من أعمال التشكيلية فتحية الجروشي
قصة

المعلوم

–       توّا يا كلب ، قداش مرة بنحلّك مشاكلك ؟ .

و بدا وجهه المفلطح بلحية بيضاء خفيفة ، و المعرقة المتوِّجة رأسه يضفيان عليه بعض القدسيّة … و بدا غاضباً ، و صوتُ قطع المسبحَة الحليبية تلتطم كالكرات الزجاجية و هي تدور بين يديه يرفعُ من شأن الصمت المتقاطع ، يجلس ماداً قدماً إلى الأمام ، الأخرى ينزلُ عليها بكامل ثقله تحتها … و كان غاضباً من أحدِ الرجلين أمامه ، أعاد بصوت أعلى ثرثرته الغاضبة …

–       مش رجعتهالك من شهر … قول يا مغفل ؟ .

و كان الرجل بشنبه الأسود الذي يداعبه بإصبعيه و شعره المُشعّت يتصبب عرقاً ، يدور رأسه دوراناً خفيفاً ، ينكسرُ خجلاً لا ينطق ، يمدّ الشيخ بالوجه المفلطح يده إلى كأس الشاي أمامه ، يأخذ قطعة من الكعك المدوّر … يقضمها ، تتناثر بضع حبّات من الفتات على ثيابه و وجنتيه المُغبرّتين بالشعر الأبيضِ الطفيف ، يمسح بيد مُعرّقة مُشكّلة بعروق خضراء تضغط نحو الخارج آثار الفُتات … ثم يُتابع ملامح صاحبيْه .

–       طلقت و إلا حلفت بالطلاق ؟ .

سأله ، ثم أتى على باقي الكعكة و هو يتمتم بالتسبيح و التهليل ، يزداد التوتر بالغرفة ، يتدخل الرجل الآخر الشبيه وجهه بالجمل و هو يحرك يده ناحية الشراب الأسود ، مقتحماً الرغوة الصفراء بشفتيه الغليظتين … تداخلت أصابعه الغليظة في خيوط الحصير تحته ، يصدر كحة مغطياً إياها بيده الأخرى ثم قال …

–       الحكاية يا سيدي الشيخ إنه كان في السانية …..

” كان يُرهق نفسه في جدولة طريق المياه طول النهار ، الشمس حارقة … تقطع الأوصال ، تغري فيه أخيلة من سراب ، و أثر الخمرة من الليلة السابقة لازال يرتكبُ فيه بعض ذهول التفكير ، نصف دماغه قد ذاب … النصف الثاني تُمسكه أكياس الشاي المتتالية ، الماء يتغلغل داخل قدمه ، يشعرُ بشيء أخر يداعب القدم عدا الماء و التُربة الطينية ، ينزلقُ الفأس من أعلى ظهره بحركة سريعة نحو كتلة من التُربة فاتحاً مجرىً للمياه لسقاية النخلة ، لازال الشيء يُداعبه ، ينظرُ للأسفل و إذا بعقرب يشاكسه ، ترتبك قدمه … أنت تعرف أنّ العقرب طالع سوء ، كان أسوداً كبيراً ، كل شيء أسود طالع سوء … انتحى قافزاً مذهولاً ، نصف دماغه الذائب بتأثير الشمس و الخمرة و العمل يلاحقه ، نجا بنفسه … لكنه لم يدرِ أنّه لن ينتصف النهار حتى تحدث الحادثة ، جلس ينتظر طعام الغذاء يفكر في ما حدث له من بلاء ، أتى الفتى بصينيّة الغذاء … أنت تعرف – سيدي الشيخ – أنّ اليوم عرفة ، و الناس تنتهز فرصة صيام هذا اليوم  و المرأة صالحة و تحب الصيام ” … جاه الغدي مالح ، ناض شطانه … و كلمة منّي و كلمة منّك و أنت أدرى بالباقي . كله من العقرب الملعون .

تابع الشيخ الكلام تحركات فكِّ صاحبه و عليه علامات اللاهتمام …

–       يعني طلقتها في موسم العيد يا حلّوف ؟ . رمق الشيخ الرجل المتفصد عرقاً بنظرة حقد و هو يخبئ كلماته النابية التي يريد أن يقذفها به في أحشاءه …

و حلّ الصمت بضع لحظات ، كانت الشمس قد انجلت تماماً ، و صينيّة التّمر أمام الضيوف قد شارفت على الانتهاء ، يمتصُ الشيخ التمرات بعُنف ، يبصق بالنوى على الصينيّة ، ثم يعيدُ الكرّة ، أما الضيفان فكان يلقيان بالنوى في يديهما حتى امتزج عرقهما بعسل التّمر ، توزّعت الظُلمة بالتساوي بين الدور و شعلة من الكيروسين تعلو و تنخفض بالغرفة مضفيةً روحاً صوفيةً على المكان … طقطقات كرات المسبحة ، صوتُ امتصاص التمرات ، ارتشاف الشاي المُر و فرقعات حبالِ الحصير التي تبعث في الشيخ نظرة غضب على ملامحه القاسية نحو شبيه الجمل ترتقي بمكانةِ الصمت في هذه البيئة ، أخذ الشيخ يقلب في كتاب نُحاسي اللون بأوراق صفراء كان بجانبه ، قرب المصباح الكيروسيني إليه ، سحب نظارتين دائرتين من جيب سترته الصوفية المُزخرفة ، تابع بإصبعه الكلمات ، صدرت منه نحنحة … أغلق الكِتاب ، وضعه تحت فخذه ، ثم قال : –

–       جبت المعلوم ؟ .

تهللت أسارير الطليق ، تلعثمت ملامحه ، برزت في وجهه علامتي الفرح و الرضا ، أسرع يمد يده داخل قميصه الممزوج بعرقه و رائحة خمرة طفيفة ، مدّ بحزمة نحو الشيخ و قال بصوت جهوري تملؤه الغبطة ….

–       خمسميّة دينار …

استعاد أنفاسه .. عائداً إلى مكانه حيث صاحبه ، دارت في نفسه خيالات زوجته و هي في الفراش يُداعبها و تُداعبه ، بينما خبأ الشيخ الحزمة تحت فخذه بجانب الكتاب … تنحنح واقفاً ، تسارعت اللحظات في ذهنِ الطليق و رأى نفسه يمتطي الأرض لا زوجته فقط ، و في اليومِ التالي سيذبح قرباناً أجمل خرافه هديةً لله ، وضع الشيخ حزمة المال تحت إبطيه و الكتاب بيده حتى لا يمتزج وسخ الدنيا مع طهارتها ثم قال بصوت ماكر مملوءً بالسخرية …

–       أنت تعلم أنّ الله حللّ أربعة ! .

مقالات ذات علاقة

الحرباء..

أحمد يوسف عقيلة

سيـرة الجـد الهـارب

إبراهيم بيوض

الكهلٌ والمطر

محمد دربي

اترك تعليق