قراءات

الأخرون وأنا.. هل سيرة ذاتية أم مراجعة ثقافية؟

سعاد خليل

كتاب (الآخرون وأنا) للفنان المصور الراحل فتحي عريبي.

عندما نتناول مصطلح صورة نجد أنفسنا بين الخيال والتخيل، والتوهم في ابعاده بين الخيال والصورة الفنية بمعني ان الصورة هي اداة الخيال ووسيلته واساسه كما يقول جابر العصفوري في كتابه (الصورة في التراث) هناك صور تضع امام المتفرج عدة تساؤلات وتطرح اجابات لكيفية فهمها وامكانية التفكير في عدة علامات استفهام وأحيانا لهواجس هذه الصورة المعرفية او لتراثها الرمزي او لموقعها الهام.

وما هذا الكتاب الا رسالة حب لمزيد من التواصل وتعميق المودة مع الأخرين، والأخرون هم أنتم من الذين تعرفت عليهم وتركوا في نفسي اثرا طيبا بان كل انسان هو عالم بذاته غني بالخبرة والتجارب العميقة وهو لذلك جدير بفروض العناية والاحترام والتقدير مهما اتفق معي في وجهات النظر او اختلف. يقول مقدمة الكتاب:

(انا الذي اختزل في لقطاته الفضاءات الهاربة، وسالم طيور الحمام، أحبها واحبته. وانا الذي منح المشاهد الجامدة بمضامين حركتها وحيويتها كي أجمل قدر المستطاع المشاعر التي علاها الصدأ. أنا ذاك الذي يحمل في قلبه وعلى لسانه مجمل معتقداته وقناعاته، وهي رحيل حياته المقبلة.)

 الفنان فتحي العريبي متعدد المواهب والفنون من فن التصوير الفوتوغرافي والسينمائي وممارسته للعمل التلفزيوني كمخرج وكاتب سيناريو معد برامج ثقافية رئيس تحرير مجلة التشكيلي الالكترونية، له ايضا تجربة في كتابة الشعر.

علاقته الوجدانية بدأت مع حمامة بيضاء فاتخذ منها شعارا للأستوديو الخاص به وأطلق عليه اسم (عش الحمامة) بل أصدر مخطوط بعنوان (هديل الحمامة) التي كان له معها صحبة طيبة منذ طفولته.

حمامتي ان يسالوك عني يوما

فلا تفكري كثيرا

قولي لهم بكل كبرياء

يحبني.. يحبني كثيرا.

عن فكرة اعداده لكتاب عن عش الحمامة يقول:

 بدأت في تحضير هذا الكتاب وجمع وتصميم اغلفته وتنسيق صفحاته الداخلية  لفترة عقدين من العمر  يضيف  بانه قام بالاتصالات الدولية المكثفة وبزيارة العديد من العواصم الاوربية والجمعيات المتخصصة بتربية الحمام الزاجل  واقتناء كل كتب ومراجع لها صلة بحمامته البيضاء كالصورة واللوحات الفنية والملصقات والتماثيل  ( هديل الحمامة البيضاء)شعار  يمثل محطة الحب والحرية ،وكيف عرض فكرة الكتاب علي صديقه الشاعر الكبير نزار قباني الذي هلل بالفكرة وشجعه لكونها امتداد لصوره الضوئية المتميزة  وتم اهداء هذا الكتاب الي الشاعر نزار  قباني عرفانا بقيمته  الابداعية والعاطفية في حياتنا المعاصرة.

الفنان الراحل فتحي العريبي

نعرف ان لكل انسان فترة زمنية يعيشها داخل محيطه ومجتمعه بكل تلويناتها مسؤول عن اعماره وتشييده وان لا يغفل ان ايام حياته تمضي كالسحاب لذلك عليه ان يغتنم زمانه بالعمل البناء الذي يعود عليه وعلى مجتمعه بالإيجابيات قبل ان يودع هذه الحياة يكون قد ترك اثرا لعمله على صفحات تاريخ حياته.

