مقطع 3
التفكير في اتصال ياسمين من عدمه من شأنه أن يجعلني متوحشا وخطرا، لهذا قررت عدم التفكير، كلام رواد ساعدني على اتخاذ هذا القرار، وربما هي غريزة المحافظة على النفس، لكن وجه ياسمين يريد من يتقدم لا من يقاوم، الانتظار جميل، الانتظار ممارسة عامة، الانتظار ما هو إلا انشغال نظري بأمور يستحسن عدم الحديث عنها، في الانتظار كل شيء يتغير، حتى سبب الانتظار نفسه يتغير، لحسن الحظ ياسمين ليست شعاع نور يعبر و يختفي، رنين هاتفي مد أصابعها النحيلة إلىَّ مرة أخرى، لم أكن قد غادرت الغاليري بعد، قالت بشيء من التردد: ”هل تعرف مقهى أروما؟”، ”نعم”، ”غدا العاشرة صباحا”، ”اتفقنا”، صوتها له تأثير، كنت أقف وحدي وسط غاليري أتاسي، كنت قد شربت الكثير من النبيذ، وهذا ربما ما ساعد على إغلاق الباب الذي يأتي منه كلام رواد بطريقة تضمن أن لا يحدث أي صوت بعد ذلك، خرجت من الغاليري، لمس وجهي الهواء البارد، كان الليل قد أرخى جفنيه على طول الطريق إلى الشقة بحي التجارة، والتي استأجرتها عن طريق رواد، كان وجه ياسمين أمامي، أنظر إلى النجوم و أسمع النداء الذي لا يقاوم، قلت في نفسي ما قاله فارتر: ”أنا أرى الدب الأكبر أحب النجوم إلىَّ”، لا شيء في هذا الليل قلق أو غير مستقر، أنا و الليل ننام، نستيقظ، ننام، نستيقظ، وفي لحظة معينة غرق كل شيء في النوم إلا وجه ياسمين فقد كان هناك هو القمر وسط الليل.
الناس في ساحة النجمة يتابعون رحلتهم اليومية، دمشق زهرة ياسمين تتدلى من السماء، رائحتها فريدة ومثيرة لكل الحواس، جبل قاسيون يشرب كأس ماء على مهل، في قمته مجنون يدرس مع السماء سوناتة لكيتس، أنظر عبر زجاج مقهى أروما إلى انحناءات الحياة في كل الوجوه الطيبة التي تمر من أمامها، أسمع صوت دمشق و هي تقول لهم: ”كم أتمنى أن ألمس وجوهكم الرقيقة و الشاحبة ، كم اتمنى ان أعدكم بحياة لا يتدخل أحد فيها، كم أتمنى لو يختفي الزهد الاجباري و التقشف المفروض عليكم، كم اتمنى أن يختفي الغني الذي ينظر إلى امتلاء معدة الإنسان كنوع من الضرر، كم أتمنى أن لا تكونوا فقراء مفلسين ومستعدين لإغواء الظلم، كم أشعر بالإحراج أمام طيبتكم التي لا يستحقها هذا العالم”، أنا ضعيف أمام كل هذا الجمال الذي يتنزه في شارع الحمراء، أمام قاسيون وهو يبتسم للفقراء، سمعت صوت خطواتها وهي تصعد الدرج، ظهرت ببنطلونها الجينز وحذاء أسود بعنق طويل، يديها في جيوب معطفها الأسود، تحت المعطف بلوزة حمراء من تشكيلات الكسندر ماكوين إذا لم تخني الذاكرة، خلعت معطفها وجلست أمامي، بشرتها البيضاء محاولة مخلصة لتخليص العالم من السواد الذي في قلبه، أحمر الشفاه يؤكد أن الإنسان قادر على عمل ما هو أفضل، العيون تنصح اليوم بالقيام بلعبة الشغف و الحزن في وقت الفراغ، شعرها القصير يصل بسهولة إلى ذقنها ويغطي خدها بحنان، عندما تحرك أصابعها تتناثر شظايا الالوان في كل مكان، لا شيء يصل إلى خصلة شعرها البيضاء لأنها خارج مرمى الليل، خارج مرمى السواد الذي يغطي وجه الحقيقة، لا تعرف عني إلا نفس القدر القليل الذي أعرفه أنا عنها، أشعلت سيجارة في اللحظة التي وصل فيها فنجان القهوة أمامها تماما وقالت: ”اخربني أي نوع من النقاد أنت؟”