا فْطَيح”

مَوْئِلُنَا الأَوَّل

هُنَاكَ لا جَدْوَى مِنْ سُوءِ الْبَشَرِ..

أُعِدُّ لَكَ إِفْطَارَ كُلِّ النَّهَارَاتِ

مِنْ خِزَانَةِ مَلابِسِي الدَّاخِلِيَّةِ..

نَمْرَحُ كَطِفْلَيْنِ ..

تَغَيَّبَا عَنْ يَوْمٍ دِرَاسِيٍّ مُمِلٍّ..

نُشْعِلُ سَجَائِرَ اللَّيْلِ بِفَمِ الحَكَايَا

لَيْلَةَ..

يَكُونُ ذِهْنُ القَدَرِ فَارِغًا مِنَّا تَمَامًا

 كَكَأْسٍ أَلْقَتْهَا يَدٌ ثَمِلَةٌ..

مَا رَأْيُكَ أَنْ ننْسَى هَذَا كُلَّهُ ..

وَنجْلِس قُبَالَةَ بَحْرٍ لا يَعْرِفُنا

كَجَزِيرَةٍ صَغِيرَةٍ..

وتكون مَلابِسنا ريقهُ الأَخْضَر

وَنجْمَع وُعُودَكَ الكَثِيرَةَ ..

مِنْ بَابِهِ الخَلْفِيِّ ..!؟

مارأيكَ أنْ..!!؟)(10)

لقد ظل السؤال عند الشاعرة غادة البشتي ينهمر كشلال هادر أو مطرقة صلبة تقرع العقل وتوقظه لنبذ الكسل للتأمل والبحث والسعي للوصول إلى بعض المعرفة وشيء من اليقين الفكري والاطمئنان النفسي، وعملت لازمتها المتكررة بهذا النص (ما رأيك أن ..!!؟) على جعل خيارات قمرها براحاً مفتوحاً يمنح القاريء القدرة على وضع احتمالاته وتخمينه لمحاولة اقتناص بعض ما ترمي إليه الشاعرة من رغبات وإجابات ومقترحات تلبي غايات قلبها.

ثانياً: الأسطورة

تعد الأسطورة رافداً من روافد إثراء النص الإبداعي حين يتم استدعاءها من عبق الماضي وتوظيفها لرؤية وفكرة المبدع في الزمن الراهن. وقد ظهرت بشكل علني وصريح في ديوان الشاعرة غادة البشتي (كُنْ قمراً مُرتَعِشاً) في نص (عباءة إريوس) الذي يسمي منذ عنوانه الأول إلهَ الحُبَّ والرغبة والجنس البطل الأسطوري (إيروس) في الميثولوجيا اليونانية ومماثله (كوبيدو) في الرومانية. والإيروس كما يعتبرها الفيلسوف اليوناني الشهير أفلاطون بأنها القوى العظمى التي تحرك النفس نحو مكامن الخير في الذات الإنسانية كما أنها المستوى الوسطي بين المعرفة والجهل، باعتبار أن أفلاطون يرى الإنسان الذي لا يشعر بالنقص المعرفي لا يمكنه أن يحب الحكمة، وينحاز إلى القيم النبيلة. وقد وظفت الشاعرة هذه الأسطورة خلال حوارية قصصية تأسست على تقنية المقاولة والمحاورة المتخيلة بين الذات الشاعرة الناطقة وطيف حبيبها/ قمرها في استحضار تاريخي بكل ما فيه من دلالات مشتركة تعبر عن الحلم والرغبة، وأخيلة تصور مضامينَ الصورةِ الشعريةِ الشاملةِ، وجمالياتٍ تقنيةٍ فنيةٍ يصوغها الإيقاع في إطار موسيقى النص الظاهرة والخفية:

(قلْتَ:

سَتأتِينِي بسُفنِ كيُوبيد

تحْمِلُ تأَهُّبَ الْحُبِّ فِينا

قلتَ قريبًا:

سَاَحْمِلُ لَكِ عِظَامِي كامِلةً

أُطَرِّزُكِ بِأَحْلاَمِ الْمَلاَّحِينَ الدَّافِئَةِ

وَتنامِينَ مَسَاءً ناعِمًا عَلى شُطْآنِي

قنلْتَ:

سَألْبَسُ عَبَاءةَ إِيرُوس وَآتِيكِ

نُمَارِسُ الْعُبُورَ لِداخِلِي..

