النقد

أُمَيْلة النيهوم… نُبوءة يوسف الشريف

السقيفة الليبية

أحمد دخيل بن زائد

أُمَيْلة النيهوم… نُبوءة يوسف الشريف (قراءة تحليليّة بقلم/ أحمد دخيل بن زائد)

مُنذ رحيل الأديب الكبير يوسف الشريف عن الدنيا؛ لم يبارح الألم بفقدِه الشاعرة أُمَيْلة النيهوم، فكان رثاؤه طقسًا ً يوميًّا ً في كِتاباتها حيث تُذيّل قصائد رثائها بالعدد التسلسلي لما تُسمّيه “يوم الوجع” وهو ما يدلّ على مُلازمة الوجع وقسوته كُلّما تقاطرت ساعات العمر…

هكذا نكتشف عمق الأثر لوفاة الأديب الكبير على الشاعرة التي تنبض بروح البنوَّة تجاهه؛ وهذا ما يدلّ على روح الأبوّة التي غَمر بها الشاعرة إبّان حياته.

فها هي تأتي في اليوم الثامن والعشرين لفاجعة وجعها لتكتب قصيدة مُعمّدة بِالحنين المُوجع فتقول:

(صباح الحنين الموجع

لِجناح يحاول الطيران

صباح عصفورِه المُبلّل

لا يجِد سُلوانه

كل صباح حنين جديد

روح ترفرف في الأباعد تضطرم

لا نملك إلا أن نشعلها بقصائد

وجهَشات ترانيم صمت

بمداها يستمر الشغف المخنوق

من فجاءة الرحيل)

هكذا تُشبِّه الشاعرة ذاتها ذات صباح مُستيقظةً على وجع الحنين؛ فإذا كان بالحنين في البُعاد والفراق مُبلسمًا لِجرح الفقْد فهُنا يختلف فهو حنين موجع؛ لأنّ سبب الفراق هنا الموت الذي يعني الفراق الأبديّ والرحيل دون عودة؛ وتحت وطأة هذا الحنين تستعير النيهوم لِذاتها صورة الطائر الذي يَدفعه الحنين لأن يطير حيث يُحبّ ولمن يُحبّ؛ غير أن هذا الطائر لا زال يُحاول؛ والمُحاولة هنا إشارة إلى عدم الوثوق بِالقدرة على فعل الطيران الذي يُمثّل طبيعة الطائر لأنّه خاصيّة مَجبول عليها.

ثم ما تلبث الشاعرة تعود للصباح… “صباح عصفورِه المُبلّل” وهذا تصوير آخر لحالة العصفور الذي ما انفك يُحاول الطيران إلى أن بلّله عرق الإجهاد؛ وفي ظلّ هذه المعاناة لا يَجد هذا العصفور مَن يواسيهِ ويُداوي جرحه الغائر بِوجع الفقْد فهو… “لا يجِد سلوانه” على طول طريقه المُعبّد بِالوجع.

ثمّ تأخذ الشاعرة تعكس تجدّد حنينها للفقيد عندما تقول: “كلّ صباح حنين جديد” وفي غمرة هذا الحنين تترُك صورة ذلك العصفور البائسة اليائسة في إطارها المُجسّد “الماديّ” لِتتناول البُعد الروحي في صورة أخرى فتكتب… “روح تُرفرف في الأباعد تضطرم” وكأنّ بها تُوحي بِخلاص الروح من سجن الجسد لِترفرف بعيدًا وعاليًا جدًّا، زادها في هذه الرحلة القصائد التي هي خير بلسم للروح المُتوجّعة التي.. “لا نملك إلا أن نشعلها بقصائد” و”جهَشات ترانيم صمت”.. وتَرانيم الصمت هنا تُمثّل إيحاءً بِالبُعد الفلسفيّ لِلصمت الذي ليس له مِن ترانيم تُسمع إلا إذا أخذناه في بُعده الشاعريّ؛ لا سيّما وأنّ لَفظة ترانيم تُنبىءُ بِوقعِ موسيقي ما، فَلّلفظة وقعها على طريق الآلام؛ ولأنّ للترانيم إيقاع فهي سِرّ لِخروج شغف الشاعرة المخنوق.