. يقول فتحي العريبي في كتابه (الاخرون وانا) الذي يسرد فيه سيرته الذاتية او بالأحرى علاقة الاخرون به، وكيف طور نفسه باتخاذ البرامج التقنية لمعالجة الصور الضوئية ليكون رؤية بصرية مغايرة عن السائد والمعتاد في تصاميم المواقع القائمة أساسا على الجداول المخفية وخرائط التصميم الجاهزة هذا الفنان الذي كانت له بصمته المتميزة في تطوير الصورة الضوئية واعطائها بعدا جماليا بإضفاء التقنيات الفنية الجديدة ليجعل منها رؤية تشكيلية مغايرة

في هذا الكتاب والذي يضم 208 من الصفحات المثيرة المتنوعة والتي كتبت ودعمت بشهادات من أكبر المبدعين العرب وعلاقته الفنية والثقافية معهم خلال زياراته ودراسته في الخارج يكتب عن تجربته الابداعية بكثير من الشفافية والصدق مواقف او محطات في حياته تكشف طبيعة حياته البسيطة كيف بدأت حتى وصل الي الشهرة وتنقله وتجواله في العالم تاركا بصمته اينما تواجد.

ما اعجبني في هذا الكتاب هو عندما تقرأه فهو لا يتحدث عن نفسه بل عن الاخرون في حياته موضحا بإيجاز حياتهم ومهامهم وعلاقته بهم باختصار من خلال كتابه تتعرف على سير موجزة لاهم الشخصيات الادبية والثقافية في الوطن العربي. نقرأ ايضا عن تاريخ الصورة والتصوير في ليبيا والتعريف ببداية اختراع الطاولة العاكسة لتسهيل مهمة رسم الموضوعات الساكنة التي توصل اليها جورج براندر عام 1646 الي لويس داجير عام 1839 الذي انجز الة التصوير الي الالماني اوسكار بارناك عام 1913 الي عام 1969 حيث رافقت الة التصوير السويدية هازيل بلاد في اول رحلة حقيقية الي القمر.

ولأنني اعرف هذا الفنان واعرف شغفه وحبه للآلة الضوئية التي تعلق بها منذ صغره فهو اسم مهم في المشهد التشكيلي في ليبيا وفي العالم العربي لم يقف عند موهبته فقط بل لم يعرف المستحيل فنان نحت مشواره على مدي اربعين عاما. شارك في عدة معارض في اغلب المدن الليبية وفي دمشق وبيروت والقاهرة وبغداد ولندن وغيرها.

في صفحات الكتاب نتعرف علي مصطلحات لا نعرف تفاصيلها ربما  تهم المتخصصون في الفن التشكيلي بكافه انواعه ومدارسه يعرفنا علي معرض الجرافيت الذي اقيم في لندن عام 1978 في اضخم احتفالية تشكيلية عربية متمثلة في معرض الجرافيت للفنانين العرب الذي اقيم في قاعة العروض الفنية بالمركز الثقافي العراقي مدونا اسماء الفنانات العربيات المتميزات والمشاركات في ذاك المعرض  اضافة الي ملخص عن فن الجرافيت العربي واللوحات المشاركة كما يقول ان الفنان العربي اصبح يدمج بين متطلبات مستقلة في التعبير وبين امكانية جماعية لتداول الفن وهو امر لم تستهدفه المحاولات الأخرى عدا بعض الاستثنائيات  يعرف فتحي العريبي من خلال كتابه توثيق لبعض التواريخ ففي عام 1985 صدر في القاهرة عن الهيئة العامة للكتاب كتاب عن الجرافيت المصري والذي يعد حتي الان الاول في نوعه .

نجده يشرح معني كلمة جرافيت ويقرب معناها حتى يتمكن القاري من فهمها.

