النقد

الوفاءُ للمكانِ والبيئة في “حكايات شارع الغربي” عند المرحوم خليفة حسين مصطفى(*)

الكاتب خليفة حسين مصطفى

مدخل:

عاش الأديب المرحوم خليفة حسين مصطفى حياة مكابدة حافلة بالترحال والتنقل بحثاً عن حفنة ضوء، وحالة حب، ولحظة سكون يستطيع فيها، ومن خلالها، الاطلاع على تجارب الأخرين وتطوير أدواته ونقش إبداعاته في المشهد الأدبي الليبي. كانت رحلته زاخرة بالحب والبساطة والهدوء، حتى لكأنه في دبيبه ومشيه الخفيف، وحديث صوته الدافيء الهامس يخاف أن تلاحقه لعنة تبذير الوقت والكلام في قول ما لا ينفع، أو الذهاب إلى حيث لا ضرورة.

كل وقته كان للحب والعمل. وكل صمته ونظراته كانت لتسجيل المواقف والأحداث ورصها في ذاكرة حديدية لا تغفل عن أدق التفاصيل. تعلق بنسيج القصة والرواية فكان سباقاً لكتابة محاولاته ونشرها، شاقاً وممهداً الطريق لمن جاء بعده من المبدعين في القصة القصيرة والرواية الليبية التي صارت في مرتبة أعلى الروايات العربية ممثلة في المبدعين إبراهيم الكوني وأحمد إبراهيم الفقيه.

حلق خليفة حسين مصطفى في فضاءات رحبة كثيرة وأمكنة مختلفة وعاشر ورافق وشاهد شخصيات متعددة داخل الوطن وخارجه، وعاصر حكومات أنظمة عميلة وممالك رجعية وحروبا واحتلالات وهزائم ونكبات وانقلابات وثورات كانت زاده ومعينه في عمله الابداعي الذي استوحاه من كل هذا التمازج الواقعي بين الوجوه والشوارع والطرق والجدران والأحداث والأمنيات الطيبة والأنفاس والانكسارات والزفرات، وأطلقه مجددا بصياغته المميزة وأسلوبه الشفاف ولغته وخيالاته الثرية وأعاد بث الحياة فيه من جديد فجاءت نصوصه المستلهمة مفعمة بروح أصيلة تنبض بالحيوية والوفاء لكل تلك الرفقة والأزمنة بكل أحداثها الغابرة العامة والخاصة ومشاعر بهجتها وانتكاساتها المريرة، ومتنوعة بين القصة القصيرة والمقالة النقدية وقصص الأطفال والمسرحية والرواية.

وإذا كانت الحكاية هي النبع أو المصدر الرئيس الذي تعتمد عليه القصة في بذرتها الأولى، فإن “حكايات شارع الغربي” للمرحوم خليفة حسين مصطفى تنتمي إلى فكرة القصة في أزهى تصويراتها الحديثة، وأبهى زينتها الوصفية، وأبسط مفرداتها اللغوية، والتي تؤكد أن القصة هي تعبير حكائي أو سردي شديد التكثيف، عن صور اجتماعية لحياة مجموعة من الشخصيات في فضاء زمني وجغرافي معين. كما تبين أن القصة من الأجناس الأدبية ذات المنحى الإنساني المميز بظهوره وحدوثه في كل مكان وحين، وإن تباينت فكرة نصوصها وأساليب سردها خلال العصور المتفاوتة بين قاص مبدع وآخر. وهي لذلك تكتسب خاصية التوثيق للأمكنة التي تجسدها بمواضيعها، وشخوصها التي تنطق بالتاريخ وتمزجه بالواقع في تشابك يعمل على شد المتلقي وتفاعله مع النص والتأثير فيه بواسطة مجموعة من العناصر الأساسية الواجب توفرها عند صياغة القصة.

وهذا ليس جديداً ولا غريباً فقد ارتبطت القصة بشكلها الحديث منذ نشأتها الأولى في القرن الثامن عشر، وهي تعد حديثة النشأة مقارنة بالأجناس الأدبية الأخرى كالشعر والأمثال والأساطير الشعبية والمسرح، بالنهل من معين المجتمعات البشرية حيث تناولت صور وأشكال ومواقف ونماذج حياتية شعبية، كان الأساس فيها هو التكوين أو البناء الحكائي الذي عرفه الإنسان منذ آلاف السنين وتأسست عليه القصة العربية حتى أن القصاصين العرب في أوائل عصر النهضة في القرن التاسع عشر انقسموا إلى تيارين، الأول اختار الانحياز إلى تقليد القصص الموروثة المدونة في الرسالات السماوية كالقصص القرآني وكتب التراث العربي كألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة وغيرهما، والثاني آثر تقليد النموذج الغربي الوافد اعتماداً على النصوص المترجمة من اللغات الآخرى، ثم بعد زمن طويل أفرزت الأعمال القصصية العربية بناءً فكرياً وفنياً خاصاً ومميزاً للقصة العربية في سنوات الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.