بِأَكْدَاسِ الآَهَاتِ المُحْتَرِقَةِ

وَالاُمْسِيَات الْمُوَجَّلةِ)(11)

ثالثاً: الموسيقى

الموسيقى لغة عالمية تغذي الروح وتطرب النفس وتراقص القلب وتهز البدن، تمنح نغماتها الساحرة الكيان الإنساني طاقة وقدرة على التعبير عمَّا لا يمكنه التحدث عنه بالكلمات وكذلك لا يستطيع كتمانه والسكوت عنه. وإنطلاقاً من هذا المفهوم العميق لأهمية الموسيقي في الحياة، ودورها في إمتاع النفس البشرية وطَّنت الشاعرة عالمها الشعري بالعديد من العناصر الموسيقية بشكل ثري متعدد، وبذلك أبانت عن إنسانيتها الرحبة التي تتخطى حدود الإقليم الجغرافي المحدود -أياً كان اتساعه- سواء من حيث اللغة أو النوع الموسيقي الثراتي والحديث المتجدد المعاصر أو مصدره. كما نجدها جعلت بعض نصوصها تنتمي صراحة إلى عالم الموسيقى الفسيح وذلك من خلال العناوين التي اختارتها لها مثل (على موسيقا مونامور) إشارة إلى المقطوعة الموسيقية الشهيرة (Mon Amour) للفنان الإسباني الشهير جواكين رودريغو وترجمتها العربية (حُبِّي)، وقد ازادنت سطورها بتضمينها الإشارة إلى الروماني فالنتين قديس الحب عند العشاق:

(حَبِّيبِي ..

مُسْتَقِيمٌ جِدًّا

لاَ يُؤمنُ بفالنتاين

وَلاَ بأفروديت

وَاِبْنِهَا ..

وَلاَ تُدْهِشُهُ

موسيقا مونامور

يُلون التَّأرجحُ أنفاسَهُ

بينَ طِيني وَسمَاهُ ..)(12)

وكذلك نصها (غَنِّ لي) الذي جاء دفقة وجدانية في لحظة تجلي تخاطب عصفور قلبها وطيف قمرها وحبيبها، لتنشده وترجوه أن يغني لها، وهي رغبة تشي بأن الغناء والصوت الرقيق قد يبعث فيها بهجةً وراحةً تهدهد روحها العطشى:

(غَنِّ لِي..

لِترْقنصَ لَيْلتِي بتنُّورَتِهَا القصِيرَةِ

عَلى شوَاطِئك السَّمْرَا وَتتسَلَّق حِبَال قاربك المُضِي ..)(13)

 وأيضاً استحضار أغنية (أمانة عليك) للفنان كارم محمود وأغنية (الدلعونا) من التراث الفلكلوري والدبكة الشامية، والأغنية الشبابية (شيك شاك شوك) ذات الإيقاع السريع الراقص. كل هذا التنوع الفني يؤكد بأن روح الذات الشاعرة تنتعش بالأغنية كلماتٍ ولحناً وإيقاعاً، وتتماهى حد الانصهار والذوبان في نغمات الموسيقى بكل أطيافها وألوانها لإيمانها بأن الفن والطرب هو الغذاء الروحاني الذي يبعث طاقة إيجابية في الذات الإنسانية المرهفة.

رابعاً: اللوحة التشكيلية

يقول الفنان التشكيلي العالمي بابلو بيكاسو (كل طفل فنان، المشكلة هي كيف تظل فناناً عندما تكبر) ويبدو أن الشاعرة قد استطاعت أن تحافظ على حسها الفني الرفيع وعشقها الذي لا يتوقف للفنون البصرية والسمعية، وكأني بها تغسل روحها من غبار الحياة اليومية بهذه الألوان الفنية المتنوعة. وعلى غرار الأسطورة والموسيقى تظهر اللوحة الفنية التشكيلية موضوعاً في نصوص ديوان (كن قمراً مرتعشاً) من خلال قصيدتها (اللَّلاَّ) وهي تقتبس عنوانها من لوحة تشكيلية رائعة بذات الإسم للفنان التشكيلي عبدالرزاق الرياني تصور سيدة ليبية ترتدي اللباس التقليدي الليبي جالسة على كرسي بكامل تلقائيتها ونظرات عينيها التأملية البعيدة. وقد أبدع الفنان الرسام في إبراز تفاصيل دقيقة في لباس السيدة وملامح وتقاسيم وجهها الجميل وظفائر شعرها المتدلية وحذاءها المستريح من القدمين العاريتين وعناء المشاوير، وبعض قطع حليها، ويبدو أن جماليات اللوحة قد اخترقت كيان الشاعرة فاختارتها موضوعاً للتعبير عما لمسته في رسالة اللوحة من قيمة فنية وإنسانية وجمالية لدرجة أنها تمنت لو تنال حظاً برسمها مثل تلك اللوحة، ونشرت رغبتها في نصها الشعري وهي تنادي في تكرار جميل (أُرسمني) ستة مرات وبإلحاح صريح متواصل:

(” للّا..”

