حين سألتٌ عبد القادر الأمين، الطالب الذي يقيم في الغرفة قبلي، عمن رسمها، قال إنه وجدها هنا قبله بهذا الشكل معلقة فوق الباب وفي نفس المكان، دون أن يعرف من رسمها ولا متى رسمها.
كان المنظر الوحيد الذي زينت به جدران الغرفة الأربعة، ومما زاد من وحدانيته أنه رٌسم بقلم رصاص وعلى ورقة عادية، ورٌسم بسرعة كما يوحي لناظره، وأيضاً رٌسم ولصق على الجدار من غير ألوان.
صورة لوجه فتاة بالأبيض والأسود رسمها من رسمها على قدر من الحسن، حين علق الحاجبين وخط العينين والشفتين وكل ما على الوجه بعناية. كل ذلك بعد أن حلق شعرها ومسحه تماماً حتى غذّى رأسها بلا شعر، ثم حدّر ليدير عنقها بهدوء، وأسفل من ذلك كله مد خطاً باهتاً تماوج مع عرض الورقة، ليكون ذلك سطح مياه تغمر بقية جسدها وتخفيه، وقبل أن يرفع يده من على الورقة، استدرك من رسم الوجه ليعلق في كل أذن قرط، ثم طوق عنقها بعقد رفيع ونهض ولصقها فوق باب الغرفة إلى اليوم.
تمنيت يومها لو عرفت من رسمها. لو رأيته. لو قابلته وسألته. لو قلت له وقال لي. لو أخبرني عن ما أخفاه.عن سر نضح به وجهها أو سر نطق به قلمه، وحين تعذر عليّ ذلك اكتفيت بالنظر للصورة كل يوم وكل صباح وكل مساء. وحين أسأل عبد القادر عليها، يقول لي إنه رآها ولازال يراها منذ سنة فاتت إلى اليوم ولم ير شيئاً لافتاً فيها. أو لم ير ذاك الشيء اللافت الذي أراه أنا صباح مساء، أو الذي أتوهم أنني أراه .
والصورة في مكانها، صرت في كل يوم صباحاً ومساء حين أكون ممدداً على سريري وتحت رأسي وسادتان لا يزيغ بصري عنها، فحدّدتٌ لها مع الأيام عمراً يناسبها وفصلت لها مع الأيام جسداً يناسب رأسها وفي خيالي لونت بشرتها. وتصورتها وهي تقف في الماء وتغطس في الماء وتسبح فوق وتحت سطح الماء. وفوق كل هذا اخترت لها أسماً يعكس رقتها أو رقة قلبها التي ظهرت جلية على وجهها.
واستمر خيالي يحوم حول الصورة إلى أن صعدت مرة على كرسي وفي يدي محاية ومحوت العقد الرفيع الذي يطوق عنقها. كانت غايتي من ذلك أن أغيره بعقد آخر ربما يكون أجمل عليها، وعدت بعد ذلك إلى سريري وتحت رأسي الوسادتان لأرى اللوحة من غير عقد. تركتها بهذا الشكل عدة أيام وأنا كلما أعود وأمدد طولي على السرير تكون شغلي الشاغل، إذ ظهر لخيالي فيما بعد شيء جعلني أعدل عن فكرة تغير العقد بعقد آخر، أو حتى إعادة العقد الأول إلى عنقها.. شيئاً جعل صورة الوجه تلاحقني حتى خارج الغرفة.. في المحضرات والمطعم والشارع وفي كل مكان، حتى أتى يوم صعدت فيه مرةً أخرى على كرسي إلى الصورة وفي جيبي المحاية، ولكن هذه المرة قبل أن أمحو أي شيء، تفحصت الوجه عن قرب. بحثت عن أي أثر للكحل في جفونها لم أجد شيء أو أي ضلال حول جفونها لم أجد شيء.عن أي أثر لأصباغ على صفحة خدها الأيمن والأيسر لم أجد شيء، وعلى الشفتين لا شيء، والجبين والحاجبين لا شيء ومن هنا وهنا لا شيء.. باختصار لم أجد ما يميز وجه هذه الفتاة في ظاهره عن وجه أي فتىً ذكر، سوى تلك القرطين المتدليين من اليمين واليسار.! ولأن كل خط في الصورة كان بقلم من رصاص، فتوكلت على الله وأخذت المحاية ومحوت القرط الأيمن بالكامل حتى شحمة أدنها، والأيسر هو الأخر حتى شحمة أدنها.وبهدوء نزلت من على الكرسي وعدت على سريري كما كنت وتحت رأسي الوسادتين الكبيرتان.
كنت بهذا الفعل أختبر حالي.أختبر خيالي.أختبر خيال من رسم الوجه.أختبر حتى الوجه ذاته..هل ستتغير سماته وصفاته وتختفي الأنثى الخجولة منه بعد أن مسحت منه ما مسحت.؟! هل ستتوارى الأنثى التي تصورتها دائماً لا تظهر إلا خلف ضلال وأصباغ وزينة.؟! أم أن قلم هذا الرسام فات أبعد من ذلك في العمق، وبالتالي ستصمد ملامح الوجه أكثر أمام سطوة المحاية.؟!
بقيت بعدها الصورة بهذا الشكل، بلا عقد وبلا قرطين وبلا شيء في مكانها فوق الباب، طيلة سنوات دراستي في الجامعة، وحين يُدهش زائراً لنا في الغرفة ويسأل عن الصورة ومن رسمها، يجيبه عبد القادر قائلاً: لقد اشترك في رسمها شخصان وليس شخص واحد .
سمنو : 29\8\2008