قصة

جنوب شرق السِّكّين

من لوحات إنسان ما قبل التأريخ.. أكاكوس، ليبيا

كنتُ في سلخانة صديقي “رؤوف لامين” حين أطَلَّ من الباب الشرقيّ رأسٌ غريبٌ لا نعرفه:

– سلامو عليكم.. تذبحو بنادمين؟

تسَمَّرَ سكينُ صديقي في الهواء أمام الجثة المقلوبة مـمّا اضطر الزبون إلى إعادة الصيغة النموذجية المحيّرة:

– سلامو عليكم.. تذبحو بنادمين؟

بادلتُ صديقي نظرات الاستغراب. لا نعرف على وجه الضبط ماذا يريد صاحبُ الرأس الذي لا نعرفه. هل يرغب في إيصال حكمة مّا مثلا. لا أعتقد.! فسذاجتُه تبدو واضحةً إلى حدّ الصدمة.. إن لم يكن يسعى إلى انتحارٍ احترافيٍّ على يد مختصّ، فهو على الأرجح يحتاج إلى جزّار يذبح له إنسانا يعرفه. أو ربما لا يعرفه. عموما، إنه يبحث عن جزّارِ بشرٍ يتعاقد معه.

– نذبحو مواشي فقط.!

بهذه الجديّة الـمُفرطة أجاب رؤوف لامين قبل أن يضيف:

– لكن شوف السلخانة اللي ورانا…

كنت موقنا أن حِسَّ الدعابة سيورطنا في لعبة أخرى. وهذا ما حدث حين دار الزبون حول الناصية قاصدًا السلخانة التي لم تكن موجودة أصلًا. ولأن سلخانة رؤوف لامين على الناصية ولها بابان أطلَّ رأسُ الزبون ثانية من الباب الجنوبي:

– سلامو عليكم.. تذبحو بنادمين؟

همس لامين بشماتة:

– هه.. يعتقد أننا سلخانة أخرى!

– أنا أيضا كان عليَّ أن أعتقد ذلك.. (إلى حدٍّ ما)، ما دمتم سلخانة واحدة لماذا أسرفتم واعتمدتم بوابتين.؟

– هذا موضوع آخر الآن.

– حسنا إذن.. تفضل حضرتُك بإجابة هذا الموهوب.

كنتُ أفكر في دروس الحياة التي علمتني أن العالم مملوء بالمجانين أصحاب المواقف القيّمة. يبدو أنّ هذا أحدُهم، يريد التعبير عن مشاعره تجاه العالم باحتجاج صريح وصاعق.. استمرَّ الزبونُ واقفًا بصبرٍ مُسالِم فيما سألت صديقي إن كان يعتقد أنَّ الزبون يسعى إلى ذبح أحدهم أم أنه يريد أن يضحِّي بنفسه…

– حسنا من ملامحه صاعقةِ الغباءِ أتصوَّر أنه ضحيةٌ مثلكَ.. لاحظ ابتعاد موضع عينيه عن مركز وجهه..!

كنتُ سأفكر كيف أنَّ هذا الزبونَ اللُّغزَ لم يقطعْ حوارَنا الذي لا بد أنه لم يفهم منه شيئًا.. لكن صديقي استعاد رباطةَ جأشٍ تليق بالباب الجنوبيّ وشرع يَنْظِم إجابةً مُحكمةً للزبون:

– نعم.. نذبح كلَّ شيء تقريبا… كلَّ شيء!

قال هذا ثم غاب في حالة من التوسُّع.. مدَّ بصرَه على وسع الباب الشرقي كأنه قرَّرَ أن ينسى الزبونَ ثانية قبل أن يُقاطعَ رأسي المقطوعُ تأملَه:

– حسنا ما عَلاقة موضعِ العينينِ بكونه ضحيةً مثلي؟

نظرَ بحزن إلى رأسي المركون في الصحن ثم رفع بصَرَه إلى جثتي المقلوبة واهتمَّ بتقطيع لحمي قائلا:

– تطوريًّا، حينما تكون عيناك على جانبي رأسِكَ يا صديقي هذا يعني أنك طريدة، لك أن تراقب الطيورَ والغزلانَ والأرانبَ. الحالُ مختلف إذا كانتا في مقدمة وجهكَ وتنظران إلى الأمام، أنت إذن ذئب أو إنسان..


23. ديسمبر. 2015

مقالات ذات علاقة

أمُّــونــا

محمد إبراهيم الهاشمي

نصريات المولى نصر الدين في المجتمع المدني

محمد دربي

قصيدة التأتأة

المشرف العام

اترك تعليق