بعَيْنيْنِ مِنْ صَفْصَافٍ

وَقدمينِ عَاريَتيْنِ منَ النُّجُومِ

وَنهْديْنِ وَحِيديْنِ.

اُرْسُمْنِي ..

عُشْبًا عَلى ضَوْءِ هَمْسٍ

مَقْعَدًا حَالِمًا ..

يُصْغِي لِوحْدتِهِ الأَنِيقةِ

نافِذةً بِكْرًا رَبيعيَّة التَّفاصِيلِ..

نشْوَةً نحِيلة المَلامِحِ.

هَيَّا ارْسُمْنِي

قدرًا يَتَّسِعُ لِكِليْـنا

مُضِيئًا كوَجْهِ حارتِنا العَتِيقة..

اِنْسِكابًا رَقِيقًا بحَظك..

وَهُدوءاً مُوَجَّلَ التَّوَجُّسِ

سَفرًا بَعِيد الحَقائِب ..

اُرْسُمْنِي..

سُؤالاً لا يَسْتجْدي اليَقِينَ

سَرْجًا يَخونُ الرَّحِيلَ..

سِرًّا يَحُرُسُهُ قمِيصُك..

وَدَرْبًا صَاعِدًا لِنوَافِذك

اُرْسُمْنِي ..

أَرْضاً لَمْ يُبَاركْهَا الاَلَمُ

وَشجَرَةً لا يَسْكُنُهَا سِوَى الصَّبَاح ِ..

اُرْسُمْنِي ..

اِمْتِلأً مُتْرَعًا بشوَارعِك

لَذَّةً مُوَاربَةً بتقْوَاك..

نزْقَ مَسَاء يَلْوي عَصَا المُدَّعِينَ

اُرْسُمْنِي ..

قبْـلةً شاسِعَةً عَلى فمٍ لا يَنْتهي

جُمْلةً مَسْكوكةً

عَلى وَجْههَا الاَوَّل (أُحِبُّكِ ..(

وَعَلى وَجْههَا الآخر …

أُحِبُّكِ أَيضًا ..)(14)

ولم يقتصر حضور التشكيل على لوحة (الّلاّ) فحسب بل نالت رسومات الفنان التشكيلي الكبير الأستاذ علي العباني نصيباً في ديوان (كُنْ قمراً مُرتَعِشاً) حين أسكنتها الشاعرة نصها (جدارية عبانية) بلازمتها المتكررة (مُدَّ عينيك) وهي دعوة للتأمل وقراءة معاني ودلالات خطوط الرسم ومسارات الألوان فيها وما تحمله من مضامين إنسانية تتأسس على المفهوم الذي يتبناه الفنان الكبير علي العباني والذي يقول بأن (المضمون في الفنون التشكيلية ليس قيمة أدبية .بل هو  قيمة  بصرية جمالية مجردة !!.) :

(مُدَّ عيْنيك

“جداريَّةً عَبَانِيَّةً” عَلى حَائِط جِرْمَة

مَلِيئَةً بالنَّوَافِذ المُشْرَّعَةِ عَلى المُمْكِنِ

عَمُودَيْنِ يُفجرَان سَمَاءنا الثَّامِنَة

حَقْلاً يُغادرُهُ ضَمِيرَ الفلاَّحِينَ

قبْلةً ناِعمَةً عَلى خد العَصَافِير

سَاعَة السَّحَر ..)(15)

الخاتمة:

جاءت نصوص وعناوين ديوان الشاعرة الدكتورة غادة البشتي (كُنْ قمراً مُرتَعِشاً) منتمية إلى تقنيات ومضامين الحداثة الشعرية سواء في متونها أو عناوينها التي ظلت تتلبس مضامينها الإنسانية الشاملة وأغراضها العاطفية الوجدانية الخاصة بكل جدارة مثل (فك أزرار الوسائد) و(لا توقف رعشة المحاريث) و(تتعرى بقدومك أحرفي) و(أتركها للتساهيل) و(السرير صار شاسعاً) وبعضها يتتابع ظهور العناوين فيها كحوارية بين نصين منفصلين مثل (تتعرى بقدومك أحرفي) و(بعطرك تهدِّي وسادتي!!) وكذلك (تعدني أن تأتي) و(أُحبُّ أنْ أعِدكَ).

