قصة

من يسمع قصة المطرة الأولى

علاء الدين كويدير

المطر
المطر


تبادر إلى ذهن السّيد يونس إحساس بالوحدة وهو يدخن سيجارته الأخيرة بينما كان يرقد على سريره في غرفته المتشحة بالسّواد، وحيث ما همّ ليسحب نفسًا طويلًا منها تسلل إليه بعض الأمل، فحدق مليًّا في هذه السّيجارة ورأسها المشتعل والّذي كان يغزو ظلام الغرفة وحيدًا، كانت وحيدة هذه السّيجارة في القرطاس قبل أن يلف وسطها بأصابعه ويقبلها قبلات الوداع، وما إن نفخ سحابتها حتّى طار معه هذا الشّعور -إحساسه بالوحدة- أو ربّما نساه لِلحظات محدودة، أي أنّها داعبت رأسه فكرة أنّ هذه المعاناة ستنتهي مع انطفاء سيجارته الوحيدة. كان يقنع نفسه إنّ هذه الحياة البائسة لن تدوم أكثر من هذا درجة واحدة، وإنّ وحدته كالسّيجارة مهما طالت سيأتي من يلفها بكلتا يديه ويقبلها قبلة حتّى وإن كانت قبلة الوداع، وخاف عليها أن تنطفئ فيتبدد معها الحلم وارتبك كأنّ هذه السّيجارة هي آخر شيءٍ له في هذه الحياة. فعلّقها في المطفأة وصار يشاهدُ رقصات دخانها وهي تحترق، وزاد اضطرابه بشكلٍ سريعٍ كلّما احترقت السّيجارة واقتربت من الوداع، وصار قرابة الدّقيقتين يتأملها وهو في حالة هلعٍ حتّى انتهت السّيجارة وعادت المياة إلى مجاريها وكأنّ شيئًا لم يكن، -صار وحيدًا- وهذا ليس بالشّيء الجديد. تكور على نفسه كالقنفذ وارتعد من القلق حتّى سمع صوت دقات الباب تكسر الصّمت.

طق طق طق

-هه من على الباب هه؟

طق طق طق

-معذرةً على ازعاجك يا سيدي! هل هذا منزل السّيد شرف الدين؟

-هه لا! إنّك أخطأت العنوان؛ لكن لا عليك يمكنك الدّخول والمبيت عندي حتّى الصّباح، فالأحوال الجويّة تحذر من التّحرك ليلًا اليوم.

-شكرًا لك يا سيدي على الدّعوة النّبيلة؛ لكن لديّ صديق ينتظرني.

والتفتَ الطّارق ولاذ مسرعًا من الدّرج دون توديع حتّى! وكأنّه لم يكن يكلم إنسانًا ليلاطفه بكلمات الوداع. صار يتبعه السّيد يونس إلى أن وصل إلى باب العمارة فصرخ له وهو يتأمل خروجه (يا سيدي الكريم.. يا سيدي، احمد اللّه أنّ لديك من ينتظرك) ثمّ عاد بخطواتٍ مثقلةٍ ليجلسَ على حافة السّرير، (لماذا لم يكن هذا الزّائر جاء لأجلي فعلًا؟) قالها بنبرةٍ ممزوجةٍ بالحزن ثمّ تكور على نفسه مجددًا وعاد يسأل نفسه.

-لمَ لا أملك شخصًا يهمه أمري؟! شخصًا واحدًا فقط يطرق بابي في أي وقت شاء، شخص يحدثني عن أي شيء كيفما يريد. وجاء صوت ضربات المطر على النّافذة ليكسر الصّمت مجددًا!

-أوه إنّها المطرة الأولى هذا العام يجب أن أنزل وأستمتعُ بهذه الدّنيا قليلًا!

وقف على الرّصيف وسأل نفسه لمن يذهب ليشاركه هذه المتعة. كان يحب المطرة الأولى لكنّه لم يملك شخصًا واحدًا يشاركه هذه الأجواء الّتي يحبّها. وعندما رفع رأسه وجد كشك السّجائر المقابل للعمارة يفتح شباكه ويخرج منه الدّخان كثيفًا، وعندما اقترب منه سمع صوت الأرقيلة تركرك.

