النقد

عين على القلق في القصة القصيرة (توجس) للكاتب الليبي أ. فتحي نصيب

أحمد اسماعيل (قاص وروائي – سوريا)

Detail of new work 2020 Adnan Meatek

القلق شعور يتمكن من الذات حين يكون إحساس الذات بعدم الأصالة، وبشكل أدق أنه غير قادر أن يكون نفسه، فهو متغرب في العالم اليومي العادي، ويشير كل من سارتر وباسكال وكيركيغاد أن مفهوم القلق هو دوار الحرية ومن منا لم يشعر بهذا من قبل؟

ويمكن تعريف الدوار بأنه تحديداً الانجذاب نحو الفراغ والقلق هو واقع الروح… يظهر دائماً كعدم غامض، لكنه يختفي مذ نحاول الإمساك به، هو لاشيء لكنه قادر على إقلاقنا لأنه وببساطة مرتبط بكينونة الشخص.

وهنا لابد لنا أن نميز الفرق بين القلق والخوف، فإن أفضل عدو للإنسان هو المرئي، فالخوف هنا يرتسم بكل وضوح لأن موضوع الخوف واضح، أما القلق هو رعب لا يمكن أن نمسك به، يجيء من اندهاشنا أمام العدم.

لكن كيف يأتي هذا الشعور؟ هذا الشعور مع كثير من المتعة و الدهشة سنتعرف عليه في قصة توجس.

العتبة العنوانية: توجس

لو تأملنا في هذه الكلمة فإننا نشاهد ما تحمله من توتر وقلق، وفي معجم المعاني يفسر بأنه السماع للصوت الخفي، والصوت الخفي مع التوجس يأتي من ذات الشخص، وهذا الشعور بحد ذاته يتركه في صراعات مع التفكير والوهم.

القصة القصيرة (توجس ) تحسب على الكوميديا السوداء او كما يسمى بالأدب الساخر.

وتقوم فكرة النص على تقمص الأدوار في اللاوعي، وهذا النمط من الأدوار تسيطر على الشخصية حين يحكمها عامل الفراغ الذي يجعلها تقلق من أتفه الأشياء لسيطرة اللاشعور. وهذا ماحصل في هذا السرد المشوق و المحبوك بدقة عالية.

البداية والمطلع تبدأ مع حالة المشي مع حالة يسيطر عليها الشرود، ومع الشرود فإن التعثر والارتطام هو شيء متوقع، وهذا ما حدث مع تفصيل بسيط للشخص الآخر بوصف هيأته (أصلع ويلبس نظارة سوداء…). وهذا في الواقع يوجد منه الكثير، ثم الانعطاف إلى مشهد المقهى والذي تبدأ منه الحبكة من خلال:

1-وصف الحالة الاعتيادية لجلوس بطل القصة في المقهى.

2-تصفحه الجريدة من الصفحة الأخيرة.

3-قراءته لموضوع عن الأجهزة الأمنية في واقع يفرض عليه عدم الاهتمام بهذه النوافذ الثقافية بسبب الأنظمة الديكتاتورية التي تحكم البلاد.

. 4-ظهور الرجل الأصلع ذو النظارة السوداء أمام نظره مرة أخرى

. 5-استلام اللاوعي المبادرة وتركه يتخبط في القلق

. 6-الهروب من ذاته الواعية وبدل مواجهة الموقف تغير الأماكن

وكما يبرر هؤلاء تصرفاتهم بأنهم يهربون بأقل الخسائر ويطبقون المثل (امش جنب الحيط… الحيطان لها آذان..).

السرد هنا يجيد لعبة اللعب على المشاعر من خلال ربط الواقع بشخصية البطل والذي يعيش في انصراف تام إلى السكون والصمت وهذا يتجلى من خلال الطريقة التي يجلس بها في المقهى وانعزاله عن المجتمع الذي يسبب له القلق والريبة مع أمور اعتيادية، والفراغ هنا في ذات الشخص يحمله إلى تصفح الجريدة. سابقا من يتصفح الجريدة كانوا من المثقفين ورواد الفكر والأدب أو العلم، لكن مع شخصية البطل نجده يقلب الجريدة ويتصفحها من الصفحة الأخيرة.

تلك الصفحة التي تكون مليئة بالمسابقات و الطبخ و الأبراج و لايوجد فيها مايثير الذائقة، وهذا يأخذنا إلى حالة الهروب التي يعيشها البطل و التي يقال عنها التنفيس بالأبراج و غيرها.

لكن السكون والانعزالية يجعله يتابع التصفح حتى في أمور لا تهمه ولنقل وبشكل أدق أنها يمكن أن توتره، وهنا يلعب الكاتب على لعبة المصادفة كما كانت في مطلع القصة، وفي قراءته للمقال الباحث في الأجهزة الأمنية.

ومما لا شك فيه أن هذا الصنف من الأشخاص يظنون أنهم يمتلكون الحاسة السادسة، في حين أن القلق هو من يأخذهم إلى اللاوعي. وتبدأ رحلة المغامرة في الوهم، وهذا ما حصل مع بطل السرد، حيث أنه توهم مراقبة الشخص الأصلع ذو النظارة السوداء له، ثم تصاعد إيقاع الهرب من مكان إلى آخر والقلق سيد الموقف، وصولا إلى القفلة المدهشة والصادمة والتي تفصح بأن الرجل الأصلع ذو النظارة السوداء هو أيضاً قلق منه مع فارق بسيط وهو أنه كان يمتلك الجرأة في حين أن بطل السرد يفتقدها.

الآليات التي منحت السرد عامل التشويق

1-اللغة البنائية للسرد قائمة على تفعيل لغة الخيال.

2-استخدام التناص في قوله اخترت ركنا قصيا من القرآن وتوظيفها مع صفة الانعزالية في النص بشكل مبتكر و غاية في الجمال.

3-منح السرد لغة انسيابية من خلال الانزياح وأنسنة الأشياء، مثال (منحت ظهري إلى الجدار وهي عادة متأصلة في آخر نفق من أعماق اللاوعي).

هذه الأنسنة تمنح السرد جاذبية و انفتاح في الدلالات و ذلك واضح من خلال الجدار وبراعة أنسنته.

4-استنطاق لغة القلق و جعلها العنصر المحفز للخيال في الحوار و التركيز العالي على المونولوج الداخلي و أحاديث الصمت التي يهرب إليها بطل السرد.

5-المفارقة و التي جعلها الكاتب تتصاعد حتى وصلت إلى ذروتها في القفلة و التي أصيب البطل فيها بالصدمة و السخرية من ذاته و طريقة تفكيره.

إضافة لتركه للمتلقي مساحات من الدهشة والضحك وتأملات في عمق ذات المتلقي يتساءل من خلالها

ماذا لو كنت أنا بطل السرد هل أتصرف مثله في ظل أنظمتنا القمعية ؟.

ترفع القبعة لكل هذا الجمال.

مقالات ذات علاقة

غيّرة تقترح ملاذا!؟

حواء القمودي

رحلة الزاهي: من صقيع دبلن.. إلى نار فزان (1-2)

عبدالسلام الفقهي

الشعر وعلامة النفط

نورالدين خليفة النمر

اترك تعليق