كما أبانت الشاعرة في نصوص ديوانها تعالقاً واضحاً بين الشعر وأجناس أدبية وفنية أخرى مثل الأسطورة والأغنية واللوحة الفنية التشكيلية، واستطاعت استنطاق وتوظيف تلك الروابط في متون نصوصها بفاعلية، لم يظهر عليها أي عبء أو تكلف سواء من ناحية مضمون النصوص أو رسائلها المتعددة التي ظلت تبتعد كلياً عن الشأن السياسي أو شعر المناسبات الوطنية أو الدينية، ولكنها أخلصت التعبير عن حالات عاطفية صرفة غمرت لحظاتها كيان الشاعرة فنقلت مشاعرها وأحاسيسها في تلك اللحظات الفارقة في حياتها فكانت توثيقاً شعرياً ينتمي للإنسانية بكل جدارة.

وفي هذا الجانب لن نعتبر الشاعرة حالة استثنائية عن المشهد الإبداعي الإنساني الذي تسهم فيه المرأة العربية والليبية، وإنما هي امتدادٌ وتواصل لمشوار أديبات سابقات عبّدن درب المرأة في الشعر العربي الحديث منذ ظهور الشاعرة العراقية نازك الملائكة ودورها الطليعي بريادتها الحداثوية في تجديد النص الشعري عقب نشرها نصها (الكوليرا) الذي أحدث ضجة قاسمة في الفكر العربي والمشهد الثقافي خاصة، وبرهن أنه لا علاقة للجنس البيولوجي بالنص الإبداعي الذي يظل إنسانياً في شموليته التعبيرية التي يعزفها بنفس التقنيات الابداعية المستخدمة لدى الرجال والنساء كافةً.

إن صوت الشاعرة غادة البشتي الذي تعرفنا عليه في ديوانها الأول (كُنْ قمراً مُرتَعِشاً) سيكون إضافة لسيمفونية الشاعرات الليبيات المبدعات من أمثال فوزية شلابي وفاطمة محمود وسميرة البوزيدي وحواء القمودي ومريم سلامة وغيرهن ممن لحقن بهن واكملن مشوار الإبداع الشعري فرسمن العديد من الأحلام الخلابة والمسرات البهيجة من خلال نصوصهن الشعرية في قلوب العاشقين.


المراجع

(1) كُن قمراً مُرتَعِشاً، غادة البشتي، مكتبة الكون للنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 2021م

(2) تهاويم الساعة الواحدة، فواز بن عبد العزيز اللعبون، منشورات النادي الأدبي، الرياض، الطبعة الأولى، 2015م

(3) الأعمال الكاملة، أمل دنقل، دار الشروق، بيروت، الطبعة الأولى، 2020م

(4) أنشودة المطر، بدر شاكر السياب، دار مجلة شعر، بيروت، ط .1، 1960م

(5) كن قمراً مرتعشاً، مصدر سابق، ص 21

(6) كن قمراً مرتعشاً، مصدر سابق، ص 22

(7) كن قمراً مرتعشاً، مصدر سابق، ص 49

(8) كن قمراً مرتعشاً، مصدر سابق، ص 98

(9) كن قمراً مرتعشاً، مصدر سابق، ص 36

(10) كن قمراً مرتعشاً، مصدر سابق، ص 102

(11) كن قمراً مرتعشاً، مصدر سابق، ص 33-34

(12) كن قمراً مرتعشاً، مصدر سابق، ص 54-55

(13) كن قمراً مرتعشاً، مصدر سابق، ص 63

(14) كن قمراً مرتعشاً، مصدر سابق، ص 82-84

(15) كن قمراً مرتعشاً، مصدر سابق، ص 91

مقالات ذات علاقة

القاص الليبي (– سالم العبار”.. قاص يكتب بذكاء

المشرف العام

تشابه البياتي وعلي الرقيعي وعلي صدقي

عبدالرزاق الماعزي

تقنيات السرد في قصة صانع المراكب

عبدالحكيم المالكي

اترك تعليق