– حوّل هالشقفة من رقبتك، راهو ما يلبس السلسلة كان……….حاشاك، وللا تحساب روحك بنت.
– ريته كيف لابس سلسلة كأنه بنت.
كان كثيراً ما يسمع هذه الكلمات إمّا صراحةً وعلناً وإما همساً، وذلك عندما تظهر سلسلة يضعها حول رقبته، رغم حرصه الشديد على عدم خروج هذه السلسلة من تحت ملابسه، كانت سلسلة ذهبية من النوع الغليظ قليلاً، وفي نهايتها قلادة دائرية كبيرة منقوش عليها لفظ الجلالة. وكان دائماً يرد عليهم:
– خير…خير خير إن شاء الله خير.
كان دائما عندما يستلقي على فراشه للنوم يخرجها من تحت ملابسه يقبلها من الجهتين ثم يضعها على شفتيه ويتنهد، وفي أحياناً كثيرة كان يذرف الكثير من الدمع، وأحياناً يبتسم ابتسامة خفيفة ثم يذهب في سبات عميق، وعندما يستيقظ في الصباح يقبلها من الجهتين ويرجعها إلى مكانها، كان حريصاً أشد الحرص على ألا يراها أحد تتدلى من رقبته، وذلك لأنه لا يريد أن يسمع كلام بعض الناس الجارح.
كان يعلم ويدرك ويعي تماماً أن لبس الرجل للذهب حرام، وكان دائماً يقول بينه وبين نفسه: يا رب أنت أدرى بحالي فسامحني واغفر لي.
استلقى على فراشه في إحدى الليالي، وكعادته أخرجها وقبلها من الجهتين ووضعها على شفتيه وتنهد شرد ذهنه قليلا، رجع بذاكرته إلى أكثر من خمس وعشرون سنة.
كانت مستلقية على فراشها تعاني مرضاَ شديداً، وكان الطفل الصغير الذي لم يتجاوز الخمس سنوات واضعاَ رأسه على صدرها، كانت عندما تفيق تقوم بتقبيله من خديه وجبهته ولا تتوقف عن التقبيل حتى تذهب في غيبوبة أخرى.
فاقت من غيبوبتها قبلته، وطلبت من إحدى النسوة الموجودة بجانبها أن تساعدها قليلا، قامت المرأة بوضع يدها تحت رأسها رفعته قليلاً، وأشارت على المرأة أن تنزع سلسلتها ذات القلادة الدائرية الكبيرة المنقوش عليها لفظ الجلالة، أن تنزعها من رقبتها وتعطيها إيّاها، نزعتها وأعطتها إياها، فقامت بوضعها في رقبة الطفل وأخذت تقبله بعنف، ذهبت في غيبوبة أخرى وضع رأسه على صدرهاً، كانت النسوة من حوله يتهامسن:
– يا ناري.
– يا كبدي.
– مسكين منو بيه.
– غير كيف بيعيش.
لم يدر، ولم يعي ما تقوله النسوة.
أفاقت من غيبوبتها قبلته ضمته بقوة أكثر، مسكته من زنديه، ضغطت أكثر، انغرست أظافر يدها اليمنى بزنده الأيسر، ضغطت أكثر، انغرست الأظافر أكثر، سال دم زنده.
كان يسمع كلمات وأصوات لم يعيها في حينها:
– أذكري الله.
– شهْدِي.
امتزج الكلام بالدموع بالألم، امتزج كل شيء بكل شيء.
أزاحوا يدها اليمنى من زنده الأيسر الصغير، مسحوا الدم ووضعوا قليلاً من “التنتورة”* على زنده الأيسر، كان ظفر إصبعها السبابة أخذ شيئاً من لحمه، كأنها أرادت أن تأخذ شيئاً منه معها إلى مكان أخر إلى عالم أخر.
مرت سنوات عديدة ولازالت السلسلة تتدلى من رقبته، ولازال يقبلها من الجهتين، ولا زال يضعها على شفتيه عند نومه، ولازالت الندبة بزنده الأيسر، ولازالت ألسنة الناس تلوكه بين الحين والأخر، ولازال يفتقد شيئاً ما كان دائماً يقول عنه:
– حاجتين ما شبعتش منهم بكل ، أمي، وحنان أمي.
* التنتورة: دواء علاج الجروح وهو أحمر اللون.