سرد

رواية الحـرز (50)

يشرع موقع بلد الطيوب في نشر رواية (الحرز) للقاص والروائي “إبراهيم عبدالجليل الإمام“، على أجزاء بشكل أسبوعي!! قراءة ممتعة للجميع…

مدينة غدامس (الصورة: عن الشبكة)

50

انها نفس الجدران التي صادفتها في رحلتها الأولى.. لم يطل وقوفها كثيرا.. عليها قطع نفس المسافة للوصول إلى نفس المكان.. همت بالسير.. شعرت بشيء ما يتشبث بثوبها.. ارتعشت.. بسملت.. تلفتت.. وجدت الطفل.. ينظر نحوها بعينين حمراوين مخيفتين.. كادت تفر منه هلعا.. لكن شيء ما في نظرته كان يبث استجداءا واستنجادا.. صوت ما ينبعث من داخلها يحثها على المسير قدما.

 أخذت بيده وسارت نحو هدفها.. شعرت بفرحته.. تذكرت أن عليها أن تظل صامتة.. أشارت إليه بأصبعها ان يلتزم الصمت.. هز رأسه الذي صار أكبر مما كان عليه قبل قليل.

 لم تجد صعوبة تذكر في التعرف على مسارها السابق.. اخطأت مرتين فقط لكنها استدركت خطأها وصححت المسار.. كان الطفل في كلا المرتين يتوقف رافضا السير.. لكنها تكتشف بعد عدة أمتار خطأها فتسارع في تصحيحه.. وصلا إلى الساحة الواسعة.. لم تقف طويلا بل سارت نحو أحد الأبواب الكثيرة التي تطل على الساحة.. كان صوت عزف الغيطة واضحا.. دفعته ودخلت.. سارت في الممر الطويل.. لم تعد تسمع صوت العزف الآن.. وقفت وجها لوجه أمام ابنها الذي شحب لونه.. كانت يسراه تمسك بالتميمة المعلقة على عنقه.. ابتسم حين رأها.. تقدمت نحوه.. زحف نحوها بحماسة.. لا يزال الطفل الآخر متشبثا بثوبها.. كانا نسختين متطابقتين… فقط حجم الرأس مختلف… لولا ذلك لحارت في ايهما طفلها!

 فجأة ظهر من مكان ما.. ثعبان ضخم أحمر اللون كأنه شعلة نار.. وقف بينها وبين طفلها الذي شرع يبكي في خوف.. وقف على مؤخرته… فح فحيا مخيفا.. برز لسانه المخيف المشقوق إلى ثلاث.

تراجعت في رعب.. بسملت ونفثت ثلاثا في صدرها.. لكن الطفل أوقفها.. جالت بعينيها في المكان بحثا عن منقذ او منفذ للفرار.. لكنها اكتشفت أن المكان محاط بأمثال ذلك الثعبان.. يغلقون عليها كل المنافذ.
قهقه مخيفة ملئت سمعها.. بثت عن مصدرها… لم يكن الثعبان الأحمر صاحبها بلا شك.. ظهر من العدم تيس ضخم بقرنين أحمرين طويلتين ولحية سوداء مدببة من أعلى الجدار.. نفث لسان نار حمراء في وجهها لكنها استطاعت تفادبها .
زحف ثعبان بحماسة نحو طفلها.. اتجه اخر نحوها.. أما الثالث فسار يبغي ثالثهما.. اقترب الثعبان من ابنها فأسرعت نحوه.. قفزت لتلتقطه من أمام أنيابه الشرسة.. كان ثعبان آخر يقترب بوقار نحوها.. يبدو غير مستعجل للقضاء عليها.. بقيت عدة خطوات ليقطعها قبل أن ينقض عليها.. شعرت بشيء ما يشد ثوبها من خلفها.. التفت في فزع.. كان ذلك طفل امة الخفاء… يشير بيده مبتسما نحو مكان ما.. صفق كذلك بيديه.