والقصة في ليبيا هي جزء من تاريخ الأدب في هذا البلد وأداة من أدوات التعبير الفني التي صورت بكل صدق وشفافية مراحل مهمة من مستوى حياته وظروف معاناته وكفاحه ونضاله وعبّرت عن شجونه وهمومه وآماله وطموحاته. وظلت القصة القصيرة في ليبيا (بعيدة عن موكب الدجل والتطبيل .. وخلال موجة التزييف الطافحة لم تكتب قصة في مدح ملك أو شكر أمير أو التملق والتغني بالنظام الذي كان جاثما على الصدور .. وإنما كانت تمثل النقيض من ذلك تماماً وظلت هي النافذة المشرقة والمضيئة لوجه الثقافة النظيفة) .

حكايات شارع الغربي:

بشكل صريح يعلن المرحوم خليفة حسين مصطفى أن نصوصه هي عبارة عن “حكايات” ولا يترك قارئه تائهاً في تصنيف عمله الإبداعي. فالإشارة إلى نوع هذا العمل تبدأ من العنوان الذي اختاره الكاتب لمجموعته الصادرة عن المنشأة الشعبية للنشر والتوزيع والإعلان سنة 1979 في 136 صفحة من الحجم الصغير “حكايات شارع الغربي” محدداً ومبيناً مكانها ومسرحها وفضاءها وهو “شارع الغربي” أحد ضواحي مدينة طرابلس. وهذا الفضاء القصصي لا يجعله المبدع مكاناً جامداً بل هو الساحة التي تتحرك فيها شخصيات الحكايات لإبراز الفكرة أو الموضوع لكل منها.

المجموعة القصصية (حكايات الشارع الغربي)

وقد اقتنص أو اقتبس المرحوم خليفة حسين مصطفى ستة عشر حكاية قصيرة من مجتمع شارع الغربي خلال فترة زمنية لم يحددها بشكل مباشر، بل غيّب الكاتب والراوي معاً زمن الوقائع والأحداث لكل الحكايات، ولكن القاريء وجد أن زمن الحكايات غير المؤرخة قد ألمحت به شخصيات كل قصة من خلال الأفكار والمواضيع التي تتناولها والمظاهر التي تتحلى بها، وقد طغت فيها المناسبات الاجتماعية والأعياد والعادات والتقاليد بشكل واضح وصريح، وهي تتيح الفرصة للقاريء للاطلاع بكل دقة على حركة الواقع وصورة مجتمع شارع الغربي من خلال تلك المشاهد والتصويرات والحوارات القصيرة الزاخرة بالوصف التفصيلي والدلالات العميقة المعبرة عن نمط الحياة آبان تلك الفترة الزمنية.

رتّب الكاتب حكاياته بشكل متسلسل كما جاءت في المجموعة على النحو التالي: القشور، المنفى، الثمن، الوجه الآخر، المصير، البداية والنهاية، هذه الشجرة، العيد، صاحب الحمار، الزيارة، الظلال، عصفوران وحجر، الفارس، الخطوات، اللعنة، الصورة الأخيرة.

ويبرز جلياً من هذه المجموعة وفاء القاص خليفة حسين مصطفى لبيئته وأحداث وشخصيات مجتمع شارع الغربي وذلك بتدوين حياتهم وسيرهم الذاتية في حكايات وقصص تخلد ذكراهم وتوثق الأمكنة والمعالم التي اجتهد كثيراً في تصويرها ووصفها وإبرازها واستنطاقها في تمازج جميل بين الواقعي والتخيلي يقودنا للتساؤل عما إذا كان القاص خليفة حسين مصطفى نفسه هو أحد هذه الشخصيات في مجتمع شارع الغربي سواء كان لاعباً أساسياً فيها أو متفرجاً وشاهداً عليها أم مجرد قاص مبدع استطاع أن ينقل إلينا قصص شارع الغربي بكل دقة وحرفية وجمال ومتعة وتشويق؟ وهل نعتبر “حكايات شارع الغربي” جزءاً من سيرته الذاتية الواقعية كمواطن استوطن وعاش بالشارع الغربي، أم أنها جزء من مؤلفاته الإبداعية ككاتب مبدع فقط لا غير؟

