قصة

إجهاشة الذاكرة باشتهاء الخبز.. وعيون سعدية

في أربعين القاص الراحل “عبدالسلام الشهاب“* نعيد نشر أحد قصصه التي نشرت بصحيفة (الأسبوع الثقافي) في العام 1978م

عبدالسلام شهاب

من أعمال التشكيلي.. معتوق البوراوي
من أعمال التشكيلي.. معتوق البوراوي

– هيه.. أنت.. انهض!!

يتوحش الليل فوق الأرصفة الميتة، تهتاج الربح الشرقية فتضرب وتجوس بين التخوم. 

مصرصرة، تجهش الذاكرة المتعبة وتنزف اشتهاءات مسببة تململ النفس المظلومة المكتدرة، وتزفر كمدا وغما، والجسد العليل، الناحل، يتوجع محموما، منطرحا بجوار الجدار تنهشه شراسة الوجع، والفقر والجوع.

– قلت.. انهض!!

تركض سعدية خببا، غزالة جامحة يعدو في أثرها، عبر حقل الذرة الفسيح الامتداد يدركها لاهثا، لاهثة، يقترب منها في رفق يحتويها بين ذراعيه السمراوين، تلفحه أنفاسها المتلاحقة الساخنة، يلتصق بها، تفعمه أنوثتها الضاجة بالاشتهاء، تنبجس عروقه بالرغبة وتضج بالحلول، يتوفر مندغما في تضاريسها، يشعر بضغط نهديها النافرين الاثنين على صدره العريض الخالي دفئا وعشقا، يتشرب شميمه عبق جسدها الأدنى الفائر.

يحسها بين ذراعيه منسابة في رخاوة، نشوانة مطبقة العينين، هنيهة ويحمر خداها خجلا، فتنسل ببطء من إطباقة ذراعيه، وتستأنف ركضها العلوي البهيج. وحين أصابها الإجهاد، استلقت على الأرض الندية تلهج جذلا، فأقعى حذوها وأنشأ يلاطفها ويناغيها، فيما اصطخبت نفسه بفيض غبطة طفولية شهية.

الصوت الأجش يرشح حدة وفظاظة:

– انهض يا ابن ال…….!!

شرع عينيه المطبقتين، فبانتا غائرتين في محجريها، خامدتي البطريق مأهولتين بالوجع والغربة، حملق ملسوعا، مهلوعا في الوجه الصلد الطافر حدة وصرامة. ثم تحرك لسانه الجاف المتخشب في وهن وجزع، فكان صوته أشبه بأنين متوجع مذعور:

– أن… أنا مريض.

– انهض وجع!!

– أنا يا سيدي مريض وغريب عن هذا البلد.

(يا لوعة اغترابي عن عيون سعدية، عن وجه أمي ولسانها المتذمر في المساء، عن عيون أخوتي الصغار المسكونة بالقذى والمرض وانكسار العوز، عن سمر الصحاب ومزحهم في الليالي المثمرة حذو الترعة، عن رائحة الأرض حين يعزقها أبناء بلدتي في بكرة الصباح.. أنا مريض.. وغريب).

– الجوع كافر يا سلامة.

– وماذا بيدي يا أماه؟

– ارحل.. ارحل يا سلامة وابحث عن خبز أخوتك الصغار.

من أعمال التشكيلي مرعي التليسي

السراج المسود ينوس ضوءه الشاحب في ركن الدار، وإيقاع الصمت الليلي الموحش يفتق في قلب الأم الحزن، فتأخذ في اجترار اكتدارها مهمومة الخاطر (يا عيني يا ابني.. نفسك في جبنة قديمة). ويتراءى لعينيها المشبعتين بالهم، يدس قطعة الجبنة القديمة في الرغيف الساخن، ويشرع في قضمه بشره، ملتذا، مبتهجا، (يا عيني عليك يا ابني)، وتتنهد في حرقة موجعة.

يتقرفص متكئا بظهره إلى الجدار الملطخ، يشرد ذهنه حينا، وحينا آخر يحدق بإمعان في وجه أمه، فيفجعه شحوبها واكتئابها، فيقلب عينيه، شهر الأجساد الصغيرة المقرورة الأطراف، حيث هجعت فوق الحصيرة، وانتظمت أنفاسها رغم أنف الجوع والسقم والصقيع.

– اليوم أخوك زكريا اشتهى جبنة قديمة.

