حاوره / مهنّد شريفة
السجن سانحة تقود إلى أفق المعرفة هذا ما نستخلصه من تجربة الشاعر والروائي إبراهيم الزليتني الذي خاض معاركه مع عنجهية السلطة وأدواتها القمعية طوال أربعة عقود وُضعت فيها العربة أمام الحصان، نتوقف في هذا الحوار مع شاعر رفع لواء قصيدته أمام عُري الظلم الفاحش وجدّف في بحر الرواية ليُكرِّس لعُصارة تجربته عُمقًا، إبراهيم الزليتني ولد وترعرع في مدينة بنغازي عام 1955م ضابط برتبة عميد يشتغل مدرِّسًا للتاريخ العسكري، سبق أن تعرّض للاعتقال التعسفي عام 1975م ضمن حملة الاعتقالات التي كان ينتهجها النظام السابق في حق معارضيه وحُكم عليه بالإعدام ومن ثم بالسجن المؤبد إلى أن خرج عام 1988م ورُدّ إليه اعتباره الأخلاقي والسياسي عقب ثورة السابع عشر من فبراير عام 2011م، أصدر مجموعته الشعرية الأولى بعنوان (نخيل وقضبان) ورواية صدع في الجدار.
صدر لك قبل شهرين )صدع في الجدار (وهي رواية ترصد من خلالها تجربة السجن لسياسي ليبي سُجن إبّان حقبة النظام السياسي القديم، ما هي الأبعاد التي ركّزت عليها في متن سردك؟
في كل رواية يوجد بعدين، بعد ذاتي يعود إلى العالم الداخلي لكاتب الرواية وبعد عام يتعلق بالمحيط الذي تدور فيه أحداث الرواية. في رواية صدع في الجدار يطغى البعد الذاتي على ثنايا الرواية ويفصح عن العوالم الداخلية للكاتب في كثير من الأحداث المتلاحقة التي مر بها خلال فترة زمنية محدودة تكثفت فيها أحداث استثنائية لفعل غير مسبوق في تاريخ السجن السياسي الليبي.
الاعتقال التعسفي بغية مصادرة الأفكار نوع من العبث تُصرّ عليه حكومات العالم الثالث، كيف نظرت كمعتقل للعالم من قضبان سجنك ؟
السجون في العالم الثالث مناخ رحب وحر للأفكار التي يعتنقها السجناء. حرية الفكر والتعبير متاحة في سجون العالم الثالث ومفقودة خارج أسوار المعتقلات، قد يبدو ذلك غريباً لكنهُ الواقع الذي عشتهُ خلف القضبان، كنا كسجناء سياسيين نتناقش ونتصارع فكرياً كل يوم نعبر عن أنفسنا بكتاباتنا وأغانينا وأعمالنا التشكيلية كل هذه الأمور لم تكن متاحة خارج الأسوار، القمع كان يسود كل جوانب المجتمع الذي كان يسمى مجتمعاً حراً وهو أبعد ما يكون عن الحرية. كنت أشعر بحريتي الفكرية خلف القضبان أكثر مما شعرت بها بعد خروجي من السجن هكذا كانت الأمور في ليبيا مختلفة في كل شيء لحد الشذوذ.
بدأت مسيرتك الإبداعية كصاحب نصّ شعري ما الذي أغراك في التورط في الرواية أمن منطلق التخلص من رواسب الماضي؟
إرهاصات الشعر الأولى كانت معي منذ المرحلة الإعدادية في السجن تبلورت تجربتي الشعرية وبدأت تنضج مع كل قصيدة جديدة وجدت نفسي أكتب الشعر بشكل تلقائي عفوي دون سابق إعداد أو تحضير. السجن الانفرادي الذي امتد لحوالي عامين كان ينزف شعراً من خلال تلك القصائد الأولى التي أعتز بها كثيراً أما الرواية فكانت مرحلة أخرى بعد خروجي من السجن حيث ولدت الحاجة للتعبير المستفيض عن مشاعر وأحداث قد لا تستوعبها قصيدة الشعر.
عقب خروجك من المعتقل انصرفت مباشرة لتجريب أدواتك الفنية في حقل الرواية هل من خلال الرواية تحاول استثمار تجربتك؟
الرواية نتاج فني مغاير عن الشعر غير أني أعتقد أن الشعر أبقى لدى المتلقين من الرواية، إنهُ أكثر تكثيفاً وقبضاً على اللحظة الشعورية، العلاقة بين الرواية والشعر علاقة جدلية فكثير من الروائيين العظام كانوا شعراء عظام والعكس غير صحيح بالنسبة لي الرواية عالم ساحر مليء بالمفاجآت أستطيع من خلالهِ التعرف على ذاتي ومحيطي وعلاقاتي بالعالم الخارجي.
