المقالة طيوب النص

البطل الليبي

فوزي عمار

سبتيموس سويروس Septimius Sévèrus

كعادتي في أيام العطل أثناء الدراسة في بريطانيا كنت أتجول وأزور المتاحف والمعارض.. فهذه البلد يفتح لك شهية التعلم والتثقف من خلال الكم الهائل للمعرض والمتاحف وبأسعار شبه مجانية.

فمن متحف التاريخ الطبيعي إلى متحف العلوم إلى المتحف الفرعوني ومتحف فكتوريا وألبرت والمرصد الفلكي وأبحاث القضاء ومتحف الشمع ومتحف شارلي شابلن… وغيرها.

ومتابعة سلوك السواح في حد ذاتها متعة؛ فهم يتحركون في قطيع متجانس يلتف حول مرشد ويستمعون بشغف للشرح المفصل.. تقريبا يلبسون نفس الثياب من حيث الشكل والألوان والقبعات.. يلتقطون الصور ويتابعون بشغف ويسألون المرشد السياحي.. إنهم بذلك البحث عن التاريخ يخترقون المجتمعات ويفهمون الشعوب والدول من داخلها وتاريخها السياسي والاجتماعي.

كانت زيارة نهاية هذا الأسبوع إلى مدينة يورك البريطانية يورك وهي مدينة قديمة تقع عند لقاء نهرين إلى الشمال الغربي من إنجلترا وتبعد حوالي 200 ميل عن العاصمة لندن، تشتهر بآثارها القديمة كقلعة يورك وكتدرائية يورك والسور المحيط بجزء من المدينة.. تلك المدينة الرومانية التي أسسها الرومان بعد غزوالجزيرة الجرمانية.

كان طابور طويلا للدخول للمتحف؛ تجاوزته بسلاسة وفي صمت… مررت علي عدد من التماثيل لأجد أمامي تمثالا كبيرا في منتصف الصالة… إنَّه تمثال سبتموس سيفيروس! تبادر لذهني أسئلة عدة تتزاحم للخروج دفعة واحدة كان أولها ماذا يفعل هذا الليبي هنا في يورك؟

بعد دخولي للمتحف الروماني في مدينة يورك، وأمام التمثال الضخم نزلت علي ركبتي لأقرأ اللوحة المكتوبة أسفل تمثال سبتموس وانهمكت التهم السطور في شغف، وإذا بسيدة قصيرة القامة تتقدم نحوي وهي تتأبط كوم من الكتب “خُيِّل إليَّ أن الكتب أطول منها”، والتي تبدو أنها كتب مرجعية بحكم سماكتها.

قالت لي بالإنجليزية: “تبدو مهتما بهذا البطل العظيم..! قلت لها إنه ابن بلدي.. أجابت بسؤال: هل أنت من لبدة الكبرى؟ قلت: نوعا ما… أنا ليبي.

وضعت السيدة كوم الكتب على الأرض، وخلعت نظارتها وجلست القرفصاء، وقالت: إنه بطل عسكري عظيم ذو ثقافة وكان محاميا يتحدث عدة لغات.. ودون أن تنتظر أردفت في استرسال في سبر أغوار البطل الليبي سبتموس سيفيروس قائلة: لقد ولد في العام 145 في ليبيا، يعود نسبه من ناحية والده إلى أصول فينيقية ليبية، ومن ناحية والدته إلى أصول ايطالية رومانية… ولد في ليبيا والتي كانت وقتها تعرف بمقاطعة أفريكا، وتحديدا في مدينة لبدة الكبرى بليبيا اليوم، ولذلك عرف باسم الإمبراطور الإفريقي.

وفي العام 175م تزوج من الليبية باتشيا مارشيانا، وفي العام 179م عين قائدا للقوات الرومانية المرابطة في سوريا؛ حيث تزوج من امراة سورية أنجب منها ولدان هما كركلا وجيتا. ودرس الآداب والفلسفة في أثينا، واشتغل بالمحاماة في روما، وكان رغم لهجته السامية من أحسن الرومان تربية وأكثرهم علماً في زمانه، وكان مولعاً بأن يجمع حوله الشعراء والفلاسفة، كان جد سبتيموس فارساً غنيًّا، وكان أحد أقاربه مسؤولاً في الولاية الرومانية، والذي ساعده في دخول المجلس الروماني كسناتور ومؤيد للإمبراطور ماركوس أوريليوس.