الخصائص التقنية للقاص خليفة حسين مصطفى:

اعتمد المبدع خليفة حسين مصطفى في كل حكاياته النص المكتوب باللغة العربية الفصحى، وقد جاءت لغته السردية بسيطة الجملة ومطرزة بالعبارات البلاغية المتنوعة بين التشبيه والاستعارة والكناية وكل المحسنات البديعية التي توحي بثراء قاموس كنزه اللغوي ومفردات أسلوبه الزاخر بالخيال والتصوير الخلاب مؤكداً جمالية هذا الأسلوب اللغوي في حكاياته، جاعلاً منها لوحة فنية توثق تاريخ وأحداث المكان. وبالقدر الذي قلّت أو ندرت فيه الحوارات بين شخصياته المتعددة، تفاوتت عنده لغة الوصف السردي في مستواها الفني من نص إلى آخر، فأحياناً يكون واقعياً حاداً معبراً عن انفعال الشخصية، وأحياناً يكون شاعرياً شفافاً. كما ابتعدت لغة حكاياته كثيراً عن الكلمات الشاذة أو الغريبة الوافدة من اللغات الأخرى كالايطالية أو الانجليزية أو مفردات اللهجة العامية التي عادة ما نراها حاضرة في القصص الليبية المماثلة لهذه المجموعة، وابتعد أيضاً عن استخدام الإيحاء والرمز الغامض، وقد استعان بالمنولوج الداخلي للإفصاح عن رغبات وهموم وأمنيات وأحلام شخصياته ووصف عالمها النفسي في حالة الاضطراب والحزن أو الاستقرار والسرور.

ويلاحظ أن الأديب خليفة حسين مصطفى قام ببناء مجموعته القصصية معتمداً على ركنين أساسين أولهما الواقع الملموس الذي يمثل المشاهدات الحية الواقعية المخزنة في الذاكرة وبعثها من جديد سواء بأسماءها الحقيقية أو تبديل الأسماء والإبقاء على الفعل والدور، وثانيهما تنظيم تسلسل السرد الإخباري للأحداث الواقعية ودعم المضمون العام للفكرة بوصف زاخر وثري جميل وتحفيزات ذهنية تشد فكر القاريء.

كما يظهر بوضوح انحيازه إلى استخدام “الراوي” الذي يتولى مهمة نقل وجهة نظر الكاتب في موضوع القصة ويقوم بعملية السرد للأحداث والوصف وكل التفاصيل. وقد تناول (نقاد المدرسة التحليلية بكثير من الاهتمام شخصية الراوي ودورها في الحبكة القصصية ومناقشة محل صوته من الإعراب في البنية العامة للنص القصصي وهل يمكن اعتباره شخصاً خارجاً عن موضوع القصة أم جزءً أساسياً منها، أم أنه الدليل الذي ينقل القاريء إلى عوالم النص ويفسر بعض كنهه وأسراره دون التعمق في تحليل تبعيته أو دوره في الأحداث) .

الفكرة والموضوع في “حكايات شارع الغربي”:

تعبر نصوص “حكايات شارع الغربي” عن أفكارها بكل هدوء وبلا ضجيج، مقتبسة من عناوينها هذا الوضوح المباشر، فجاءت مواضيعها بسيطة شفافة تتمثل في نقل وصياغة صور الحياة اليومية مثل مراسم إحياء مناسبات الزواج والأعياد الدينية وطقوس الحياة اليومية التي يعيشها شارع الغربي بكل ما تتميز به هذه الصور الشعبية من سرور باهت ورتابة وبؤس وفقر ومرض ومشاكل وخوف وتخلف وصراع من أجل لقمة للعيش بمستوى متواضع لا يعرف الأحلام ولا يعبأ أو يكثرت بالمستقبل وما قد يحمله من أحداث. أفكار ومواضيع تجسد هموم الواقع اليومي مستلهمة الدروس والعبر من تراث ووقائع الماضي ولا تحمل أية تطلعات أو طموحات للعب دور بمرتبة أعلى نحو المستقبل.