صوتها مثقل بالحسرة مشبع بطعم المناحة والمرارة، وموحش كعواء الكلاب المسعورة، افتض أعماقه، وأشاع فيها اضطرابا ولوعة، واغتمامة خانقة، وشعر بأنه مطارد عبر صحراء جرداء مخيفة أمام شيء مجهول يملأ نفسه بالارتياح.. فيركض.. ويركض.. ويركض وجلا، وما من قبالته يلوذ ويحتوي به (إرحل يا سلامة.. أترك هذه البلدة الشحيحة وراء ظهرك وارحل.. أرض الله واسعة، فابحث عن خبز أخوتك بأظافرك ولا تيأس، فهذه حياتك، وهذا حظك، فامتط المجهول وارحل).

– بس خائف يا أماه من الغربة.

– الجوع يغلب الغربة.

(الجوع!! ايوه يا اماه، الجوع يقهر الخوف.. الجوع غلاب وجبار.. أجبر حسين متولي على الرحيل وترك زوجته وأطفاله منذ ستة شهور.. ولا حس ولا خبر.. لا جواب ولا فلوس ولا سلام!!.

يا ترى أيه اللي حصله في بلاد الغربة؟!)

– لماذا لا تريد النهوض؟!!

– مريض.. مريض.

سبعة أيام يطوف، ويطوف.. يجوب الأنهج باحثا سائلا عن عمل أيما عمل، والعيون المرتابة تصفعه بحدة تشرخ قلبه، وتشيح عنه في عدم اكتراث. سبعة أيام في هذه المدينة ينخره الجوع والإعياء والبحث المبدد هدرا.

قيل له في بلدته: (هناك عمل وفلوس مثل الرز، أصلها بلد بترول، وما من عمل وما من ابتسامة ودودة تسمح همه وتزيل عنه تعبه).

(آه يا سعدية.. آه).. العينان الشرستان تتفحصان في مظنة الجلباب المتسخ المهلهل، والوجهة المتعب الأسمر، المشوي بصفرة المرض.

– يبدو أنك مصري؟

– أيوه…

– معاك أوراق رسمية؟

– أنا غلبان

– داخل للبلاد خلسة.. هه.. تكلم يا…

– أنا غلبان

وتولته ارتجافة خوف انتفض لها جسده المحموم، وجعلت قلبه يجهش.. يجهش.. يجهش.. لحظة واصطدمت مقدمة الحذاء الجلدي الأسود، في ركلة خاطفة عنيفة بتجويف البطن الشديد الضمور، انثال ألم حاد في موضع الركلة، امتدت يداه في عناء تتحسسان بطنه، غامت عيناه في غشاوة بتأثير دوار عصف به.

ازداد الليل توحشا فوق الأرصفة الميتة، اشتد هياج الريح الشرقية وبدأت تعصف في شراسة، تدفق في الذاكرة المتعبة خاطر بهيج، ومض لحظات!! ثم ما لبث أن انقلب إلى إجهاشة متوجعة. طعم المناحة والمرارة على طرف اللسان. عواء الكلاب المسعورة الموحش يضج به الرأس.

الجسد العليل، الناحل، طفق ينتفض.. ينتفض.. ينتفض.. وزكريا يقضم في شره رغيف الخبز الساخن المحشو بالجبنة القديمة. كانت عيناه تبرقان مبتهجتين، وكانت سعدية غزالة جامحة، تركض عبر حقا الذرة الفسيح الامتداد.


الأسبوع الثقافي، الجمعة 24 من ربيع الأول 1398 ه، الموافق 3 من مارس 1978م، العديد: 298. ص 10.

* عرف الراحل ككاتب للقصة القصيرة والتي تميز فيها بشهادة جميع من عاصروه. وهو من مواليد مدينة بنغازي العام 1953م.
بعد خروجه من السجن في العام 1988م فيما عرف بأصبح الصبح، قرر اعتزال الحياة الثقافية والأدبية، ليعمل كقلم بمحكمة بنغازي، حتى وصل لمنصب رئيس قلم الجنايات بمحكمة استئناف بنغازي، قبل أن يستقل بعمله كمحرر عقود.
برز الراحل من خلال كتاباته بصحيفة الأسبوع الثقافي، سبعينيات القرن الماضي، حيث تميز في كتابة القصة القصيرة، بما امتلكه من أسلوب ولغة جعلت الكثير يتابعونه.
في العام 1978م، وفي شهر ديسمبر تحديدا، اعتقل الراحل شهاب، على خلفية الندوة الفكرية التي أقيمت بمسرح مدرسة شهداء يناير الثانوية، ببنغازي، ضمن مجموعة من الاعتقالات شملت أدباء وكتاب ومثقفي ليبيا.
(عن صفحة رابطة الأدباء والكتاب الليبيين)

مقالات ذات علاقة

وُجُوْه…

أحمد يوسف عقيلة

اشترك في رسمها شخصان

وخز الضمير

إبراهيم الصادق شيتة

اترك تعليق