الاخرون وانا لا تعني فقط الشخوص في حياة هذا الفنان بل تعني كل ما هو متعلق بفنه وبزياراته واطلاعه علي كافة الفنون المختلفة بمدارسها  مواضيع متفرقة عندما يتحدث عن الفن الباتيك وهو الرسم بالشمع الساخن تجده يتحدث عنه مستندا الي مراجع وعارفا للفنانين المختصين بهذا النوع من الفنون منهم  الفنان المصري الاستاذ علي الدسوقي ذاكرا تجربة هذا الفنان الذي كان يعتمد علي نفسه وقراءاته الغزيرة واطلاعه الواسع علي مختلف مدارس فن الرسم ، ويضيف عن الدسوقي كيف ثقف نفسه والتحق بالقسم الحر بكلية الفنون الجميلة وتخرجه كان عن البحث الدقيق في العادات والتقاليد والتراث في الوطن العربي  ، يقول فتحي العريبي انه تعرف علي هذا الفنان في صيف عام 1993 في زيارته الي مرسمه بوكالة الغوري للفنون والتراث وكان بصحبته الفنان التشكيلي السكندري الاستاذ عصمت داوستاشي وكيف انه التقط عدة صور ضوئية اعجبت الفنان الذي اخبره بعدها انها ستنشر في مجلات اوروبية وامريكية لجودة تكوينها وإضاءتها  الواضحة وفي معرض هذا الفنان  علي الدسوقي الذي اقيم في مدينة مدريد الاسبانية عام 1998 وهو معرض لفن الباتيك تصدرت  واحدة من صوره الشخصية  التي التقطها له فكانت في الكتيب الانيق الخاص بهذا المعرض.

 كما نوهت في قراءه هذا الكتاب نجد اشياء اضافية ومهمة جدا لتوسيع المعرفة ببعض الفنون فهو لم يبخل علي القاري بان يطعم كتاب سيرته الذاتية بسير فنانون اخرون والتعريف بأنواع هذه الفنون وتاريخها بأسلوب سلس يشد القاري وفضوله لمعرفه تفاصيل بدايات هذا الفن  وتاريخه بطريقة سردية لتجد نفسك تسترسل في القراءة وكأنك تطالع رواية او قصة عندما يحكي فكرة هذا النوع من الرسم كيف جاءت عن طريق احد الفنانين الهنود الذي يحب زوجته فاراد ان يعبر لهاها عن مكنون قلبه فقام باستخراج مجموعة من الألوان والاصباغ ليرسم بها قطعة من النسيج تمثل كل المعاني التي اراد من خلالها ان يعبر عن مدي حبه لزوجته واستغرق منه هذا العمل سنة كاملة ليكون في نهاية المطاف صورة تشكيلية عامرة بكل مشاعر الحب والمودة ومن هنا جاءت هذه التجربة الجديدة والقديمة لهذا الفن التي استهوت الفنان علي الدسوقي وشدته ليعبر عن وجهة نظره .

الكتاب حافل بالصور المنشورة والتوقيعات التي تخص أي فنان تحدث عنه او ارتبط معه في علاقة او قابله فإضافة سرد جزء من سيرة هذا الفنان او الأديب نجد فكرة عن مدرسته الابداعية

في هذا الكتاب نكتشف الفنان المبدع فتحي العريبي ونرافقه في تسلسل حياته التي بدأت من طفلا صغيرا عاش في الجبل الا خضر ثم عاد الي موقع راسه مدينة بنغازي وارتبط بمسار تجربته الابداعية في التصوير والتشكيل وتطوير نفسه علميا وثقافيا حيث بدأ من النشأة الي الارتقاء ومن البدء الي الامتداد ومن البسيط الي المركب المعمق.

