كنت أعيش في أحد أحياء مدينة “بنغازي” القديمة كانت الحياة تسير برتابة لا شيء في الجوار يمكنه أن يغير شيئاً… فلا حركة ولاحراك بعد أن يرخي الليل سدوله وتغرق المدينة كلية في الظلمة فلا مصابيح حول الشوارع تنير الطريق للناس وكانت كل الأضواء خافتة منبعثة من مصابيح الكيروسين أو زيت الزيتون تتسرب من خلال نوافذ البيوت الغارقة فى العتمة … كان الليل بالنسبة للمدينة هو العدم التام لسكانها فلا حركة و لا حراك وسط المدينة حتى وجوه الصباح ..
كان معظم سكان المدينة يلفهم الفراغ بردائه… فعند غروب الشمس تغرق المدينة في سكون تام… تماماً عندما تزور أحد المقابر ليلاً… فلا يسمع في جنبات بيوت المدينة القديمة سوى همسات تنتقل بين البيوت من هنا وهناك… كان كل مايروى داخل تلك الجدران مايحمله عجائز الحي اللاتي لاعمل لهن سوى الانتقال من بيت إلى آخر… ينقلن أخبار الجيرة وكأنهن صحف اليوم…لكسب حظوة لدى ربات البيوت للحصول على لقمة عيش أو حتى الحصول على بعض الدراهم… فتلك العجائز لا عائل لهن سوى مايجود عليهن من الأسر الكريمة من الجوار التي كانت مصدر العيش الأساسي لهن… لقد كن يتفنن في سرد القصص أكثر من غيرهن من النسوة… وتراهن يتفنن في السرد وكأنهن شخوص على خشبة المسرح… وتراهن وهو يمثلن الدور وكأنهن صانعات الخبر… وكانت النسوة المستقبلات لهن يسرهن الاستماع إلى أخبار الفضائح أكثر من غيرها من الأخبار الواردة إليهن… إنهن يظهرن شوقاً كبيراً إلى تلك الأخبار… في الواقع هن يتلذذن بشيء من الحماس الكبير شوقاً إلى المغامرة لإثبات الأناـ فهن يرين فيها متنفساً لغرائز مكبوتة قد سورت بذلك القعود مابين أربعة جدران… فتلك النسوة لايخرجن من بيوتهن إلا في حالتين الزواج أو الوفاة…
فقد ضرب عليهن الحجاب منذ نعومة أظفارهن… فهن لايتلمسن الضوء إلا مع انفلاق الصباح… فالمرأة في حينا حرمة لايجوز حتى التلصص عليها أو حتى الاقتراب منها فهي دائماً مقرونة بالعار… ولهذا ينعتونها بالعورة…
بل يذهبون إلى أكثر من ذلك لتكون أختاً للشيطان… وليست أختاً للرجل… وخطيئة المرأة لا تغتفر دائماً والمقابل دائماً سيف الجلاد…
كانت من بين تلك القصص المسرودة والتي شدت انتباهي أكثر تلك العائلة الصغيرة التي كانت تسكن أعلى الشارع… كانت تلك العائلة تتكون من زوج وزوجة دون أولاد لهم… أي لا أولاد من حولهم… كنا نرقب جيداً تحركات تلك الأسرة لأنها ولدت لدينا فضولاً عن غيرها من سكان الشارع… كان رب الأسرة رجلاً ضخم الجثة يتميز بشارب عريض… ظلت صورته عالقة في ذهني دون أن تنفك عن مخيلتي ولعلي أذكره إلى الأبد من هول الفاجعة التي حلت به دون غيره من سكان الحي… كان ذلك الرجل غريب الأطوار أو هذا ماكان يبدو لي… كان دائماً يطرق الشارع وحيداً جيئة وذهاباً كان دائماً يلوذ بالصمت لم نره قط يتحدث مع الجيران أو يسامرهم خلال قعوده في ذلك الشارع…كانت عيناه تتلصصان اركان الشارع فى وجل و كأنه يرتقب شيئا مفزعا حوليه ..كان جسده يتحرك وسط الشارع منفردا القامة ..كان لا أحد يعرف اسمه كان يكن ( بأبى شارب ) فكان الميزة التى تظهر على وجهه و تميزه عن بقية السكان فقد كان مجهول الهوية ..لا أحد يعرف كنيته .. وظل مجهول الأسم طول أقامته فى الشارع بيننا ..