هناك قول شائع يفيد بأن مرور الأوغاد يُنضج، ما حجم مساحة النضج التي منحها لك (الأوغاد)
الأوغاد جزء من حياتنا التي تحتمل كل المتناقضات نحن أيضاً نتحول إلى أوغاد في بعض المواقف الحياتية، في السجن وخارجهِ نواجه الأوغاد كثيراً ونتفاعل في صراعنا معهم، هذا التفاعل ينعكس على الشعر والرواية وكل أصناف الأدب، دائماً هناك ذلك الصراع الأزلي بين الإيجابي الذي نحاول تجسيدهُ والسلبي الذي يتسلح بهِ أولئك الأوغاد في مواجهة الأمل والسلام والمستقبل.
هل السجن موضوعيًا بيئة خصبة تُهيئ الظروف لصاحب الفكرة لتطوير أفكاره؟
في تقديري أن السجن في دول العالم الثالث أفضل بيئة خصبة لتطوير الأفكار والملكات الفنية قد يبدو هذا عجيباً لكنها الحقيقة المرة ففي السجن تلتقي كل الاتجاهات الفكرية والسياسية التي تزج بها الأنظمة الدكتاتورية خلف القضبان، تتلاقح الأفكار والرؤى بين السجناء من مختلف المدارس الفكرية فتتطور وتنمو وقد تتصارع وتتصادم في كثير من الأحيان لكنها في المحصلة تورق وتزهر أدباً وشعراً ودراسات فكرية تعبر عن صيرورة الحياة والمجتمع.
نحوت بصورة مباشرة أثناء سردك للوقوف على تفاصيل الأماكن ودقائقها بلغة غلبت عليها روح المجاز، إلى أي مدى تركت الزنزانة حميميتها فيك؟
أثناء الكتابة الروائية أجد نفسي غارقاً في التفاصيل والوصف الدقيق للاماكن والشخوص ربما كنتُ أريد دون وعي مني جر القارئ للغوص في تجربتي الخاصة، قد أنجح أحياناً وقد تترهل مني السطور والحكم في ذلك يعود للقراء، بيد أني أسعى دوماً أن يعيش القارئ تجربتي كأنها تجربة خاصة به ومن هنا تبدو حميمية الأماكن بالنسبة لي بما في ذلك الزنزانة الانفرادية والغرفة الكبيرة التي تضم عشر سجناء.
أما تزال الأفكار رغم الادعاء المخالف تُشعر أباطرة العروش بالرُهاب؟
الأفكار تغير العالم كل الأحداث الكبرى في تاريخ البشرية بدأت بفكرة، الأنظمة المستبدة تخشى أي تغيير قد يطيح بها ومن هنا يأتي خوفها من الأفكار ولذلك تقوم بقمع المفكرين والأدباء والشعراء وتلقي بهم خلف أسوار السجون في محاولة يائسة لإيقاف تقدم عجلة الحياة، لكن الطغاة يخسرون في النهاية ويسقطون تحت ضربات الأفكار التي تتحول إلى خيول وأجنحة وفراشات ملونة تعانق المستقبل كل مطلع شمس.
هل تجد بأن المجاز وسيلة تُساعد الكاتب على التحايل على تجذر القبح الواقع؟
المجاز لون من التحايل يلجأ إليهِ الروائي أو الشاعر لكنهُ تحايل فني جذاب ومطلوب في كثير من التعابير الشعورية، المجاز يرتفع بالجملة المكتوبة ويمنحها أفقاً أعلى وأجمل والمهارة في استخدام المجاز واختيار مواضعهِ تضفي على كل كاتب لون ومذاق مختلفُ عن غيرهِ من الكتاب، أحب المجاز في اللغة ولا أدعي السيطرة عليه.
كيف ترى لمسألة التأريخ عبر النصوص الروائية؟
الرواية تعبير تاريخي عن مرحلة معينة ولكنها ليست وثيقة تاريخية لتسجيل الأحداث التي يمر بها المجتمع ففي الرواية يتداخل الماضي والحاضر والمستقبل ويختلط الواقع بالخيال من خلال التذكر والتداعي والحلم، لكن الرواية أيضاً تصلح للتعرف على العناصر الفاعلة في المجتمع والصراعات التي يموج بها خلال فترة تاريخية معينة ومن هنا تعتبر الرواية منتج تاريخي وليست مرجع للتعرف على التاريخ.
كلمة أخيرة:
أشكر الأستاذ مهند شريفة الذي أجرى معي هذا اللقاء وأشكر موقع بلد الطيوب على اهتمامهِ بالمبدعين الليبيين وأتمنى لهم التوفيق.