تولى سيبتيموس ولاية جنوب إسبانيا قبل أن يعود إلى إفريقيا كممثل للإمبراطور، ثم كممثل عن العامة في مجلس الشيوخ بروما، انتعشتْ حياة سفيروس مع صعوده الوظيفي، خاصة بعد انتقال الحكم من الإمبراطور ماركوس إلى كومودوس فتولى العديد من المناصب الرفيعة كنائب قنصل، ثم حاكم لمنطقة الغال (فرنسا الحالية) وصقلية والنمسا والمجر، وفي أبريل 193 استطاع سبتيموس أن يكون إمبراطوراً لروما بعد اغتيال الإمبراطور برتناكس.

كُنت أستمع بتركيز للسرد الجميل عن حياة البطل الليبي سبتموس سيفيروس من قبل السيدة البريطانية، وتبادر لذهني سؤال عندما توقفت للحظة.. قلت: من أين لك بكل هذه المعلومات عن سبتموس سيفيروس… هل أنت تعملين هنا بالمتحف؟ أجابت: أنا اسمي كلير ينادوني بالبرفسور كلير أنا كنت رئيسة قسم الرومانيات في هذا المتحف (متحف يوركشاير).. لقد تقاعدت منذ أسبوع واحد فقط… وأنا الآن أخلي مكتبي لكي أنتقل إلي بيتي الجديد في مدينة بورمث (جنوب بريطانيا)؛ حيث الشمس والبحر والهواء النقي، وهذه آخر شحنة من الكتب، وأشارت إلى كوم الكتب على الأرض. ولقد عملت بالتدريس طويلا قبل أن ألتحق بهذا المتحف وسوف أتفرغ ما تبقي من عمري للكتابة… ثم استطردت: وللقرأة أيضا.

قلت: دعيني أستفيد من وجودك، وأسأل سؤالا أراه مهما؛ ماذا استفادت لبدة من ابنها الذي تحول إلى إمبراطور وبطل عظيم؟.. أجابت البرفسورة كلير: سبتيموس علّق اهتماماً كبيراً بموطنه، إذ اهتم بالتجارة وكانت ليبيا تسمي آنذاك بمخزن الغلال في الشرق وكانت مركزا تجاريا مهمًّا يشكل همزة وصل بين الشرق والغرب وبين أواسط إفريقيا وسواحل البحر الأبيض المتوسط؛ كما طور مسقط رأسه لبدة الكبرى فأنشأ فيها العديد من المباني والحمامات ووسّع من الأسواق والمسارح وافتخر بأصله الليبي.

قلت لها: شكرا لك، وأردفت بسؤال: هل لك أن تشرحي لي كيف وصل سبتموس إلي يورك هنا في بريطانيا؟ أجابت وهي تغمض عينيها وكأنها تجمع أفكارها، وقالت: لقد كان سبتموس رجلا قوي البنية، بسيطاً في ملبسه، قادراً على مغالبة الصعاب، بارعاً في الفنون العسكرية، مقداماً لا يهاب الردى في القتال، قاسي القلب لا يرحم إذا انتصر.، نافذ البصيرة قديراً صارماً في أحكامه مع انه كان رجلاً وسيم الطلعة، يتحدث الفنيقية لغة ابوه الليبي والرومانية لغة أمه.

لقد قرَّر محاربة كلدونيا في أسكتلندا وهي تملك قرابة 40 ألف جندي. وانتصر على الأسكتلنديين في عدة وقائع، ثم عاد إلى بريطانيا ووصل إلى هنا في يورك وبقي فيها والتي شهدت استقرارا في عهده وتوقفت هجوم الكلدونيين من الشمال… وأصبحت مقره الدائم. وفي سنة 211م كان على موعد مع الموت بعدما أصيب بمرض النقرس. قال وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة أمام أبنائه كركلا وجيتا: “لقد نلت كل شيء، ولكن ما نلته لا قيمة له”، وكانت آخر وصاياه: (الحفاظ على الأسرة الامبراطورية والعمل على استرضاء الجيش بكل الوسائل).

وقفت البرفسورة وهي تمسح الغبار عن مكان جلوسها قائلة: ذلك كان مختصرا عن هذا البطل الأفريقي… أو الليبي إن شئت. بدت لي كم هي قصيرة القامة… وشعرت بأن قامتي أقصر أمامها وهي تشرح لي تاريخ البطل الليبي الذي أجهله.

مقالات ذات علاقة

حائرٌ أنا كما درويش

المشرف العام

المكتبات الخاصة بين الورثة وبين البلذوزر (مكتبة يوسف علي محمد غالب عمورة القرمانلي)

مفيدة محمد جبران

ومضات ليبية عابرة – 1

المشرف العام

اترك تعليق