كان عمي محمد الحاجب بالمحكمة، قصیر القامة ممتلئا مثل كرة شبه مستدیرة، أسمر البشرة، انشدت جلدتھ السمراء على استدارة وجھه حتى تكاد أن تتمزق، مما أسبغ عليه بھاء ونضارة.. تراه فتعطیه نصف عمره…
كانت ابتسامته الصبوحة واسعة تنفرج عن أسنان بیضاء ناصعة كمكعبات الجلید، تصطف الواحدة جنب الأخرى في ترتیب غیر مألوف. أما عیناه، فكانتا واسعتین تحدقان في الفراغ، تنطویان على نظرة حزینة منكسرة، تنبيء عن حزن دفین…
“محكمة”! كانت ھذه وظیفته.. أن ینداح صوته عالیاً قویاً یشق الممرات ویؤجج رھبة في أركان المبنى.. “محكمة”! تلتفت الرؤوس، وتزوغ العیون، وتتعثر الخطى.. حتى تقع علیه، حینھا ترتسم على الوجوه علامات الاستغراب، تعقبھا ابتسامة، لتستأنف الخطى تواترھا…
كنت أحب الحدیث إلیه، والتشبع بابتسامته الواسعة الدافئة، كانت قامتانا متقاربتین. قال لي یوماً بصوت خفیض “.. لو احتجت طباخة یا أستاذة.. زوجتي ایدیاتھا ذھب”. ابتسمت، ضغطت على یده البضة السمراء، وأومأت له برأسي…
وبعد أسبوعین كانت مناسبة عودة والدي من الحج.. ضجت الحركة في البیت.. وشحذت الھمم، وعلت المطالبات “بطباخة” لإعداد قصاع الكسكسي “سلامة الحجاج”! تذكرت حینھا عمي محمد وطباخته الماھرة، ھرولت صباحاً إلى المحكمة ولم یكن ذلك لسجال قضائي، أو مرافعة بل بحثاً عن عمي محمد موفیة بوعدي.. مستجدیة طباخته الماھرة، تنقذني من “سلامة الحجاج”.. والأفواج القادمة للتھنئة!
لم أعثر على عمي “محمد” في ذلك الیوم، وبینما كنت أھم بالخروج من ساحة المحكمة، وجدته یقف على قارعة الطریق، ینتظر سیارة أجرة. وقفت له، حملق في بعینیه الفارغتین، فتحت النافذة.. وصرخت بعجالة “اركب یا عمي محمد”! استمر یحملق بعینیه، إلا أن نظرة ذعر قفزت منھما. صرخت مرة أخرى “یا عمي محمد اركب… ماعرفتنیش؟”. قفز مبتسماً إلى المقعد الأمامي وھو یزحزح معرقته الصوفیة السوداء نحو مقدمة رأسھ الكبیر المسطح. ازدادت ابتسامة فمه الفاغر عرضاً وھو یعتدل في جلسته ویضم ساقیه، ویتمتم بعبارات البسملة والاستغفار.
أدرت مقود السیارة.. وأنا أدوس على الوقود… بینما یعلو صوتي مرحبة به وسألته عن صحته وأولاده.. كان یتمتم الحمد، وكان ھذا مدخلا لطلب یدي الطباخة زوجته.. انفرجت أساریره، لأعقبه بسؤال آخر “وین حوشك نوصلك.. ونشوف الحاجة”…
– یا سلام یا بنتي.. تأنسینا.. ھیا.. عمارات زاویة الدھماني…
عدت بالمقود إلى الیسار وانطلقنا معاً.. یبتسم أحدنا للآخر، وقد شع الدفء في المكان.. نزلنا.. وصعدنا درجات كثیرة.. حتى علا صدر عمي “محمد” تحت جاكتته البنیة، بینما زادته كلماته الترحیبیة بي إنھاكاً. وقفنا أمام باب خشبي علقت علیه ورود زینة بلاستیكیة.. فتحت سیدة خمریة اللون، فارعة الطول، عریضة المنكبین، یكاد رأسھا یلمس حافة الباب الخشبیة، نظرتھا جدیة، لا تبتسم. نظرت إلي، بینما انفلت عمي محمد إلى الداخل وقد علا صوته من جدید كأنھ في المحكمة ینادي، كانت قوة جسده الضئیل المستدیر تكمن في صوته! كانت تلتحف رداء تقلیدیا مخططا أنیقا، بتخلیلة طرابلسیة صمیمة، یتھدل على جسدھا الفارع كأنه رداء الرومان، لیكشف عن ثنیات ثلاث أسفل التخلیلة في خطوط مستقیمة تشده نحو الأسفل، وتعقد “تستمال” على رأسھا یختلف شكله عن ردائھا.
