صفات المؤرخ وأدواته ووسائله
الحقيقة التاريخية هي حقيقة نسبية فلا يستطيع المؤرخ الوصول إلى الحقيقة المطلقة في دراسة التاريخ، ولكن كلما زادت نسبة الصدق في المعلومات كلما اقترب المؤرخ من حقيقة شبه مؤكدة وليس مؤكدة لتطور ادوات ووسائل البحث. فالحقيقة الصحيحة اليوم قد تكون خاطئة او مغلوطة مستقبلا.
اهتمت الدول لدراسة العلوم فأنشأت الدور والخزانات والأراشيف والمكتبات لجمع الأصول التاريخية المخطوطات والوثائق ودراستها ونشرها ليتسنى للباحث المؤرخ الرجوع إلى الأصول للتحقق من اي معلومة. وأوجد المفكرون والفلاسفة والمؤرخون مناهج للبحث ووضعوا فيه مؤلفات عديدة ولعل أوروبا كانت السباقة لذلك وأوجدت مؤلفات يسترشد بها الباحثون أثناء بحثهم حول حقيقة أو أصل موضوع ما بالدراسة. اما على المستوي العربي فكتاب “مصطلح التاريخ” للدكتور أسد رستم يعتبر أول كتاب عربي نشر في صيف سنة 1939 م واضعا فيه قواعد لمنهج البحث العلمي ويعتبر مصدرا لكل البحاث. إذ على الباحث أن يرسم الخطوط العريضة للبدء في دراسة أي موضوع متبعا منهجا علميا موحد أو غير موحد. ومن هنا رأيت أن أقدم لمحة حول الصفات الذي يجب ان يتحلى بها المؤرخ، والأدوات والوسائل المهمة التي لابد أن يعتمد عليها من يتصدرون لكتابة التاريخ.
فكل باحث او مؤرخ لا يدرس التاريخ اغتباطا إنما للوصول لهدف وإلا لحقيقة يبحث عنها. وله المجال ليشرح الأسباب والمسببات والظروف المحيطة لأي حدث بطريقته الخاصة، وعلى الدارس أن يتسلح بعدة مهارات لإنجاز مهمته والوصول إلى الحقيقة قدر المستطاع. فاعتقد اعتقاد جازم ليس كل من يبحث عن التاريخ ويكتبه مؤرخا.
فلا بد أن يمتلك ملكه الكتابة وملكة النقد فلا يقبل أي معلومة على علاتها وإنما لابد أن يخضع أي معلومة للدرس والفحص والاستقراء والمقارنة والنقد. وأن يكون متزنا محايدا في كتابته لأي موضوع فلا يتحيز لأهوائه الأدبية والاجتماعية أو الدينية. ولابد أن يكون رقيب على نفسه يمتلك ضمير محاسب ليكتب تاريخا علميا، ويجب عليه أن يتصبر ويصبر لإنجاز وتحقيق أهدافه من دراسة أي موضوع محللا العراقيل والصعاب الذي يواجهها من نذره المصادر إلى غموض بعض الحقائق إلى اختلاف الوقائع وفق المصادر المتوفرة الوثائق الموجودة، فينبغي عليه ألا يتسرع في إنجازه للعمل.
وعند الكتابة لابد أن يكون محايد في دراسته لأي موضوع ولا يخفي أي حقيقة ليرضي نفسه أو ذو السلطة، فلا يمكن للمؤرخ أن يكتب التاريخ لغرض غير الوصول للحقيقة وأن يحرر نفسه من الميل للإعجاب أو الكره وإنما يكون قاضي ورع. وأن يتعامل مع كل المعلومات بنظرة الناقد المتفحص المدقق فيأخذ بالأصدق في الرواية أو المعلومة أو أقرب ما يكون للصدق. وأن يكون قادرا على تحديد العلاقة بين حوادث التاريخ في الزمان والمكان ويربط بينهما على نسق توافقي أي أن يكون ذو عقل واعي ونظرة ثاقبة ليميز بين الحوادث وينسقها. أن يمتلك المؤرخ حس الخيال مرحلة حلم اليقظة وأن يعيش في المرحلة الذي يكتب فيها حيث يفهم قدر المستطاع الدافع المحرك لبعض سلوك الشخصيات، وأن يستشعر الأهواء النفسية المصاحبة لسلوكهم نحو أي موقف بذلك عليه ان يدرس الافكار افكار صانعي الحدت والظروف المحيطة والايدولوجية الخاصة الدينية او اجتماعية …. الخ. وان يدرس القيم السائدة آنذاك التي قد تكون اثرت في صاع الحدت. على سبيل المثال قرارات بعض القادة في الحروب وقرارات بعض الملوك. وهذا يساعد الباحث لكتابة مادة حية ممزوجة بروح العلم والأدب والفن.
وهنا يتبادر لأذهاننا سؤال ما هي الأدوات التي تساعد أي مؤرخ في إنجازه لأي دراسة تاريخية؟ وما المنهج المختار؟
المؤرخ والاداة والوسيلة
منهج البحث لا بد أن يسير وفق معايير وضوابط علمية خاصة لتحديد ماهية البحث، ذاكرا الأدوات والوسائل المساندة له في إنجازه للبحث، هنا أشير أنني أضفت لفظة أداة مع الوسيلة. اذن ما الفرق بين الأداة والوسيلة؟
وهنا نصل إلى التمعن في أسلوب كل كاتب ومؤرخ لنصل إلى المنهج الذي أتبعه في سرده للوقائع. فالمنهج التاريخي للمؤرخ هو الخطى التي يخطوها في سبيل الوصول إلى الحقيقة التاريخية ليقدمها إلى المهتمين والمختصين. وتبدأ هذه الخطى من تزويد المؤرخ نفسه بالعلم وبالثقافة العامة والخاصة وكذلك الإلمام بهدفه من هذه الدراسة. ثم تبدأ مرحلة التقميش التجميع، جمع الأصول والمصادر ونقدها وإيجاد الحقائق المقارنة وإثبات صحتها مع تحديدها زمنيا ومكانيا، ليعرضها بصورتها النهائية. اذن المنهج هو الاداة. والمعلومات هي الوسيلة.