وعلى إيقاع ترانيم الصمت هذه كُتب لِشغف الشاعرة الخروج؛ هكذا يتجسّد – بشكل أوضح – البُعد الشاعريّ والتوظيف الشعريّ لِلترانيم الصامتة التي حرّكت المشاعر المُتمثلة في شغف الشاعرة المخنوق؛ لِيجد طريقهُ لِلخروج من “فُجاءة الرحيل” وكأنّ بِالرحيل قد صار أمرًا  عسيرًا  في ظِلّ تَسوّر الروح بِآلام الوِحدة تحت وطأة الفقْد، فمتى تجد هذه الروح التائِقة لِلانعتاق الفرصة لِلخروج ستخرج من “فُجاءة الرحيل” الرحيل الذي أضحى هاجسًا يَتملَّك الروح التي ترى في الحياة – بَعد رحيل من نُحبّ – أسرًا حقيقيًّا لن يُوقف نزف جرحهِ سوى الرحيل؛ أي الخلاص من دنيا فقَدت قيمتها في غِياب  الراحل العزيز؛ هكذا كان لِترانيم الصمت وقْعها حيث…”بِمداها يستمرّ الشغف المخنوق من فُجاءة الرحيل“.

ثمّ تتطرّق أُميلة النيهوم بِأُسلوب أوضح إلى حالتها الخاصّة – كَشاعرة – في مرحلة ما بعد رحيل قُدوتها وسندها الأديب يوسف الشريف؛ لِتنسُج لوْحة تُجسّد من خِلالها مُعاناتها الدائمة فتقول:

(بَعدك القصائد غُصّة وكمَد وكبَد

بِكلّ وهجِ وسناءِ أيقونةٍ

تُعيد تجدّد الوَلَهِ

زاخراً مُعبّراً عابراً

عبور وامِض

لِشفق شفوق

أشفق على يُتمي

وألهب ظهره

بِشقشقة نور ضابح

مِن غبش التيهِ)

فبَعد رحيل الشريف أضحت القصائد مصدر وجع لِلشاعرة حيثُ تتسبّب في غُصّة؛ وقد تكون الغُصّة هُنا كِنايةً عن “الشغف المخنوق” الذي تناولناه آنفًا، وهو الشغف بِالشعر الذي يَعتريهِ “كمَد”.. أيّ أثر أعمق وأشدّ لِلغُصّة؛ و”كبَد” وهو الشقاء المُتفاقم المُستمرّ؛ وفي ظِلّ هذه المُكابَدة تتبدَّى صورة الفقيد الأيقونيّة والمَحفورة في الذاكرة مُشرقةً.. “بِكلّ وهجِ وسناءِ أيقونةٍ” لكنّ هذه الإشراقة  هي بِمثابة تجدّد العهد بِالحبّ العميق والوفاء اللامحدود فهي.. “تُعيد تَجدّد الوَلَهِ” أثناء إطلالة صورة الفقيد “زاخرًا” أي قويّ الأثر مُفعمًا بِعطائه الذي اعتادت عليْه الشاعرة.. “مُعبّرًا” حيث أنّ لِإطلالته دلالتها ولِحضوره معناه الكبير والمُؤثّر؛ لكنّه كان.. “عابرًا” أيْ أنّ هذا الحُضور مُرتبط بِراحل لن يعود؛ إلا أنّ هذا العبور يتّسم بِأنّه.. “عبور وامِض” أي خافت.. “لِشفق شفوق” والشفق قد يُعبّر هنا عن حالة الغروب التي تُحاكيها حالة الرحيل؛ أي رحِيل يوسف الشريف؛ وهذا الشفق سيماؤهُ الشفقة بِصيغة المبالغة “شفوق” أي أنّه كثير الشفقة إِزاء حالة الشاعرة ومَشاعرها تجاه الأديب الكبير.

هكذا تَشعر أُميلة النيهوم بأنّ هذا الشفق شفوق عليها وهي في حالة فقْد لِلأب؛ حيث تَمضي في نحت حالتها بِعمق عندما تقول: “أشفَق على يُتمي” ولِمفردة اليُتم هنا دلالتها الواضحة على عمق وطبيعة العلاقة بين النيهوم وأَبيها الروحي في عالم الأدب والإبداع، الأديب يوسف الشريف.

ثمّ تُضيف مُتحدّثةً عن اليُتم.. “وألهبَ ظهره” أي أثقل كاهلها ككائن فاجأته الأقدار بِفاجعة اليُتم، وفوق كلّ ذلك يلتهِب ظهر اليُتم، بِفقْد الأب.. “بِشقشقة نور ضابح” أي نور يتسلّل مُعلناً عن ذاته مُناديًا.. “مِن غبش التيه” وكأنّ بِهذا النور يُمثّل تواصُل العلاقة بِروح الفقيد الذي صارت الحياة مِن بَعده يعتريها التيه في ظِلّ عدم وضوح الرؤية؛ أي الغبش.

