يستعدُّ صالح وابنه السيد لموسم الحرث، جهَّزا البذور الجيدة، والمحراث الخشبيَّ، والحصان لجرِّ المحراث. في هذه السَّنة سقطت الأمطار قبل أوانها “بدريه”. يعتقدون كما جرت العادة أنَّ السَّنة “البدريه” سنة خير، يعملان في جدٍّ ونشاط، يبنيان السدود بالأحجار الصغيرة؛ كي يتمكَّنا من حجز التُّراب والماء أطولَ فترةٍ ممكنة، قاطع عملهما أحدُ أبناء عمومتهما قائلًا:
– هناك بوارج تضرب ساحل البطنان، والنجوع المجاورة يحشدون لمواجهة الغازي “الطليان”.
قال سيد: أين يجتمعون؟
– في بئر عكرمة.
– انتظرني أحضر بندقيَّتي، ونذهب معًا.
رجع سيد للبيت مستعجلًا، يلحقه والده. عندما وصل فم أو مدخل البيت، اندهش من وجود القابلة “سدينه” بالداخل، تنهَّد وأغمض عينيه متأسفًا، وشدَّ رواق البيت بقوة، عرف أنَّ موعد قدوم ابنه قد حان؛ ابنه الذي انتظره عشرين عامًا؛ عشرين عامًا من الدعاء المتواصل، عشرون عامًا من شماتة الأقارب قبل الأعداء، لماذا كلُّ هذا الاستعجال يا بني؟!
لم يدخل البيت، بل نادى أُمَّه، جاءت مسرعةً مستبشرةً، قالت:
– يا ولدي قريبًا يأتي صالح.
ابتسم لها ابتسامةً شاحبةً لا تدل على الفرح، اعتقدت أنَّ ابنها قلق على المولود، حاولت طمأنته قائلةً:
– القابلة “سدينه” من أفضل القابلات في كلِّ نجوع المنطقة.
بإيماء حاول رسم ابتسامة، وقال بنبرة يشوبها الحزن:
– آتيني بالحلاط والبرنوس.
تغيرت ملامح أُمِّه على الفور:
– خير إن شاء الله!
رد مقتضبًا: كل الخير.
اقتربت أمه ومسكت قميصه: ما بك، هل جرى لولدك مكروه؟! هل تشاجرت مع أبناء عمك؟
– لا، إني في عجلة من أمري.
وقاطع حديثه وصول والده شاحب الوجه، تركت سيد واتجهت نحو والده: ما بكم؟
قال: هناك عدو يتربص بالشاطئ.
– عن أي شاطئ تتحدث؟
زفر زفره: شاطئ البطنان.
لطمت وجهها: هل تقصد غزو؟
وسقطت على الأرض تبكي. أمسك سيد كتفيها بحنو: لماذا هذا البكاء؟!
وقبَّل رأسها:
– لا تخافي، هؤلاء إن رأوا من بأس شديد (إن رأوا منَّا بأسًا شديدًا) وكثافة من النيران؛ فروا راجعين بإذن الله، لا تقلقي.
قالت والدموع تجري على خدَّيها، وكأنَّها تتوسَّل إليه بنظراتها ونبرة صوتها: ابْقَ يا بنيَّ..
وما زالت عيناها معلقةً بفلذة كبدها، ابْقَ قليلًا حتى ترى ابنك، ولسان حالها يقول: ابْقَ يا ربيع العمر، أبقى يا ثمرة الفؤاد، أبقى فداك عمري وروحي.
ساعدها في الوقوف وقال مبتسم: هل ترضين أن يقال سيد جبن عن لقاء عدوه؟ هل تستطيعين تحمل هذه الكلمة؟
نظر في عيناها: هل ترضين أن يقال سيد تولي يوم الزحف؟
– لا والله.
– ألم نأتي لمثل هذا اليوم.
بإيماء من رأسها: نعم.