-مالبورو أحمر يا أخي.

أعطاه البائع ما يريد ولم يبادله بكلمةٍ واحدةٍ، حتّى لم يخبره السّعر فهو زبونه اليوميّ والّذي يطلب منه الطّلب ذاتهُ، فقط اكتفى برفع حاجبيه وسحب نفسًا عميقًا من الأرقيلة.

-أتعلم يا أخي إنّها المطرة الأولى لهذا العام؟! (قالها يونس خالقًا للحديث)

=نعم نعم.. ونفخ دخانه في وجه السّيد يونس.

-ما أجمل هذه الأجواء!

=نعم جميلة! هلّا ناولتني ظرفة الشّباك يا سيدي؟ أريد أن أعود إلى بيتي قبل أن يزداد المطر.

ناوله الظّرفة وهو سعيد وكان يقول في نفسه، مازال هناك شخص يهمه أن أناوله شيئًا، ثمّ وقف ينتظر البائع أمام الكشك كان يريد أن يسلم عليه فقط أو أن يقوله له طاب مساؤك، لكن البائع تأخر في خروجه من الكشك، ثمّ بعد مدة قليلة من الانتظار سمع صوت الأرقيلة تركرك من جديد وصوت البائع وهو يتصل بمحبوبته ويبث لها حزنه. فمشى باحثًا عن شخص آخر، شخص يحدثه عن المطرة الأولى، نعم هو بحاجة لأن يحكي عن هذه المطرة، أوقف سيارة أجرة وطلب من السّائق أن يتحرك إلى إحدى الأحياء البعيدة، كان السّائق ودودًا جدًا، ابتسم له في المرآة وردّ على تحيته بتحيةٍ خيرٍ منها.

-هل تعلم ياسيدي أنّها المطرة الأولى هذه السّنة؟! وعند هطول الأمطار لأولِ مرّةٍ في الشّتاء تزيد نسبة الوفيات والحوادث، لكنّني أحبّها رغم الكوارث لأنّها تتميز برائحةِ التّرابِ المبللِ، أوه كم أحبّ هذه الرّائحة يا سيدي وكم عندي معها ذكريات جميلة!

وعندما همّ السّائق للردِّ قاطعهم صوت جرس هاتفه فاستأذن للإجابة عليه، كانت المكالمة من زوجته تخبره بأنّ ابنه مريضٌ جدًّا وطلبت منه الإسراع لنقله إلى المشفى، فاضطرب السّائق وتوقف عن القيادة ثمّ اعتذر من السّيد يونس لينزل حتّى يلحق ابنه المريض، فنزل وعاد مترجلًا إلى بيته وربط يديه خلف ظهره وصار يحدث نفسه طوال الطّريق (رجل نبيل هذا السّائق ومسكين، أسأل اللّه أن يشفي ولده، أتعلم يا سائق الأجرة أنّك محظوظ؟ يا سيدي يجب أن تحمد اللّه، على الأقل لديك ابن يربكك وتخاف عليه) وضحك على كلماته بعدما حسد السّائق على مرض ابنه، وواصل الطّريق إلى البيت، مرّ من أمام الكشك فسمع الأرقيلة تركرك والبائع مازال يهذي بكلمات الحبّ، فعبر الطريق ليعود إلى شقته، كان شاردًا ففاجأته سيارة يقودها رجلٌ عجوز دهسته بقوةٍ حتّى شجّ رأسه وتحطمت أضلعه. نزل العجوز مرتبكًا وباكيًا واقترب منه وهو يقول له (سامحني ياولدي لم أستطع كبح الفرامل! )

ابتسم السّيد يونس وقال وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة بصعوبةٍ:

-هذا بسبب المطرة الأولى.

مقالات ذات علاقة

تشابه…

المشرف العام

مـا وراء الحـب

محمد العريشية

قصة حب

عزة المقهور

اترك تعليق