 انها الحية السوداء.. تلك التي اعتادت على رؤيتها من قبل في بيتها.. لا يمكن ان تخطأها عينها..شعرت بشيء من الراحة.. لكنها تذكرت انها محاطة بثعابين شرسة.

قفزت الحية السوداء في رشاقة في نفس اللحظة التي انقض فيها الثعبان الأحمر للنيل منها.. اشتبكا.. تعاصر الكائنان.. اختلطا فصار اشبه بحبلين مجدولين معا.. فكرت في الانقضاض لمساعدة الثعبان الأسود.. لكن الطفل أشار إليها برأسه أن لا تفعل.

 يبدو ان الثعبان الاحمر أضعف من خصمه بكثيرا اذ سرعان ما استسلم وخر صريعا .
صاح التيس الضخم من عليائه بكلام لم تفهمه.. توقعت أنه توبيخ او امر لثعبان آخر ليخلصهم منها.. ظهر ثعبان آخر يرغب في خوض المعركة بديلا عن نظيره.. تقدمت نحوه.. لم يكن مصيره بأحسن من سابقه..
اشتبكت مع ثالث قرر خوض المعركة بعد صياح التيس الغاضب للمرة الثانية.. فهمت منه انه لن يغفر لهم ما لم بتخلصوا منها.
هذه المرة تقدمت ثلاثة ثعابين.. ثلاثة تنفث نارا من فمها.. زحفوا نحوها من ثلاثة جهات.. تلفتت الحية السوداء المنتصبة أمامها.. ما أن هموا بالانقضاض حتى اختفى كل شيء.. خلت الساحة فجأة من كل ثعبان.. سواء اولئك المهاجمين ام الوحيد المنافح عنها.. حتى التيس الضخم اختفى.. سمعت ما يشبه الخوار يبدو أنه يندب خسارته في معركة لم يحسن قيادتها وخسرها بسرعة.

جالت ببصرها.. لا أثر لشيء حولها.. سمعت صوتا من داخلها يحثها على الإسراع.. وقفت بين الطفلين… طفلها من الرضاعة وطفل رحمها.. وقفا جنبا إلى جنب.. احتضنتهما معا… قبلتهما كثيرا.. سالت دموعها.. تشبثا بها.. استبدلت التمائم المعلقة في رقبة كل واحد منهما بتميمة الآخر .
 اختفى طفل امة الخلاء فجأة.. صارت هي وابنها الآن وحدهما في المكان.. حثها الصوت القادم من داخلها على الإسراع بالمغادرة.. حملت طفلها وأسرعت.

وصلت إلى الساحة الشاسعة وقفت في منتصفها.. شعرت بالإعياء.. تسارعت دقات قلبها.. حاولت مواصلة سيرها.. لكنها فشلت.. جثت أرضا.. ضاق تنفسها.. تصببت عرقاً غزيراً.. شعرت بدوار.. احتضنت طفلها بقوة.. كانت كمن يخشى ضياعه مرة أخرى.. حاولت.. ألح عليها الصوت الداخلي بالمقاومة.. حاولت النهوض مجددا لكنها فشلت.. شعرت انها مكبلة.. خارت قواها.. مادت بها الأرض من جديد.
سفطت مغشيا عليها وهي تحضن ولدها.

51

لا تزال الغيطة تصدح بانغامها.. انزاحت السحابة التي غطت التمانحت شيئاً فشيئاً.. هرعت الشقيقة نحوها.. أوقفها القادم الغريب الذي ظهر فجأة بغشارة من يده.. توقفت الغيطة أيضا بإشارة أخرى.. همس لأحد أعوان الشيخ شيئا.. اسرع إلى السطح.. ارتفعت انغام الغيطة من جديد.. هذه المرة كان نغما هادئا هذه المرة.. أثار ذلك استغراب البنادرية اولا وكل من استمع الى الوصلة السابقة..
انساب اللحن الهاديء من بين صابع العازف الكهل.. من الواضح أنه يبذل جهدا أكبر من طاقته.. أحمرت وجنتاه وتصبب منه الكثير من العرق.. لكنه واصل عزفه بنفس مهارته التي يعرفها الكهول جيدا والتي سمع عنها الفتيان والصبية.