والده واقف واضعا يديه خلف ظهره، يشاهد أبنه بحسرة، لا يستطيع منعه، الذود عن الأرض والعرض أولا، والعمر لم يعد كالسابق ليرافقه، كي يحميه أذا أضطر الأمر، ولا يستطيع توديعه فقد تخونه عينيه وتذرف ما في جوفها. اكتفى بالمشاهدة من بعيد.
أحضرت أمه الحلاط وبندقيته ورجعت لتجلب البرنوس، سمع صوت زينب تتأوه، زينب حبيبته وبنت عمه، تجرعا مرار الصبر سويا، صما أذانهم عن كلام الناس كي يعيشا، ولا يستغني أحدهما عن الأخر، وها هو الله يتوج نتاج صبرهم خيرا، رق قلبه لسمع صوتها تتألم، وتمنى أن يبقى بجانبه لكنه الوطن.
ربط الحلاط على صدره وارتدى البرنوس، ووضع البندقية على كتفه، وأرد أن يمتطي الجواد، اقتربت منه أمه ففضل تقبيل رأسها قبل ذهبه، احتضنته بقوة، فقال:
– هوني عليك ساعات ويأتيك حفيدك وتنسيني.
نظر لوالده، وقال: السلام عليكم.
أمتطى جوده وانطلق بسرعة يلحق أبناء عمومته لبئر عكرمة. أخرجت أمه كاس ماء وأرادت سكبه كي يعود بسرعة، لكن الكأس وقع من يدها، خفق قلبها على أثر وقوع الكأس، نظرت لزوجها تنتظر تفسيرا لما حدث، هل سقوط الكأس يعني أصابت ابنها بمكروه؟ حاول بكل ما أوتي من قوة أن يرسم على وجهه ابتسامه، وأردف قائلا:
– إن الله قادر على جمعنا به من جديد.
واقترب منها وربت على كتفها بحنو يؤازرها: لا تقلقي، يا أم سيد، الم نقول من قبل.. قولوا للعدو، أذا حمل أبنائنا السلاح، أعدوه ساحات للنواح.
ابتسمت قالت: يا الله.
بعد فترة قصيرة سمعا صوت صراخ المولود، طار قلبيهما من الفرح، دخلت أم سيد للبيت. هنيهة ورجعت تزغرد بأعلى صوتها، واحتضنت زوجها: مبروك جاءنا صالح مبروك.
رفع يديه يشكر الله على نعمته.
انطلق سيد مع خيرة أبناء نجعه والنجوع المجاورة، لصدِّ العدو الغاشم، وإجباره على الرجوع، تجمعوا في بئر عكرمة، ترجَّلوا من على ظهور أحصنتهم، وكانوا حوالي مائتي رجل، اجتمعوا حول رجل يبلغ من العمر تقريبًا خمسين عامًا، يبدو أنه أكبرهم سنًّا؛ أسمر البشرة، معقوف الأنف، لحيته خطَّها الشيب، فارع الطول، عريض المنكبين، يرتدي جردًا أبيضَ، ويضع شنة حمراء فوق رأسه، تحدث بصوته الجهوري قائلًا:
– إن بوارج العدو تريد الإنزال في وادي العودة، وأرى مواجهتهم من ثلاث جهات؛ مجموعة تكون في الميمنة تأتي من رقبة الرمل، ومجموعة في الميسرة تأتي من أطبيرق، والمجموعة الثالثة تدخل بطن الوادي، ولا تشترك في القتال إلَّا في حالة نزول العدو على الأرض، وهذا -إن شاء الله- لن يحدث ونحن أحياء، هل هناك ملاحظة أو ترون شيئًا في الخطة؟
وافق الجميع، واصل حديثه:
– أحضرت معي خمسة صناديق ذخيرة؛ الميمنة تأخذ صندوقين، والميسرة صندوقين، وجماعة بطن الوادي صندوقًا.
أمتطى الجميع صهوات جيادهم، وانطلقوا بعد قراءة الفاتحة.