، ”من النوع الطيب على ما أعتقد”، ضحكت ونظرة إلىَّ نظرة تبعث على النشوة فقلت: ”أنا مجرد ناقد، أو قارئ مهووس بالنصوص الجيدة، هل عليَّ أن ألتزم بأي منهج كان؟، هل عليَّ أن أكون فقيه لغة؟ هل عليَّ أن أكون بنيويا أو شكلانيا؟ تاريخ القراءة ليس تاريخ فقه اللغة، ولا هو تاريخ نظريات الأدب، تاريخ الأدب هو تاريخ النصوص والكلام عن هذه النصوص، الكتابة مهمة يقوم بها الجميع، أما النقد فهو مهمة سرية وذات طابع شخصي”، نفثت دخان كثيف من بين شفتيها وقالت وهي ومبتسمة:” الكتابة قادرة على أن تسبب ألما ما”،” نعم أعتقد أنها لا تختلف عن الحياة في هذا الصدد”،” نظرتك ليَّ ليلة البارحة في غاليري أتاسي لم أفهم منها ماذا تريد، عن ماذا تبحث؟ صديقة، حبيبة، عشيقة؟”،” ولماذا عليَّ أن أختار؟ ”ضحكت وهي تشعل سيجارة أخرى وقالت: ”لأني مثالية في واحدة منها فقط، كلمة عشيقة تحيرني، إنها كلمة توحي بالشر بالنسبة لمعظم الناس، أي تفكير في هذه الكلمة لا يخلو من هفوات، العشيقة شخص لديه ما يكفي من الذكاء بحيث يقبل أن يكون الشخص الثالث، ليس لكلمة عشيق نفس النبرة التي لكلمة عشيقة، نبرة عشيقة فيها قسوة و نوع من اللؤم، أتذكر الآن كيف صدمني أنا الماركسية أن يكون لماركس عشيقة، هل تعرف أي شيء عن هذا الموضوع؟”، نظرت إليها وهي تعض شفتها المرتعشة وقلت: ”كنت أعتقد أن هذه العشيقة ما هي إلا موضوع هجوم على ماركس من أعداءه”، قالت مبتسمة: ”حقا هكذا تعتقد؟ أعداء ماركس قاموا بالتحقق من كل شيء إلا إنسانيته، وأصدقاء ماركس حذفوا كل شيء ليكون ماركس ملاكا، ماركس حارب وحشية العالم، لكن لم يكن هو نفسه أقل وحشية منه، كان أنسانا بأتم معنى الكلمة، لهذا تغلب على العالم، المهم المرأة التي نتحدث عنها كان اسمها هيلين ديموث ولدت في 31 ديسمبر 1820م، بنت صغيرة من قرية تسمى ساكنت يندل، لم تعرف في حياتها سوى الأرض، أبوها فلاح، أمها فلاحة، طفلة لكن تعرف جيدا غلاظة الحياة وعدم مرونتها، الفقر ليس سوى نقص في الحياة، عادة ما نجد له تبرير سخيف و سطحي، دائما ما أفكر فيها وهي تمشي خلف والدها في ممر بيت البارون لودفيغ فون ويستفالن مستشار الحكومة ووالد جيني زوجة ماركس في المستقبل، تصور بنت في الثامنة من عمرها لم تعرف الحياة إلا في شكلها الوضيع و القبيح وهي تمشي بين قطع أثاث فاخرة، الكتب، اللوحات الزيتية، السجاد، الهواء المعطر، كل شيء في هذا المكان مفاجأة حقيقية، أما هي نفسها فقد كانت المفاجأة عندما وصلت إلى بروكسل في أبريل 1845م كهدية من والدة جيني لمساعدتها في رعاية الأطفال، كانت هيلين بارعة في كل شيء، الطبخ، الغسل، الكنس، والخبز، وصنع البيرة بالطريقة المحلية، جيني كانت بارونة مدللة لم تكن قادرة على تحمل الدوار بسبب صعوبة الحياة، لكن “لينشن” وهذا اسم هيلين داخل عائلة ماركس كانت ابنت الفقر، ابنت الشعب، لهذا تركت جيني كل شيء لهيلين، تركت البيت و ماركس للسفر والبحث عن الدعم المالي للعائلة، ربما هذه المرة الوحيدة التي تأخذ فيها العشيقة دور الزوجة، والزوجة تتحوّل إلى عشيقة، لهذا كلمة عشيقة توحي بالمفارقة وهذا ما يرعب الناس منها، العشيقة تشير إلى عمل دون انتظار مكافأة، إنها مكان الغيرة والامتعاض و الكراهية و الكثير من الأسف، لهذا أنا أقف أمام هذه الكلمة بعيون مغمضة حتى لا أرها”.