محبوبة خليفة
كانت الضحكات المدوية في الزقاق المتعرج، الذي يتسع مرة ويضيق مرات، هي من جذبت راعي كنيسة قريبة من وقفتهن المتأملة في المكان…
إحداهما خفيفة الظل لاتعرف كيف تكتم ضحكتها إن هاجمتها ولا تستطع تخفيض درجتها فتخرج عالية بلا قيد زاهية محبة للحياة وللإنبساط.. رفيقتها الهادئة سيدة وقور لم تحاول إسكاتها فهي تعرف انه لا فائدة من ذلك…
غير أن وقفة الراعي المبتسم نبّهَتْ صاحبة الضحكة الصاخبة فعدّلت الصوت المرح الصادر بلا قيد وخفّضته درجة تلو درجة – فمثلها لا تعرف كتمان الضحك ولا تحب ذلك – ثم رسمت ابتسامة المعتذرة.
بادر الرجل -وكان يتأهب للدخول لكنيسته- بدعوتهما لمشاركة القداس المقام لتكليل عروسين فيها. وافقتا على الفور وقادهما إلى الداخل وكان المكان يعج بالمدعوين، جلستا وكانتا محل ترحيب من الموجودن وقد لاحظوا أنهن ليستا من رعايا الكنيسة وليستا من المتطفلين فهن دخلن بدعوة طيبة من الرجل صاحب المكان.
أثينا في صيفٍ قائض ومتى لم يكن صيفها غير ذلك، كان البيت الصغير يعجُّ بالضيوف، وصاحبته ترحب بلا ملل ولا كلل وكانت الأجواء حميمية والجميع سعيد باللقاء، وصاحبتنا تفرض سيطرتها بالذي يحبه الجميع ولا يختلف عليه أحد؛ الضحك. تختلقه حتى وإن نَدَرْ، توجده حتى في يوم عَبوس، تهديه لمن حولها حتى وإن عزّت الهدايا وقلّت المناسبات. كانت كغيرها من هذا النوع البشر هدية ثمينة يجتمع على امتلاكها وحبها وتقاسمها كل من عرفها أو اقترب منها.
في إحدى نهايات الإسبوع اقترحت على السيدة الوقور أن تترافقا للتجول في أزقّة (لا بلاكا) بعيداً عن ضجة البيت الممتلء بالأحبةحدّ الإكتفاء. خرجتا سعيدتين بالجولة وبالجمال الذي رافقهن مذ خروجهن من البيت عابرات الشوارع الفسيحة والحدائق والسواح المنبهرون بمدينة كان إسمها ولا يزل سيد التاريخ والحضارات.
مررن بالسوق الكبير وبأزقته المشابهة للأسواق الشعبية في كل مكان، يعج بالسواح المتسكعين وبالتجار المتذمرين من الامريكان.. هكذا أسرّ أحدهم لهن. قال: لازلنا ندفع ثمن ما جرى في حروبهم الساخنة والباردة،هم ساعدونا كما يقولون، ثم جثموا على صدورنا!، همست لصديقتها الهادئة (جثمت الحبايب، هالحمر)* فحاولت السيدة أن تكتم ضحكتها بلا طائل.. فضجت بالضحك هي الأخرى وتركتا الرجل حائراً ومبتسماً فالضحك عدوى لا يوجدُ مصلٌ يوقف انتشارها.
كانت وجهتهن المدينة القديمة لأثينا (لابلاكا) ووصلنها وجُلْن بزواريبها الضيقة المرتفعة أحياناً الهابطة درجة أو اثنتين أحياناً أخرى. ذُهلن بلون حجارة حيطانها البيضاء المائلة للصفرة وببلاطها الرخامي اللامع وببيوتها مفتوحة الأبواب المطلة على الأزقة-ربما لدعوة المارين لإلقاء نظرة- فهنا التاريخ بدأ وهم إمتداده، يعيشون على عتبات الزمن موغلاً وحاضراً فيهم وبهم،هنا المدينة الضاجة بالناس، الفاتحة ذراعيها للباحثين المقتفين لتراث البشر، من مرّوا وأنجزوا وتركوا أرثاً يمدُّ المتأملين بثقة بأن من يعمل يبقَ ومن يكتب يبقَ ومن يخدم يبقَ ومن يشيّد يترك أثراً لا ينمحي.
كان الذهول والضحكات رفاق التسكع حتى حصلن على دعوة الراعي. دخلتا وراءه للمكان المهيب بريبة الغريب إن دُعَي فجأةً وقَبِلَ بلا تفكيرٍ أو تردد كانت فسحةً، فلتكتمل بالمجازفة فهنَّ بحاجة لجديدٍ ما فما بالك والحال عرسٌ وبهجة.
جلسن بجوار رجل كبير السن رفقة حفيدته هكذا قدمها لهن مرحباً فهو من أقارب العروس فباركن وأثنين على جمالها وفستانها، لم (تفوِّتْ) صاحبة الضحك وملكته وجود الصبية الجميلة مع جدّها فهمست (العراس* مناسبة لعرض الجمال لعل عريس سعيد يمرُّ ويرى وينتقي) لكن نظرة عاتبة من الصديقة الهادئة نبهتها لهيبة المكان وقداسته فعادت لصمتها المؤقت.
غير أنَّ الرجل، وبفضول شعوب هذا البحر -الموصل بين ضفاف كثيرة حوله-، سأل هامساً السؤال المعتاد في الرفقة التي نصنفها بالصدفة من أين؟ قالتا من ليبيا.. فابتسم الرجل وبدا ذاهلاً لوهلة فاتنبهت الشابة لإبتسامته فواصل متعجباً أعرفها جيداً أعرف درنة! فكادت الضحكة أن تنفجر بركاناً فتتلف هدوء ووقار المكان فاطبقت فمها وواصل الرجل أعرف الميناء وأعرف أزقتها واحداً واحد وحتى أسماء عائلاتها. كنت أحمل شكك* السمك نظيفاً وجاهزاً للطبخ وأمر على البيوت الدرناوية أبيع وأشرب الشاهي بالنعناع والزهر وقطعةمن خبز التنور وأشكر الجميع وأعود إلى قريتي الصغيرة في كريت مساءً…
صمتت السيدة الوقور وحضرت في المكان مدينة طيبة بلا حظٍّ، فاستجلبت غيماتُ دمعٍ نديّ للشابة الضحوك.
** لازال لدى الساردة ماتقول…
* جَثّمِتْ الحبايب: المعنى هنا أنها تغبطهم بهولاء الأمريكان الشقر.
* العراس: الأعراس.
* شكك: مجموعة اسماك خمسة أو عشرة.. مربوطة بسعف النخيل ومحمولة على قصبة طويلة يضعها على الكتف الصيادون الرقريق – وهذا إسمهم بين الدراونة نسبة لكريت-.