ومضات في الكتابة الليبية
“نفحَاتِ البوحِ المٌباح” عنوان نصٍ للقاصّ محمد الزنتاني، يكلم الشعر فيه نفسه. نتوّخى في قراءته بكلمته ـ المُفتتح:”هارموني” التي تُدخلنا إلى غموضه بثلاث مفاتيح تعريفية للشعر تكمل بعضها على التوالي 1 ـ لـ رينية ويليك بأن الشعر: شكل من أشكال المعرفة. حيث يتكرّر الفعل مع اللَقلَق الطائرَ الدي يُحَلِّق ،ويَخُبُ وَسَط المَـاءِ ،و ـ يعرِفُ ـ أن لا أحدَ يصطادُه .ومع الأسماك التي تقفز إلى السطح فوق الماء و ـ تعرف ـ أن لا أحداً يصطاد السمك الطائر .و 2 ـ لتعريف ايفور ونترز بأن الشعر تركيب من الألفاظ حول تجربة إنسانية فلاَ أحدٌ ـ يتابعُ ـ طائرَ اللَقلق وهو يُحَلِق، الجميعُ يراهُ وهو يَخُبُ وَسَط المَـاءِ. لا أحدٌ ـ يرى ـ الأسماك وهي تسبح في أعماق الماء، الجميع يراها تقفز إلى السطح لتطير”. وننتهي إلى 3 ـ تعريف أبي أحمد الرازي (322 هـ) بأن الشعر هو :”الفطنة بالغوامض من الأسباب“. التي حصرها كتاب وليم إمبسون في “سبعة أنماط من الغموض” وتفضي إلى إمكانية تحويل كل قطعة شعرية إلى غيمة كبيرة من الغوامض الممكنة. وهو ما يقرّره رومان ياكبسون في كتابه قضايا الشعرية “بأن الغموض خاصية داخلية لا تستغني عنها كل رسالة ترّكز على ذاتها. فإنه باختصار، ملمح لازم للشعر، وأن مكائد الغموض بتعبير إمبسون نفسه، توجد في جذور الشعر نفسها “.
الهارمونية أو “الموسيقي التوافقية”. تتجاوز انقسامية الغموض بعزف أو غناء صوتين مختلفين في وقت واحد، وهو ما يتوافق مع نمط الغموض الذي آبانه إمبسون “حين تأتي كلمة تشير إلى ضميرين متضادين في سياق واحد فيُظهران انقساماً أساسياً في ضمير المتكلم. كما في كلمة “سبب” التي يعلّل بها “عطيل”، قتله الغريبُ والغامضُ لـ”ديدمونة”، بقوله “روحي هي السبب.. هي السبب”.فـ”هي” الأولى ضمير عائد على روحه ،و”هي” الثانية ضمير عائد على ديدمونة . وهده الانقسامية نصدفها في نص “نفحَاتِ البوحِ المٌباح” الذي عنوناه بـ “هارموني” حيث تُسمع الهارمونية بصوتيها : ـ أ ـ طائرُ اللَقلَق فهو “لا يحتارُ كثيراً ، إنهُ يقيسُ عمقَ الماءِ المناسِب بطولِ منقارِهِ ، ويُميّزُ بين أنواعِ السمكِ بألوانِهـا ، وعندما يلتقِطُ سمكةً زرقاءَ يُشرعُ فوراً في التفكير في السمكةِ الحمراء ويرصُدُ مكانهَـا ، وعندما يلتقطهَـا لا يعود يكترث للأسماكِ الزرقاء ، فلا يفكرُ في متابتعهَـا .ـ ب ـ الأسمَاكُ لا تنْتبِه لذَلك ،عندما تختفي سمكةٌ حَمراءُ ، لا ينزعِجُ باقي السمكِ الأحمر ،عندما يحدثُ الأمرُ نفسَه مع الأسماكِ الزرقاء ، لا تُغير بقية الأسرابِ طريقَها ،بل تَضلُ تَسبحُ في الجِوار دون اكثرات . إذ، لا أحدٌ يهتَم للعدَد، لا أحدٌ يكترِث للغائبين .“
تتطوّر الهارمونية في النص إلى ما يعرف بالطباق الموسيقي أي: فن التشابك والتفاعل بين “النوتات الموسيقية المتضادة” : فإذا حُقَ لطائرِ اللَقلَق أن يسبحَ في الفضاء ،فإنه أيضاً يَحُق للأسماكِ أن تطير في عمق الماء” . تتأتى هده التسوية الأخيرة، حين يكتشف المؤلف فكرته خلال فعل الكتابة، مثل التشبيه الذي يقع في منتصف الطريق بين عبارتين يأتي بهما الكاتب، أو حين لا تقول العبارة شيئاً، ويُجبر القراء على ابتكار عبارة خاصة بهم، والتي ربما تتوافق أو تتضارب في أغلب الأحوال مع عبارة الكاتب
الكاتب محمد الزنتاني، الذي يشغّل خبرته في القص، في محترف الشعر. ووسيلته الغموض الذي كان بالفعل في نصه “هارموني” خاصيته المحدّدة التي جعلت الشعر في سرده شعرياً