.
في ذلك الصباح الخريفي البارد ، حين تركت غرفتي في فندق أجنحة الشاطئ ، لم في عجلة من أمري ، فليس ثمة مايستحق الاستعجال بالنسبة لي على الأقل .. فالأشياء لازالت تراوح كعهدي بها قبل عشرين سنة ، ولعل الحقيبة الصغيرة التي أحملها قد شجعت الرجل الجالس داخل سيارته أن يستوقفني عارضا توصيلي مؤكدا أن الأجرة تتوقف على أريحيتي فالأمر بالنسبة له سيان ، وهو كذلك بالنسبة لي ، فهذه الأوراق المتآكلة بيني وبينها عداء أزلي . لذلك حاولت إبعاد شبح ابتسامة لامعنى لها وأنا أجلس مفتعلا شيئا من الوقار ، رغم أن الموقف لايستدعي هذه الجدية خاصة بعد أن سألني : الأخ تاجر ؟
وهنا لم أستطع أن أسيطر على تلك الضحكة التي لم يجد لها الرجل مبررا وهو يدرك أن اقتصاد البلاد يكاد يكون قائما على تجار الحقائب !!
أجبته : ليس بعد ..!
تذكرت أحد علماء البيئة السوفييت في أحد الاستطلاعات التلفزية يتحدث كيف أنه يضطر إلى تأجير سيارته اللادا في مشاوير داخل موسكو ، ليؤمن حليب أطفاله ولكنني تساءلت : ولكن ماعلاقتنا نحن بالبروسترويكا ؟
تذكرت العالم السوفييتي بعد أن بدأ الرجل يتحدث عن نفسه وكيف أنه يحمل شهادة من كامبردج وهو خبير في الأمن الصناعي – أو هكذا فهمت – وأنه يعلم أولاده الإنجليزية والإيطالية . وهنا تدخلت : إن ذلك يسهل عليهم متابعة قنوات ( الآر أي آي ) الإيطالية وغيرها !
وقبل أن يأخذ الحديث اتجاها قد يستغرق الرحلة كلها أكد لي الرجل خبراته في إبطال المتفجرات وعمله فيما يتعلق بالسلامة لمهنية وكيف أنه أبطل قبل سنوات مفعول متفجرة كادت تودي بحياة المئات . تمنيت عليه أن يدون مهاراته هذه في كتاب – لتعم الفائدة – ومجيبا في نفس الوقت عن أسئلته حول السيرة الذاتية باحثا عن جذور القبيلة التي تذكرت أنني أنتمي لها بفعل أسئلة هذا الصباح الخريفي البارد .
***
بعد تحية الصباح قال موظف المصرف :
– راتبك موقوف !
لابد أن موظف المصرف أساء توصيل الموقف ، وإلا ماذا يعني ب موقوف
لقد عشت تجربة إيقاف الراتب لأكثر من سنة ومنذ سنوات وأنا حريص على عدم ترك أي منفذ لمثل هذه المطبات .
عند الاستفسار ، أكد لي الموظف المختص أن الصك قد أعيد الى جهة إصداره لأنها لم تكن تملك قيمة الرواتب وأن الصك لابد أن يعود خلال يومين إلخ .
إذن المسألة ليست إيقاف راتب بل تدخل ضمن الارتباكات السائدة وتذكرت : ( موتك في العشرة كرامة ) .
***
منذ فترة قريبة حرصت على أن أتابع وزني كلما هبطت إلى طرابلس مطاردا راتبي الموقوف إلى حين . قبل أن أرفع قدمي عن ميزان الرصيف قال الصبي الصغير :
ثلاثة وستون قرشا !
ابتسمت له بسخرية من المفارقة فأكمل :
الكيلو بعشرة قروش ! يقصد الكيلو بمائة درهم !
قلت له بجدية مفتعلة :
إسمع أيها الصغير لست قادما من جزر القمر ولا تمنبكتو
قال : تفضل لاأريد شيئا .
دفعت له المائة درهم مبتسما .. حتى أنت أيها المرابي الصغير .
***
في الفندق الكبير لابد ان تجيب النادل وهو يقف على راسك عند طلب أي شئ :-
-غرفة وإلا كاش ؟
فترد محتجا : كاش ياأخي .
ولكن المنضدة التي ضمت مصادفة أحد مدعوي ندوة الحوار العربي الثوري الديموقراطي يهتف له برقم الغرفة !
وتستمر هذه المهزلة السوداء خاصة حين تعود إلى فندق أجنحة الشاطئ وتجد نفسك في خضم حديث عن المسلسلات والأشرطة والسيناريوهات وتستمع مصادفة إلى حديث الأرقام والمشاريع والأحلام الموضوعة أمام الإخوة في شركة الخدمات الإعلامية ، ولكن الذي يعنيني في الأمر أن ديواني لم ير النور لأكثر من سنتين فيصرخ أحدهم محتجا : نحن لانتكلم عن الدار الجماهيرية للنشر .
تعاودك السخرية وتحيب بأدب جم : عفوا لقد تداخلت الأمور بالنسبة لي طيلة إقامتي خارج طرابلس ، ويبدو أنني سأعود قريبا لأكتشف دواليب المؤسسات التي تعنيني .
****
فجأة وكأن السماء تذكرتك ، فإذا بالصديق رضوان أبوشويشة يقف بحذائه الخشبي ومشاريعه الصغيرة التي أجد نفسي فيها حتى إشعار آخر ، ويقفل رضوان الحديث :-إن المثقفين والكتاب كلما التقوا تحدثوا عن النقود وهم آخر من تعرف النقود طريقها إلى جيوبهم !
وتخرجان ، المتوسط في الشمال ، والعربات تمرق في عجلة من أمرها ن وتبحثان عن شجن قديم فلا تجدان سوى الذكريات ، وحديث المكابدات المتكررة ، مكابدات كل يوم !
———————
مجلة لا العدد رقم 38 فبراير 1994