طيوب النص

أبي في السماء.. أمي في كل مكان

(فصل من كتابي: “غزو الديناصور العظيم”.. كتاب غير منشور بعد)

.

من أعمال المصور أسامة محمد
من أعمال المصور أسامة محمد

لعنة بيلولو:

لطالما تهكّمتُ على زميلتي في الكلّية بأن “الذكر أنثى مُـحسّنة جينيًّا”. ولـمّا كنتُ أنجح في إثارة غضبها كنتُ أواسيها بأن الذكر “في طريقه إلى الانقراض”، إشارةً إلى ما رصده علماءُ البيولوجي من استمرار قصر كروموسوم Y جيلًا بعد جيل. “سينقرض هذا الكائن الوديع بعد ملايين السنين وستَحتَفِظْنَ بذكور مُحنَّطة في المتاحف..!”

.

عمليًّا، يفقد كل كروموسوم بضعة “نيكليوتيدات” في حافات DNA التي تعرف باسم “تيلوميرز” بعد كل انقسام. ولأن كروموسوم Y أقصرها فهو أول الـمُهدَّدين بالاختفاء أو العَطَب. إنها لعنة “بيلولو” المسكين الذي ضاجع “عنانا” وهي نائمة فعاقبته بأن حولته قَـزَمًا ظل يصغر ويصغر حتى اختفى.

.

أمي في كل مكان:

يحضرني الصراع القديم بين الإلهين “إيل” الذي في السماء(1)، و”نـمّو” الذي في كل مكان على أنه صراع سياديّ بين الذكورة والأنوثة. “نـمّو” الذي يمثل الـمُطلق في صورته الغامضة يبدو سابقًا تاريخيًّا، إذ ظهرت دلائله الأولى في “الباليوليث” 13000 ق. م. (قبل الانقلاب الذكوري بـ7000 عام) في صورة إلهة أنثى مهيمنة على إنسان ما قبل التأريخ الذي تعامل معها بوصفها أُمًّا لكلّ شيء بأسماء حضر فيها – على الأرجح – صوت الميم: “نـمّو”، “يـمّو”، “يَـم”، “يـمّي”، “إمّي”، “أم”، “ماما”، “مم”. حتى غدا لحرف الميم دِلالة تشير إلى الأمومة وإلى الطبيعة أيضًا(2). غير أن الـمُطلق الغيبيّ تجسّمَ حين كان أسلافُنا يعبُرون العصور.. قبل أن يصلوا عصر “الميزوليث” كانوا قد نجحوا في تجسيدها في هيأة أنثى برأس أفعى، وهي الصورة التي ورثتها “عنانا” لاحقًا. ومع الاكتشاف المتأخر لدور الذكر المباشر في الإنجاب (الذي يبدو أنه تزامن مع اكتشاف الزراعة بداية النيوليث 8000 ق. م.)(3) ترسخت صورة الإلهين الأب والأم (“آن”، “كي” مثالًا لاحقًا). وبدأ “نـمّو” يأخذ شكلًا ذكوريًّا جَدًّا. أو ذكوريًّا ابنًا لأبوين سابقين “أبسو”، “تعامة”… (احفظوا هذين الاسمين رجاءً).

.

أبي في السماء:

أما “إيل/ عل” أهمّ آلهة العالم القديم فهو الصورة الأكادية للإله السومري “إنليل” إله الهواء وكبير البانثيون السومري. وربما كان إلهًا قديمًا لكن البُحّاث يشيرون إلى أن علاماته الأولى المتوفرة ظهرت بداية “الكالكوليث” (5000 ق.م.) في شكل فأس حينًا ومثلثين متقابلي الرأس حينًا آخر.. وهو ذاته “كرونوس” الإغريقي. وربما “إبراهاما” الهندوسي (مع اختلاف أسطورة نشأته)(4). وفي العموم فإن “إنليل” السومري وُلِدَ ابنًا لأبيه السماء “آن” وأمّه الأرض “كي” وهو الذي فتقهما بعد أن كانا متّسقين.

.

وكما كان للثنائيّ (الأب، الأم) دِلالة على فهم دور الأب، فلظهور الثالوث (الأب، الأم، الابن) دِلالة تعكس ظهور الأسرة بوصفها أساس المجتمع عوضًا عن الجماعة المفتوحة. ولنقِس على ذلك دِلالة تعدد الآلهة التي تحاكي ترسّخ ظاهرة التمدّن. قبل أن يُقَرصِن إيل (العالي) على وظائف آلهة أخرى في خطوة نحو إعادة التوحيد(5)؛ إذ عُبِدَ بأسماء مركبة مثل (إيل-ركاب) و(إيل-عليون) وحملت زوجُهُ “عنانا” صيغة اسمه المؤنثة “إيلات” التي عبدها العرب باسم “اللات”.. حتى انتقل اللفظ “إيل” من اسم صفة علوّ إلى صفة دالة على الألوهة: “إيل”، “إيليا”، “إيلاه”، “إله”.(6).

.

الإنسان أنثى ما لم يُذَكَّر:

جينيًّا، يحمل الذكر كلَّ الجينوم الذي تحمله الأنثى، ويزيد عليها بتلك الجينات الموجودة قصرًا في كروموسوم Y الذكريّ. منها الجين المعروف باسم “العامل الـمُحدِّد للخُصية” ويشار إليه اختصارًا بـ(TDF) أو بـ(SRY) وهو المسؤول الرئيسي عن تصنيع بروتين (H-Y antigen) الذي يعمل في مرحلة حسّاسة من نمو الجنين (الأسبوع الخامس تحديدًا) مؤثرًا على نمط تكشّف الغدّة الجنسية التي تكون في طريقها إلى أن تصبح مبيضًا (بسبب نمو نسيج القشرة على حساب نسيج اللب).