ولم يكن قدَر اليُتم مُقتصرًا  على الشاعرة فَحسب، بل طال ديوانها الشعريّ وباكورة أعمالها.. “أحبّك مشيًا على أطراف الأصابع” الذي كُتب له أن يرى النور في غياب ذلك الرجل اليوسُفيّ الخِصال الذي طالما انتظر ميلاده لِيحتفي به رفقة ابنته الشاعرة؛ غير أن قدر الموت غيّبهُ؛ هكذا تَصِف الشاعرة هذه الحالة فتقول:

(هذا الديوان القُربان

والقُربة والمَقربة

ظلّ يتيمًا نائحًا

يَنشد بركته الغامرة

روح ترفرف

تتخبّط أجنِحتها

وجوانحها

لطالما قال:

إنّ الوقت ليس لِصالحنا

وأراد بِشغف أن يضمّ هذا الوليد)

فكأنّما هذا الديوان يُمثّل  أفضل هدية بل قُربان لِروح الرجل الذي طالما نهلت الشاعرة من معرفتهِ وتعلّمت على يديهِ؛ إلى أن حلّقت عاليًا بِشِعرها في سماء الإبداع غير أنّ هذا القُربان – هو الآخر – كُتب عليه أن يَنوح بِوجع اليُتم كَكاتبتهِ؛ حيث.. “ظلّ يتيمًا نائحًا” والنياح هنا كِناية عن شدّة الوجع، أمّا استعمال صيغة الحال “نائحًا” فهو بَرهَنة على استمرار حالة النوح جرّاء تفاقُم آلام الوجع بِالفقْد.

وفي اللحظة حيث تَحتفي بِإصدار غلاف ديوانِها “أُحبّك مشيًا على أطراف الأصابع”، تَمضي أُميلة النيهوم مُتماهيةً مع قصيدِها مُمسكةً بِخيوط الذكريات وحواراتها مع الفقيد في أيّام خلت؛ لِتُشير إلى الّلحظة حيثُ تَلقّفت مِنه النبوءة…

(قال لي:

“أنتِ تُعيدين صياغة الكون“

“ساحرة من صنع الحنين“

غزالة جَريحة تهطل جُلّنار وحبق

أَجسُّ نبض روعةِ

اسْتقراءاتك عنوانا أجمل

ما يمسُّ القلب

يُشعُّ ويسكن الروح

ما أروع بيانك

يفيض شهْدا بنانك

كم أحبَّ هذا التّتابع

بِحضن الكلم لِلكلم

وتضمينها كأسا شفيفة

صفراء مُشعشع تواصلها

مَزهوًّا بِِوصالها

وهل الحنين إلا مِحْنَة وتِحْنان

لِوجع مُستفيض ممتدّ

يصوغهُ بِكلّ العذوبة

وحيّ  خفيّ

مزامير نبيّ

سحر بهيّ

شجو نديّ

نداء حليب قلب

و “مَيْ”** عذبٌ فرات

يُطفئُ زفرات اللهب

وصهد الوجع

يُشعل ماء القلب

فإن أشعله باتّجاه مُضغةٍ داخلهُ

يلوكها الحزن ويحرقها الشغف

هل من فِرار باتّجاه مَن رحل؟!

هل من أوْب لِحليب الأمنيات؟!

أَوَ إِنْ كان الفِرار صوْب الشهقات

يجعل حليب القلب يفيض مرارة !!

هو يفعل بحروفكم

المُرهفة العاطرة

نديّة طازجة

تغلي على مهل

كَركوة بُنّ عبق

مُعتّق بالهيل

قرَأتْهَا عنّي

الدموع المُتحدِّرة

بِشجنِ تجدُّد النحيب المرّ

وهل توقّف ليتجدَّد؟!

لم يكن يُحبّ الحزن

لا يعرف غير التفاؤل والأمل

صارع الأهوال

ولم يفقد ابتسامته الجميلة

آمن بي

حملني حلما

في روحه النبيلة

اليوسُفيّة الصدِّيقة

وقلبه الطفل

الذي لا يشيخ)

ابنتك: أُمَيْلَة النيهوم/ اليوم الثامن والعشرون لفاجعة الوجع.

* يوم صدور غلاف الديوان الجمعة 20_08_2021.

** “مَيْ” اسم ابنتي ويعني الماء العذب الفرات.

ترهونة، 29 أغسطس 2021

مقالات ذات علاقة

تجارب نسوية في الشعر الليبي

المشرف العام

قراءة نقدية للمجموعة القصصية (بين نظرتين) للكاتبة انتصار ابو خزام

المشرف العام

خردة في ميزان النقد

إبتسام صفر

اترك تعليق