وكنا نراه دائماً يتجنب اللصاق بسكان الحى لا يجالسهم اطلاقا .. كان دائماً تراه يسير بزهو في مشيته وكان يفرد قامته ولايتردد فى فرك شاربه بأصابعه وكأنه يفتل حبلاً…كان شديد الأهتمام بذلك الشارب .. فالشارب فى بلادنا رمز للفحولة و الرجولة ة لعله الشئ الذى يميز الرجل عن المرأة .. و لازلت فى حيرة من أمرى ..لماذا البعض يطلق الشارب ..؟ كان لا جواب..
الرجل كان يعيش وحيداً مع زوجته والتي لم نشاهدها قط حتى تطل بوجهها من فتحة الباب… كان الرجل قد دفع بها في سجن داخل البيت… لم نرها إطلاقاً تزاور إحدى عائلات الحي… أو حتى أقاربه يزور بيته… كان بيته يلفه سكون مطبق و كأنه سكن الموتى… كنت ألمح تلك المرأة بين الفينة والأخرى عندما أصادف طلعتها من خلال فرجة البيت … كانت ذات محيا منكسراً… وكأنها قد أتت عليها السنون…و كان الصمت يطبق عليها ..وكنا نشاهد ذلك البيت و كأنه قبر مطبق .. فيما أشاهده كانت تلك الأسرة معزولة عن كل شيء عن الناس والجيرة والأقارب… الرجل في الواقع لا أحد يعرف كنيته فقط كان يكن (باأبى شارب )… فالشارب في حينا كان رمز الرجولة والفحولة ولايحمله إلا الرجل الذي لايداس له على طرف… وحدهما عيناه اللتان أثقلهما الحزن والألم تجوسان النظر في الناس في خشية أو خوف منهم أو لعلهما تلعنان كل من حولهما…
لقد تخلى الرجل عن كل لباس ماعدا لباس الشرف الذي ظل ملتحفاً به بقية حياته منذ ذلك اليوم الذي أطبقت يداه على عنق ابنته الوحيدة لظنه أنها أخطأت…؟!! أو غرر بها أحد الشبان وقام بانتهاك عرضها… قد يكون ذلك أو لايكون… فالمرأة دائماً تحمل إصراراً على عدم البوح مايدور في ذاتها… فهي في العادة وفي مثل هذه المواقف لا تنفي عن نفسها تلك التهمة حتى وإن تعرضت للموت ..فهى تتلذ بالصمت حتى و أن تعرضت للضرب ..لعلى الزهو يدفعها بأن و راءها رجلا أعجب بها .. لا ندري تماماً لماذا؟!!
جريمة هتك العرض لا تغتفر في بلادنا بالنسبة للرجال خاصة، يقابلها دائماً سيف الجلاد ..و المرأة دائما هى الضحية ..
لقد نصب الرجل نفسه على المرأة في بلادنا بأنه الحكم والجلاد معاً إذا ما مس شرفه.. فالجريمة توسم الرجل بالعار اللهم إلا إذا ما أقدم على القتل لمسح العار كما يقال عندنا.. الواقع أن ذلك الرجل قد خسر المعركة وهكذا ما يبدو في تصرفاته الغريبة، معركة لم يهزم فيها أحد سوى ذاته.. لقد ظل طوال حياته كلوح زجاجي تهشم دون أن تتناثر شظاياه.
ذات يوم افتقدنا ذلك الرجل المزهو بشاربه، لم نعد نراه في الجوار.. لقد جرنا فضولنا للتساؤل عن غيابه.. فأدهشنا الجواب بأن ذلك الرجل قد مات منذ أسابيع خلت.. استغربنا الحدث.. فنحن لم نسمع صراخاً أو عويلاً حينما تحصل في حينا حالة وفاة لأحد الجيرة.. ولم نشهد مأتماً مقيماً كما تجري العادة في بلادنا.. لقد غاب الرجل وحيداً وغريباً عن أهله وجيرانه وكذلك عن نفسه..مات من أجل فكرة هو ذاته لم يكن يعتقد بها.. لقد ظل شبح ابنته يطارده حتى الموت.. كان لديه شعور بأن يديه هي التي قبضت على روح ابنته الوحيدة وليس هو الذي ارتكب الجناية.. لقد عاش بقية حياته جسداً دون روح.. فهو لم يعش وجوده قط.. كان يحمل اللعنة فوق جسده حتى القبر.
_____________________