في هذا الكتاب  لم ينسي التوضيح عن تزيف الواقع الفوتوغرافي بليبيا وكيف في اواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين كان المصورون الاجانب  يلتقطون صورا مفتعلة لا تتصل بواقع المرأة العربية ثم يعون بهذه الصور الي طابع النشر لتخرج في شكل بطاقات بريدية علي انها تمثل خصوصيات الحريم العربي داخل لحمامات البخارية ومجالس النساء وغرف النوم الخ ، من اجل  تلبية رغبات فئات اوروبية عاجزة عن السفر وعن الدخول في مغامرات الاستشراق التي كانت سائدة تلك الفترة فكانت صاحبات الصور الاستشرافية يتم اختيارهن بمواصفات معينة لتوهم المتلقي الاوروبي ضمن مشهد مفتعل وواقعية اللقطة الفتوغرافية  يعد قليل بالقياس عما مارسه فن الاستشراق التشكيلي من قبل رسامين كبار من وزن وقيمة  اميل فيرنيه وجون فريدرك وديلا كوروا وغيرهم ، يضيف في مذكراته عند الرجوع لأرشيفنا المصور نجد ان ليبيا لم تسلم من هذا التزييف الفوتوغرافي منذ الاحتلال الايطالي وحتي اواخر الستينيات من القرن الماضي فقد اشتهر مصور يدعي:  اوولا وهو ايطالي الجنسية يهودي المعتقد بالاستحواذ وحده علي تصوير البطاقات السياحية بل مارس اللعبة الاستشرافية ذاتها بمباركة ساذجة من قبل هيئة السياحة تمثلت في تصوير مجموعة بطاقات ملونة وملصقات جدارية كانت تعرض علنا في المكتبات العامة والفنادق وفي السفارات الليبية في الخارج علي انها لوحات تراثية من الفن الشعبي الليبي ، وهي في الواقع ازياء ليبية علي اجساد ايطاليات ويهوديات من العاملات في صالات القمار واقبية الشراب في الاندية الليلية التي كانت منتشرة بكثرة في طرابلس وبنغازي.

ان للصورة حضورا دائما في التاريخ البشري كما الكلمة كلاهما يمثل رؤية للعالم وفهما له ولكن بطريقة مختلفة لاختلاف طبيعتهما فنحن نتكلم في عالم ونشاهد في عالم اخر فمن خلال الصور التي نراها بخصائصها المتعددة والمتميزة والتي اوجدت مناصرين من جميع الفئات وزاحمت في المعارض والمنتديات الكتابة واصبحت لها معادلة في لحروب والمعارك.

ان العصر الذي نعيشه هو عصر الصورة بكل مكوناتها سواء كانت فتوغرافية او متحركة فقد اجتاحت الصورة كافة المجالات من خلال نقل الاحداث والمشاهد وهكذا نجد اننا ارتبطنا من خلالها بما تنقله او تقوله.

قد لا يري القاري ان هذه المواضيع او الصفحات لا تخص سيرة ذاتية لشخص فنان له تاريخ وتجارب كبيرة في الداخل والخارج، وهذا ما يميز الكتاب فهو شبيه بموسوعة ومرجعية لبعض المعلومات الغائبة عن القاري في المدارس الفنية المتنوعة للصورة الضوئية والتشكيلية جهز هذا الكتاب قبل وفاته فهو من صممه وحرره مرفقا به المقابلات الشخصية التي اجريت معه في الصحف العربية والمحلية من كبار الصحفيين العرب

وهكذا يوضح لنا هذا الكتاب حضور الصورة الدائم في تاريخنا البشري بخصائصها المتعددة والمتميزة وكيف انتقلت من تحقيق التواصل وتأكيده باعتبارها وسيلة تواصل مساعدة وكيف ظلت وسيلة أسهل وأكثر تأثيرا.

ولد الفنان الراحل فتحي العريبي في بنغازي يوم 15 مارس عام 1942، وتوفي يوم 2 ابريل عام 2015.

مقالات ذات علاقة

قراءة في مذكرات “عدوس السرى” للاديب إبراهيم الكوني

المشرف العام

رواية نسوية عن الاستعباد في ليبيا العثمانية

المشرف العام

قراءة في كتاب يوميات مغربية 1989م

المشرف العام

اترك تعليق