في تمانحت البيت رش القادم الغريب شيئا ما في موقد الجمرات.. هذه المرة كانت سحابة بخور جديدة ترتفع شيئا فشيئا لتملأ فراغها..
فتحت عيناها.. تطلعت بهما تتفحص المكان.. تذكرته.. حاولت الوقوف لكنها شعرت بإعياء شديد.. اشار القادم الغريب للشقيقة بمساعدتها.

حاولت إجلاسها.. شيء ما تحتها يتحرك.. يحاول الخروج من تحت ردائها.. تراجعت خوفا.. لكن نظرة القادم الغريب منحتها شيء من الثقة.. أجلستها.. كانت تتشبث به.. بولدها الضائع.. لم تجد صعوبة في التعرف عليه.. اطلقت زغرودة فرح.. خالفت بذلك تقليدا وارتكبت جرما بفعلتها تلك امام اغراب.. لكن شيخ العرش ابتسم قائلا بعد أن لاح. ارتباكها:
– لا عليك.. لو أحسن فعل ذلك لفعلته بنفسي.. عودتها سالمة تستحق أكثر من مخالفة الأعراف هيء هيء.
غادر إلى السقيفة بعد أن شعر بانتهاء مهمته.. تبعه القادم الغريب.. انفردتا بالعائد الصغير.. تبادلتا احتضانه وتقبيله على الرغم من وهنه الواضح..

في السقيفة جلس شيخ العرش على المصطبة بينما ظل القادم الغريب واقفا.. أحكم لثامه على وجهه.. قال الشيخ:

 – هل استرجعته فعلا؟
– نعم نجحت.. كانت محظوظة جدا.. لولا تدخل أم الرضيع البديل لضاعت هناك ربما إلى الأبد .
– لم أفهم شيئا.. عليك بتفسير كل شيء.
– حسنا هل ترغب ان نبدأ الان؟ – قبل كل ذلك.. هل لازلت ترغب في عازفة الربازة وعازف الغيطة .
– ليست بي اليهما حاجة.. يمكنك صرفهما بعد مكافأتهما مكافأة مجزية طبعا هيء هيء.

 اخرج من حزامه كيسا ضخما وضعه في حجر الشيخ.
– صرفهما الان بحاجة لمعجزة.. مرت سنوات طويلة على آخر مرة يعزفان فيها الناس في شوق لسماع عزفهما.. لن يغادرا بسهولة هيء هيء..

– هذا شأنك.. سأنصرف الان. – متى تحدثني بكامل القصة؟
– بعد انتهاء عزف الغيطة.. علي ان استعد لها جيدا.. فانا ايضا في شوق لسماعه.. لم أعد أذكر آخر مرة سمعت فيها عزفه فقد شغلتني هذه الحرب كثيراً.. هيء هيء هيء.. أما بعد الآن فلن يتمكنوا من الحصول على مبتغاهم.

لم يسمح اهل العرش لعازف الغيطة الكهل بالمغادرة.. اصروا على اقامة مجلس أنس في اكبر ساحات الواحة بجوار عين الماء غسوف.. اما نسوة العرش فقررن كذلك إقامة مجلس أنس فوق أكبر سطح بيت من بيوت العرش وسمحن لكل راغبة بحضوره.. مع اذان المغرب لم يعد هناك موطء لقدم في ذلك البيت ولا الاسطح والشرفات المجاورة له.
اما الرجال فبدأت اول وصلة عزف للغيطة بعد صلاة العشاء و خروج المصلين من المساجد..

مقالات ذات علاقة

الحلاج.. كلمة في الذات

سعد الأريل

من كتاب: الوقدات للكاتب عبدالله القويري

المشرف العام

زويـلـة

إبراهيم دنقو

اترك تعليق