وعلى صعيد تطور مواضيع القصة فإن “حكايات شارع الغربي” قد تكون تمثل في وقتها بداية واعدة لمعانقة مشاهد الحياة العصرية في فضائها المكاني الذي نحس فيه بنسيم تطورات الحياة الحديثة ممثلة في الحديث عن ظهور النفط وبداية العمل مع الشركات الأجنبية وظهور الإعلان والدعاية للإنتخابات واختفاء المزارع والآبار والحيوانات من المشهد القصصي وهو ما قد نعتبره بداية لولادة نماذج الحياة الجديدة في القصة والتي نشأت وفقها مواضيع وأفكار تتناول حكاياتها.

الفضاءات والشخصيات:

حتى وإن استقر الفضاء المكاني جغرافياً في شارع الغربي بمدينة طرابلس بكل أزقته وبيوته ودكانه ومسجده ومدرسته دون غيرها، فإن الراوي أو القاص غيّب زمن أحداث الحكايات لأسباب خفية. ولكن رغم هذا فإن القاريء قد يستشف من تفاصيل الحكايات غير المؤرخة بعض الإشارات التي تبين وتؤكد أن زمن وقائعها يدور في أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن العشرين الماضي.

أما بالنسبة للشخصيات فقد تعددت وتنوعت بين الطفلة والمرأة الشابة والعجوز والحاج صاحب الدكان والتاجر والشرطي واللص والشحاذ والسكير وشيخ الجامع وصاحب الحمار واليهودي والمرشح الانتخابي والسمسار وغيرها. وبالقدر الذي يطغى فيه الواقعي في شخصيات الحكايات القصصية فإن التخيلي الذي يجسده الحكواتي عمران الكفيف والأسطورة التي تمثل ظهور شبح الفتاة المقتولة والمرأة الحبشية يأخذ مكانه وحضوره الواثق في بنية النصوص، كما أن الحضور الديني يتواجد بشكل لافت في مجتمع شارع الغربي بطبيعة تكوينه الاجتماعي.

قراءة مختصرة للحكايات:

في “القشور” وهي أول حكاية في المجموعة، ينطلق صوت المتكلم وهو الراوي الذي يؤكد انتماءه للحدث ومعايشته لنص الحكاية. ويقدم استهلالاً جميلاً يركز فيه على وصف دقيق للبيت القديم الذي يشبهه بالفندق. ويسترسل في الوصف بشكل جميل إلا أنه يظل يحتفظ ببعض غموضه وأسراره حيث نراه لا يكشف للقاريء كل مكنونات النص بل يتركه ينسج خيالاته ويسبح بأفكاره وظنونه متسائلاً مثلاً عمّا أرسلته الأم في القفة الصغيرة ولا يفصح عن محتوياتها أبداً حتى انتهاء الحكاية، ويترك للقاريء أن يتوقع ما يشاء في هذا الجانب. كما تبرز الأسطورة في النص من خلال الاشاعة عن شبح الفتاة التي صارت حديث الناس ومنعتهم من المداومة على صلاة العشاء في المسجد. ترد في الحكاية إشارة للعادات السيئة السائدة بين رجال الشارع وهي الحلف بالطلاق كما يرد على لسان الراوي.

أما في “المنفى” فبطل الحكاية هو الحكواتي عمران الكفيف الذي يوزع قصص ألف ليلة وليلة وجحا وعنترة بن شداد ويقصها على أهالي الشارع بأسلوب مميز ( يروي ويضيف بقدر يجعل العطاء أوفر والإثارة أدعى إلى الطرافة وروح المفاجأة، إن ذلك هو سر حكاياته التي لا تنضب، التشويق والاثارة دون التوقف عند نهاية متوقعة) .

أما في “الثمن” فيرسم صورة مأساوية لثورة “مريم” على تقاليد شارع الغربي ويجعلها تدفع ثمن تمردها باهضاً نتيجة عنادها واستمرارها في مواصلة تعلمها والعمل بعد التخرج من معهد المعلمات مدرسة ابتدائية. ثمن هذا التمرد على ثقافة وعقلية أهالي شارع الغربي المتخلفة هو بقاءها بلا حب أولا ومن غير زواج تقليدي ثانياً.

أما في “الوجه الآخر” يكتشف القاريء أن الحاج صاحب الدكان الوحيد في الشارع لديه منطقه الخاص في تعريف الأشياء فهو مثلا يعرف التجارة بقوله ( إذا تعود المرء على ركوب الحمار بالمقلوب فهذه هي التجارة، [ويفسر ذلك بأنه] عندما يركب الرجل الحمار بالمقلوب فلا أحد يعبأ بالحمار فالعيون كلها تتجه إلى الرجل، والحمار هو التجارة، إنه يمر وسط الناس بلا أية متاعب) .