كانت باسقة كشجرة، بینما عمي محمد بقصره واستدارة قامته لا یبزھا إلا بصوته العالي الذي بالكاد یتجاوز طولھا، خطوت إلى الداخل بتردد بینما صوت عمي محمد یجذبني بقوة إلى وسط الشقة، كانت الأزھار البلاستیكیة مرشقة في كل زاویة، أدرت رأسي بفضول أبحث عن نتاج الشجرة الباسقة والصوت الجھوري، فما وجدت إلا أجسادا سمراء ضئیلة، یابسة كأعواد نباتات البریة في الصیف…
استمر صوت عمي محمد یتأجج بین أركان الشقة كأنه في المحكمة یؤدي دوره، ینادي على بناته وأبنائه، ویعرفھم بي. كانت ما تزال واقفة، بقامتھا الفارعة، وابتسامة باردة، بتخلیلتھا الطرابلسیة الصمیمة، وكنت لا أزال أقف في وسط الشقة. لم یتكلم سوى عمي محمد، وعدني بحضورھا في الیوم المحدد، بینما كانت ھي تقف في ذات المكان لم تبرحه، تنظر إلي، لمحت ھزة خفیفة من رأسھا، حین اتفقت مع عمي محمد على ساعة حضوري باكراً لأخذھا…
خرجت وصیاح عمي محمد یدفعني إلى خارج الشقة. حین وصلت إلیھا في الموعد، وجدتھا في انتظاري، تلتحف فراشیة بیضاء ناصعة، تعض طرفھا بأسنانھا، بینما یداھا تحتضنان عدة الطبخ، كانت صامتة طوال الطریق.
تخیرت مكاناً في الحدیقة، نزعت فراشیتھا وطوتھا بعنایة، وضعتھا على الكرسي وجلست علیھا. ووسط دھشة الجمیع، وقبل أن تھم بالحركة وضعت مریلة فوق ردائھا، وربطتھا على وسطھا. بدأت تتحرك ما بین الطناجر بتؤدة وسلاسة، تحرك الملاعق بأناقة متفادیة أن تصدر صوتاً، ولا تلعقھا. قبل أن تفرك الكسكسي الیابس بالماء، غسلت یدیھا جیداً، ثم جففتھما بفوطة نظیفة معلقة في مریلتھا.
كانت وھي تفرش حبیبات الكسكسي في المعاجن تتأكد من عدم التصاق الحب على جدرانھا أو حواشیھا، تكرر دوران قطعة القماش النظیفة على الجدران والحواشي، لا تستعمل یدیھا إلا نادراً. كانت “تحبب” الكسكسي بحرفیة، بأن تغمر بتؤدة حاشیة “كاشیك السقو” في الصلصة، تكشط بھ طبقة الدھن الطافیة دون أن ینفلت خیط أحمر من الصلصة إلى الطبقة البرتقالیة، توزعھ على حبیبیات الكسكسي وقد تفتحت من البخار لتنكمش، ثم تقلبھا حتى تحیل لونھا إلى برتقالي دون أن یصل حد الاحمرار، ولا تبقى حبة بیضاء واحدة…
تغطس “كاشیك السقو” حتى منتصفه في “الطنجرة” تصطاد به قطع اللحم الضأن، ترصھا بعنایة فوق الكسكسي في المنتصف الواحدة تلاصق الأخرى، تعاود الغرف لتنھمر بالصلصة الحمراء كالطوفان على حبیبات الكسكسي حتى تغرقھا، فتمتصھا بشراھة كالأرض التي انتعشت بعد جفاف، لتعاود ھمر الصلصة علیھا من جدید…
تنتقل إلى طنجرة أخرى، تھز “الكاشیك” وسط صلصة البصل السمیكة، ترفع به خیوط البصل الذابل المطعمة بالحمص، ترصھا على الحبیبات الغارقة، وھي تستعین بملعقة أخرى، حتى تغطیھا تماماً، تكفي “كاشیك السقو” على وجھه فوق إحدى الطنجرتین…
تمسح یدیھا مجددا، تدفن اصبعیھا في برطمان زجاجي، تقبص بھما غبار القرفة وتنشرھا علیھا كالشبك، فتتجمد بلونھا البني على خیوط البصل الذابلة. تختلط الألوان الحمراء والبنیة بتدرجاتھا، كما تختلط رائحة الصلصة والبصل والقرفة، لتحبس جمیعھا بغطاء الأطباق المزركشة المصنوعة من سعف النخل…
تمسح یدیھا في كل مرة، تتبعھا العیون وھي تتحرك بین الأواني بخفة، تستخدم الأدوات المعدنیة برشاقة كأنھا تقود أوركسترا موسیقیة، تجلس على فراشیتھا بین المعزوفة والأخرى، تمد ساقیھا الخمریتین، فما یبین من تحت ردائھا سوى القلیل…
كانت تبتسم ولا تتكلم إلا إذا أرادت شیئا. ما إن أكملت طبیخھا، حتى نزعت المریلة، اغتسلت، التحفت بفراشیتھا البیضاء، أخذت عدتھا، جرجرت كرسیھا بعیداً عن مكان الطبخ، تاركة الحال على ماھو علیه، وجلست تنتظر من یعیدھا إلى بیتھا…
قلت لھا ونحن نھم بالخروج أنھا طباخة ماھرة، تبسمت بخجل، ثم قالت “أنا مش طباخة، أنا تربیت في السرایا” وأردفت بكلمة ظل صداھا یتردد في فراغ السیارة طوال الطریق إلى بیتھا.. ”الزمان…“…
التفتت إلى وھي ترفع طرف فراشیتھا وتضع قدمھا خارج السیارة، ومالت برأسھا إلى الخلف، وقد استدار وازداد اسمراراً بحواشي الفراشیة البیضاء، فرأیت عینیھا… كانتا منھكتین ولم تكونا فارغتین كعیني عمي محمد، دنت مني.. وقالت دفعة واحدة.. “ما تدفعیش لعمك محمد، أدفعي لي أنا”، اضطربت.. وأومأت إلیھا برأسي وعداً….
طرابلس 19.6.2009