أكلي شكا
كنت غائبا منذ يومين في عالم أخر، عالم تمنيت ألا أعود منه بهذه السرعة الرهيبة إلى روتين الواقع اليومي الملئ برتابة التكرار والاحداث المملة التي يعيشها كوكبنا اليوم من حروب ومجاعات وكوارث إنسانية يندى لها القلب في ليبيا وازواد وسوريا والعراق واليمن إلى جزر جامايكا.
كنت عاكفا على قراءة مذكرات الاديب إبراهيم الكوني الجديدة التي تحمل عنوان: “عدوس السرى”. وهي تتكون من أربعة أجزاء يروي فيها الرجل مشواره الاديبي على مدى خمسون عاما ونيف فاقت كتاباته الاديبة والفكرية أكثر من مئة كتاب بين الرواية والكتابات النظرية التي تعودنا أن نقرأها بأسلوب أدبي وبلغة عربية كلاسيكية جميلة تتسم بصور شعرية وعمق فلسفي فكري يكاد الكوني أن ينفرد به من بين معظم كتاب عصره ما يجعله يتربع بجدارة على عرش الابداع والفكر. حيث أختارته مجلة لير الفرنسية كأحد أبرز خمسين روائيا عالميا معاصرا، ووضع السويسريون إسمه في كتاب يخلد أبرز الشخصيات التي تقيم على أراضيها وهو الكاتب الوحيد في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بل الوحيد أيضا من العالم الثالث في هذا الكتاب. كما ترجمت أعماله بكل لغات العالم الحية وتدرس كتبه وروايته في أكبر وأشهر المعاهد والجامعات الغربية.
فعالم الكوني بقدر ما هو عالم واقعي سردي ي فهو أيضا عالم ميتافيزيقي مفعم وغني بالافكار، مغمور بروح الاسطورة الممزوجة بواقع أمة الصحراء التي نجدها حاضرة بقوة في كل راياته وكتاباته وكل ماهو موجود في هذا الجزء من العالم (الصحراء الكبرى) من شجر وعشب ورمل وحجر وإنس وجن ومن أثار الاجداد في “تادرارت سطفت” وواحة “تنيغرت” و”هضاب أجر” وجبال “أكاكوس” وفيافي “تين بكتو” المحتضرة في أسلوب أدبي رائع ورسالة إنسانية جميلة تفوق قيمتها الأدبية كل القيم… قيمة تجلت فيها المعاناة ونزف من أجلها الكاتب دما وأرقا لتوصيلها.. رسالة كلفته كل ما هو جميل وعزيز عليه أبتداء من فراق الام والأب، الإخوة والاشقاء والاصدقاء.. وأنتهاء من الحرمان من حبات الوطن ونسيمه المنقرض في عواصم الغربة… وطن هاجره يوما بجسده، ولكن لم تغب عنه روحه بل بقت هناك تطوف كالهواء، بينما بقى الحنين يصاحبه في كل رحلاته وأسفاره أينما حل. ظل الكوني إبن الصحرائي الكبرى حاملا صولجان وهموم شعبه أينما ذهب دون أن ينسى أيضا أنه إبن أقدم حضارات في العالم ألا وهي حضارة شعب الطوارق. لهذا نرى معظم أعماله الروائية والادبية تروي بألم شديد قصص وأساطير شعب منسي دفن بعيدا في رمال وكثبان أكبر صحراء في العالم. ففي كل كتابات الكوني الروائية تتجلى لنا معاناة الرجل وما حمله هموم وقلق من أجل شعبه وثقافته وما عانته من إقصاء وتهميش من قبل أنظمة المنطقة التي في مقدمتها النظام القذافي المنهار والنظام الجزائري وتجلى لنا صور معاناة الرجل أكثر في مذكراته الاحيرة: “عدوس السرى”.
عندما قرأت السيرة الذاتية لهذه الاسطورة الادبية التي لم تنل ما تستحقه من شعبه و من وطنه ليبيا كغيره من المبدعين، أشعر وكأنني أقرأ سيرة “الشيخ سنتياغو” في رواية “الشيخ والبحر” للكاتب أرنسيت همينجوي مع وجود فرق كبير بين العالمين، حيث أن الاول يعتمد على الخيال بينما أن الثاني (إبراهيم الكوني) يعتمد على تجربة حقيقية يرويها بطلها بقلمه كما هي بتفاصيل دقيقة جديرة بأن تكافئ ليس فقط بأعلى جوائز الأدب العالمي ولكن بوشم الابدية والسرمدية.. ولكن هيهات!!.. قدرنا أن نعيش في عالم لا يذكر فضائل أبناؤه إلا بعد أن يتواروا الثرى!
_________________
نشر بموقع ليبيا المستقبل