تعريف غريب ومنطق غير معهود يورده القاص في حياة أهل شارع الغربي يذكرنا بأسلوب الصادق النيهوم وخليفة الفاخري في تضمين النص ببعض التشبيهات والتصويرات والعبارات الغريبة التي لا يفك النص طلاسمها ويظل القاريء يلهث وراءها بلا جدوى.

أما في “المصير” يجسد الشحاذ (مسعود) معاني البؤس والمعاناة بعد فقدانه زوجته الأولى. وتختتم الحكاية نصها بهذه الجملة (وتزوج الشحاذ العريق من أجمل فتاة في شارع الغربي) . بكل الاستغراب يتفاجأ أو ينصدم القاريء بهذه النهاية التي تحرك فيه العديد من الأسئلة حول هذا الشحاذ وإمكانياته للزواج من أجمل فتاة في شارع الغربي وهو لا يملك أي شيء؟ ما السر في ذلك يا ترى؟. يحتفظ النص بمفاتيح هذا السر ويترك للقاريء التفكير فيه.

تتضمن الحكاية حوارات قليلة وقصيرة الجملة وبسيطة المعاني دارت بين مسعود وأحد رجال شارع الغربي الذي صار فيما بعد صهرا للشحاذ (مسعود) حين اختاره زوجاً لإبنته الجميلة أمام ذهول الجميع.

أما في “البداية والنهاية” فإن “الشيشة” ذلك السكير الذي أدمن الخمر الرديء هو بطل الحكاية. تظهر في هذه الحكاية الصورة التقليدية التي اعتادها القاريء العربي لليهودي وهي “المرابي” أو “الخمار”. وقد أجاد الكاتب في الوصف الدقيق لهيئة شخصياته وتقاسيم البنية الجسمانية وتفاصيل الملابس أو الثياب والأحذية التي يغطي بها أجسادهم. وتنتهي الحكاية بظاهرة الاختفاء المفاجي أو تغييب شخصية الحكاية الرئيسية “الشيشة” دون أن يبين الراوي أسباب الغياب تاركاً القاريء في حيرة من هذا، وله أن يختار سبباً يقنعه لإسدال الستار حول فكرة النص.

وفي “هذه الشجرة” يبدو واضحاً حضور القاسم المشترك في الحكايات وهو تصويرها لحياة بائسة فقيرة رتيبة، شخصياتها تقليدية قد تظهر في عدة أماكن غير شارع الغربي. كما يظهر الفرق في الوصف عند مقارنة بيوت شارع الغربي مع بيوت سكان المدينة التي تتميز بكبرها ونظافتها، وهو ما قد يجعل شخصية الحكاية تفكر بصوت داخلي فتقول (الذي خلق الناس إله واحد ومن طينة واحدة كما يروي شيخ الجامع فكيف وفي أي زمن انقسم الناس إلى أغنياء وفقراء، إلى قلوب منسحقة تحت وطأة الهموم وأخرى لا تعرف ما هي الهموم)

أما في “العيد” حيث يرافق الراوي والده لصلاة العيد فينقل تفاصيل الشارع عند مروره به ومعالمه البائسة. يستمع إلى حوار قصير في دكان الحاج حين يتوقف والده ليشرب كأس شاي قبل الدخول إلى الصلاة. ينشغل الراوي بشخصية شيخ الجامع على المنبر وهو يعظ المصلين في خطبة العيد. ولنكتشف أنه في شارع الغربي لا يمثل العيد شيئاً سوى صلاة العيد (نغادر الجامع وندلف إلى بيوتنا في صمت، لقد انتهى العيد، انتهى قبل أن يبدأ، وها هو يغادر الشارع محمولا فوق ظهر شمس صغيرة، باردة، يرحل العيد ولا يبقي غير الأمنيات الحميمة والكلمات الطيبة) .

أما في “صاحب الحمار” فنلاحظ تكرار اقتران الحاج بمهنة التجارة حتى صار الدكان عنواناً للحاج والحاج رمزاً للدكان وهو ما نسجله في كل النصوص الورادة في الحكايات الدالة على عملية التجارة والبيع والشراء. وحين نتسأل عن النشاط الليلي لصاحب الحمار؟ يفاجأنا الكاتب بمونولوج داخلي يطرح منطقاً ربما صحيحاً ولكنه لا يمكن أن يكون مقبولا إلا في شارع الغربي. حيث يقول برواية صاحب الحمار (إن الدنيا التي تتسع للأغنياء لابد أن تتسع للفقراء واللصوص أيضا، إنه نوع من التوازن يتسم بالغرابة حقاً، فإن إحدى كفتي الميزان لا ينبغي أن تبقى خالية وإلا انقلبت الدنيا رأسا على عقب … إذاً فلماذا لا يزدحم اللصوص في نفس المكان الذي يزدحم فيه الأغنياء) .