وسائل تحقق المؤرخ
تتصل دراسة أي حدث تاريخي أو ظاهرة أو فترة تاريخية بما كتب أو تداول عنها. فنجد علم الوثائق Diplomatics علم الدبلومات: من العلوم الأساسية لدراسة التاريخ. فالوثائق هي كل الأصول التي تحتوي على معلومات تاريخية دون أن ينحصر ذلك فيما دون منها على الورق. اختلفت الآراء في تحديد مفهوم الوثيقة وتعددت من حيث المعنى والشكل المضمون.
لكن المصطلح الدقيق الذي أطلقه جموع العلماء والباحثين في التاريخ أن الوثائق هي الكتابات الرسمية أو شبه الرسمية. الأوامر- القرارات – المعاهدات – الاتفاقيات – المراسلات السياسية والكتابات التخصصية السردية عن العادات والتقاليد للشعوب وكذلك الكتابات الاقتصادية والتجارية، واليوميات والمذكرات الشخصية.
وعلى المؤرخ اتباع منهج التدقيق والتمحيص والتحقيق من الوثائق. لابد أن يتعرف على الزمن الذي كتبت فيه هذه الوثيقة، وأن يتعرف على المصطلحات المتداولة في زمن الوثيقة ومقارنتها بالروايات والأحاديث المسجلة. لا بد أن يعرف نوع المداد المستعمل في الكتابات والأداة التي كتبت بها الوثيقة.
نوع الوثيقة هل ورقية مصنوعة من الألياف أو جلدية مصنوعة من جلد الحيوانات. ومن الممكن معرفة عمر الوثيقة (الورقية) باستعمال الفحص المجهري والتحليل الكيميائي. وهذه الوسائل كلها تساعد الباحث على التثبت من صحة الوثائق التي تقع بين يديه أو بطلانها.
وتعتبر الأختام من الوسائل التي قد يعتمد عليها الباحث في دراسته، فالأختام التي تنوعت وتعددت أشكالها على مر العصور التاريخية، فقد تنوعت من حيث الشكل ومن حيث المادة فبعضها على شكل صليب وبعضها على شكل دائرة والأخرى غلى شكل مثلث ومنها البيضاوي. ومعظم هذه الأختام في السابق صنعت من المعدن وتحديدا من الرصاص والبعض النذر من الذهب واستخدمها الملوك، وهذه الأختام هي بحد ذاتها مادة تاريخية يستطيع الباحث بدراستها استنباط العديد من الاستقراءات الاقتصادية والسياسية والدينية بل والفترات الزمنية. وكذلك الأختام أداة توضح للباحث صحة الوثيقة.
ارتبطت الأختام بنوعيتها اولا، وثانيا بالكتابة التي نقشت عليها. فدارس هذه الأختام يستطيع بعد إتقانه للغة التي نقشت على الختم ماهية هذه الأختام هل هي أختام ملكية لاعتماد القرارات والمناشير والاتفاقيات وغيرها. أما أختام أهل الديوان من رجال الدولة كقضاة وموظفي الحسبة، أما رجال الدين وهذه ظهرت مع سيطرة الكنيسة في العصور الوسطى. وبمرور الوقت تم التفريق بين الأختام الرسمية للدولة وبين الأختام الاخرى.
علم الرنوك Heraldry: وهي النقوش البارزة على الاشياء، لم يقتصر الرنوك على رقعة جغرافية ما وإنما على بقايا العالم وانتشرت في العصور الوسطى، عرفها المسلمون حيث نقشت الكتابات على العباءات وعلى الدروع وعلى السيوف. للدلالة على وظائف حاملي هذه الأختام أو العلامات فصارت مرتبطة بهم وضمان لحقوقهم القانونية والوراثية. وعلى الباحث التحقق من صحة المعلومات المكتوبة أو المتناقلة الشفهية بمطابقتها لهذه النقوش والأختام. علم النميات أو النومات ((Dumismatics: تعتبر العملة من الوسائل المهمة للمؤرخ للتحقق من معلومة ما أو لتأكيد معلومة أخرى. فالعملة بما تحمله من صور للآلهة او الملوك واسمائهم، او مناسبات قومية، وسنوات صك هذه العملة تقدم للمؤرخ مادة تاريخية هامة لمعرفة الاحوال الاقتصادية والحربية والعسكرية والتجارية والدينية، فلم نتعرف على بعض العصور الامن خلال العملة الخاصة بهم التي حفظت لنا
علم قراءة الخطوط PALEOGRAPHIE
من الوسائل للتحقيق سواء ان الخط نقش علي الحجر او كتب على الرق او الورق فتبق هده الخطوط وخاصة القديمة طلاسم الى أن يتم فك رموزها. في الوثائق العربية ظهرت العديد من اشكال الخطوط منها الطومار والنسخي والرقعي والثلث والكوفي والفارسي والمغربي والغبار والديواني والقيرمة.