يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: –
علي ثياب لو يقاس جميعها،
بفلس لكان الفلس منهن أكثرا …
وفيهن نفس لو يقاس ببعضها،
نفوس الورى كانت أجل وأعظما …
وما ضر نصل السيف اخلاق جفنه،
إذا كان عضبا حيث وجهته فري …
الإمام الشافعي في هذه الأبيات الرائعة يرسم صورة للمقارنة بين الظاهر والباطن، بين الشكل والمضمون، أصحاب النظرة القاصرة يقفون عادة عند المظهر، يقيسون الناس بثمن ثيابهم وعدد ممتلكاتهم وحجم أموالهم، تبهرهم القشور وتأسرهم المظاهر، سؤالهم دائما عن الماركات والموديلات، واستفسارهم عن العقارات والسيارات، تفرحهم الوفرة، وتسرهم الكثرة، الهاهم التكاثر وشغلتهم الأعداد.
قارونيو المنهج، هامانيو السلوك، فرعونيو الخطاب، تراهم في أندية الترف يتفاخرون، يحدثونك عن الصفقات ومؤشرات البورصات، يشيرون الى ساعاتهم الثمينة، و أثاثهم الفاخر وتحفهم النادرة.
ذاك حديثهم، وتلك حياتهم التي تدور حول البلع والابتلاع، الكم والامتلاك، تستقطبهم الألوان والزخارف، يقيمون الناس وفقها، ويحكمون عليهم من خلالها، لذا نجدهم يمدون جسورا للمصالح مع من جانسهم في نظرتهم ونظريتهم.
وما أكثر من يوافقهم في تلك الآراء ويسايرهم في هاتيك الأهواء، وينسى أولئك وهؤلاء، أن الجوهر هو الأساس وأن سمو الروح وعلو الخلق هو المقياس.
وما أكثر ما يغفل الإنسان وهو الخليفة في الأرض، المأمور بالعمران، ما أكثر أن يغفل عن الحقيقة الساطعة والحجج الدامغة التي تؤكد أن العبرة باللب لا بالقشور، وأن المعول على القلوب لا على الصور.
ما أكثر ما تغريه المغريات، وتغويه الملذات، فيفقد بوصلته وتتشوه فطرته، تنتكس موازينه فترتكس آراءه، فإذا به يقيم بميزان الغثاء، تدور أفكاره مع الأكثرية، يجذبه الزبد الطافح على السطح، يغتر بكثرته ويبهره علوه، وينسى أنه لا ثقل له ولا وزن، لا فائدة ترجى منه ولا أثر، مجرد هباء، قش يذهب جفاء، ولا يتذكر أن العبرة بالعمق، بالوزن الحقيقي والأثر الباقي.
ولعله المقياس الغثاء الذي أشرت إليه هو الذي جعل على البصر غشاوة وعلى القلب حجب، أفسد العقل بالأهواء والضمير بالأمراض ، فإذا به يغفل عن التدبر في قوله تعالى: (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض …) ،، ويسير مع الجمهور ويحجبه ميزانه الغائي عن فهم قوله تعالى: (و إن تطلع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ..) ،، ولا ينتبه إلى مصير من قال ربه فيهم: (ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر …) ،، و يغفل أن الإيمان والصبر يثقل الكفة ويأتي بالنصر ، قال تعالى في كتابه الكريم : ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين) .
مع الميزان الغثاء يذهب النصح هباء منثورا، تنجذب النفس إلى الأضواء البراقة والمظاهر الجوفاء، وتنزل إلى الاهتمامات المتدنية واللغو الفارغ.
مع الميزان الغثاء، نجد في المحيط من حولنا مئات بل آلاف، لكننا عندما نضع الميزان القسط ونقيم بالمقياس الحق، لا نجد إلا أفرادا قلة لديهم فعل وأثر، وعندهم همة وعزم.
وفي ظل الميزان الغثاء الذي ساد في الأرجاء، تسلط على هؤلاء القلة الفاعلة سيوف النقد الهدام، ومحاولات الانتقاص، وترمى عليهم التهم ويتعرضون لموجات الذم والتشكيك، وربما النبذ والتشويه، لكنهم يستمرون في دربهم لا يبالون، يزرعون ويصلحون، يبادرون ويبدعون، يحسنون ويتألقون، وإذا ما خاصهم أو جادلهم أصحاب الميزان الغثاء، كان ردهم أن سلام عليكم لا نبتغي الجاهلون، واستمروا في ارتقاءهم وهم يترنمون بأبيات الإمام الشافعي،
أما ترى البحر تعلو فوقه جيف،
ويستقر بأقصى قعره الدرر..
وفي السماء نجوم مالها عدد،
وليس يكسف الا الشمس والقمر.