.

الجنين إذن في طريقه إلى الأنوثة ما لم ينجح مشروع التذكير الذي يفشل بنسبة 50% تقريبًا بسبب عدم حصول الخلية اللاقِحة على كروموسوم Y. أو لأحد الأسباب النادرة الأخرى كأن يحمل كروموسوم X القادم من الأم نسختين من جين متعصّب لقضية المرأة يعرف باسم DAX ،(ما يفتح جدلًا علميًّا حول رسم الحدود الدقيقة الفاصلة بين الذكورة والأنوثة).(7)

.

أما إذا نجح المشروع فإنّ بروتين التذكير سيُحْفِز خلايا اللُّب على الانقسام والهجرة على حساب القشرة، ومرحبًا بك يا جنين في عالم الذكورة فأنت الآن تملك خصية. (ملاحظة: “تعامة” هي الأمُّ القشرةُ الخارجية للكون، بينما “أبسو” هو الأبُ المادةُ الحبيسة “اللُّب”(8)

.

آدم… زوج أدمة:

يرى بعض علماء السومريات أن اسم “ننتي” يعني “السيدة التي تحيي” ما يقارب (حوَّاء) في العربية، ويعني أيضًا “سيدة الضلع”، لأن كلمة “نن” تعني سيّدة، و”تي” تأخذ معنيين هما (أحيا/ جعله حيًّا) و(ضلع)(9). كما أنّ ذات الاسم يأخذ الصورة البشرية للإلهة الكنعانية “تم” ممثلةً الأنثى الأولى، ولها أسماء: “دم”، “دمة”، “أديم”، “أدمة”.

.

وأدمة من أشهر أسماء ربة الأرض. كما أن للأرض دِلالة تشير دائمًا إلى الأمومة. فيما يقابلها المطر الذي يشير إلى دور الأب في الإخصاب. ومن أساطير الأنثروبوغونيا المصرية أن السلالات الأربع التي كانت تسكن الأرض في عُرفِها (المصريين، الليبيين، الآسيويين، الزنوج) انبثقت من دموع “رع” التي هطلت أمطارًا حين بكى(10). وربما “ننتي” هي مصدر كلمة “أنثى” في اللغة العربية. و”ننتي” هي إحدى آلهة الشفاء السومرية الثمانية التي خلقتها “ننخرساج” لتشفي زوجها الإله “إنكي” من أمراضه الثمانية الناتجة عن أكله الـمُفترَض للنباتات الـمُحرّمة. اختصّ كل إله في شفاء موضع (“ننتي” تشفي الضلع)(11).

من أعمال المصور أسامة محمد
من أعمال المصور أسامة محمد

.

(4 كيلو غرام) من لحم الإنسان:

لا أذكر أوّل أيام حياتي، لكن لا بدّ أن أبي هو من بادر – كعادته – بخلية دقيقة واحدة تحوي نصف كروماتين أية خلية جسمية، وكعادته أيضًا ترك بقية الـمُهِمَّة على رأس أمي. استضافت أمي “الحيمن” القزم في بويضة عملاقة مملوءة بالسيتوبلازم، هي أيضًا تحوي نصف الكروماتين. كانت النتيجةُ خليةً جسميةً متكاملةً قادرةً على مضاعفة مادّتها الوراثية وانقسامها إلى خليتين… مع تَكرر التفلّج الخلوي نشأ عالم هائل من الخلايا الجذعية التي أخذت في التمايز إلى أنسجة ثم إلى أعضاء. لكن مهلًا، من أين جاءت كل المواد الخام التي أنتجت (4 كيلو غرام) من لحم الإنسان؟ بصراحة – ومن دون زعل أحد – جاءت كلها من عرق جبين أمي. (فيما عدا مساهمة والدي التي تعرفونها).(12)


هوامش:

1. يشار إليه أيضًا أنه “عند منبع النهرين”.

2. يُنظر: إبراهيم الكوني: هكذا تأمّلت الكاهنة ميْم، بنغازي، منشورات المؤسسة 3. العامة للثقافة، الطبعة الثانية، 2009.

3. الحسيني معدّي: أساطير ما قبل التاريخ، القاهرة، كنوز للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2012، ص103.

4. مجدي كامل: المهابهاراتا.. الرامايانا، دمشق-القاهرة، دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى، 2009، ص38.

5. لتفصيل أكثر ننصح بكتابَـيّ “الأساطير السومرية”، و”الأساطير الكنعانية”. د. الحسيني معدّي، القاهرة، كنوز للنشر والتوزيع.

6. يُنظر: جورجي كنعان: تاريخ الله (إيل العالي)، بيروت، موديرن برس، الطبعة الأولى، 1990.

7. مات ريدلي: الجينوم، ترجمة د. مصطفى إبراهيم فهمي، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2001، ص132.

8. د. محمد ممتاز عبد القادر: موسوعة الأساطير، القاهرة، دار الخلود للنشر والتوزيع، ص271.

9. فراس السواح: مغامرة العقل الأولى، النسخة الإليكترونية للطبعة الحادية عشر، 1996، ص240.

10. إبراهيم الكوني: بيان في لغة اللاهوت، الجزء الأول، بيروت، دار الملتقى للطباعة والنشر، الطبعة الثانية، 2008، ص13.

11. د. الحسيني معدّي: الأساطير السومرية، القاهرة، كنوز للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2012،. ص101.

12. نشر في موقع “ثقافات”. يونيو 2015.

يونيو 2015

مقالات ذات علاقة

عمامة المطر

عبدالسلام سنان

الى يوسف الذى حملني حزنه…

خديجة الصادق

اليوم

عوض الشاعري

اترك تعليق