فلسفة تحاول أن تبرر السرقة كفعل متوازن مع بقية الأعمال والمهن والوظائف الأخرى. ولكن الحكاية لا تترك هذه الفلسفة بلا حسم حيث نجدها تنتهي بالقبض على اللص وعقابه وفق قوانين الحكومة. هذا تحذير غير مباشر يوجهه الكاتب لمن يفكر بالسرقة.

أما “الزيارة” فهي تبين عدم فصل الأدب عن السياسة وتصوّر العلاقة بين الناخب وأهالي دائرته الانتخابية في المنطقة. وتروي الحكاية زيارة مرشح انتخابي للشارع الغربي طالباً أصوات الأهالي في الانتخابات ويقدم لهم الوعود الزائفة التي سرعان ما يتجاهلها بعد فوزه وجلوسه على كرسيه في قاعة البرلمان، وبدلاً من أن يطالب ببناء مدرسة أو مد شبكة الكهرباء والمياه نجده في هذه الحكاية يطالب بزيادة رواتب النواب مما يؤكد السلوك المشين المتمثل في الخداع والزيف والمصلحة الشخصية لدى السياسيين.

أما في “الظلال” فتحتوي على شخصيتين بارزتين هما شخصية التاجر عم محمد التي تظهر لأول مرة غير مقترنة بصفة الحج، وشخصية الطفلة (فوزية) التي بدلت المعادلة الرتيبة للشارع الغربي لكونها تحب اللعب مع الأطفال الأولاد دون البنات!! وفاجأت الجميع بذهابها معهم إلى المدرسة. وقد أحمر وجه شارع الغربي خجلاً وربما تلطخ عاراً من هذه الحادثة التي يعدها خارجة عن ثقافته، فالبنات في عرف شارع الغربي يجب ألا يذهبن إلى المدارس أبداً. ولذلك فقد ذهبت وفود الشيوخ تتوسل وترجو والد (فوزية) أن يوقف المهزلة. ولكن كان رده حازماً (لا عيب مطلقاً في تعليم الفتاة. هذه ابنتي ولن يشاركني فيها أحد) . انقلاب فكري يهز تقاليد وأعراف مجتمع شارع الغربي في زمن الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. كبرت فوزية، وكبرت أحلام الحكاية. وفجأة غابت فوزية ولم تعد إلى البيت. هروب فوزية مع رجل غني أرجعه البعض إلى سببين هما: أولاً تعلم الفتاة والسماح للبنات بالذهاب لتلقي العلوم بالمدارس، وثانيهما إلى السر الذي كانت تحمله (فوزية) في حقيبتها الخشبية!! ذاك السر الذي لا تكشف عنه الحكاية وتترك للقاريء مهمة البحث عنه.

أما في “عصفوران وحجر” فتسيطر الخرافة على نص هذه الحكاية حيث يؤكد الشيخ الفقيه عبدالله أن الأسياد على أهبة الاستعداد، وتوحي الحكاية بأنه مع ظهور النفط ازدادت أساليب المشعوذين وأعمال شياطينهم وعفاريتهم بشكل ابتزازي من أجل المال أو المتعة. كما أن تفجر النفط أدى إلى كثرة أعداد الأغنياء وارتفاع مؤشرات الطمع وعدم القناعة بالنصيب والفراغ الديني والفقر الفكري.

أما في “الفارس” فنقرأ فلسفة أحد أهالي شارع الغربي “أحمد المبروك” الذي ترك عمله السابق في ترقيع الأحذية وفتح دكان بقالة في تجربة جديدة لمهنة التجارة وهو يرى أن الحياة (لا تبقى محتفظة على الدوام بوجه واحد إنها تتغير كما يتغير الطقس، وتبدي لك أكثر من وجه بين لحظة وأخرى، تغريك وتوقظ شهواتك كامرأة ساحرة الأنوثة متوقدة العاطفة وفي أحيان أخرى تقذف بك إلى قاع الدنيا كالقضاء والقدر وفي كلا الحالتين ينساق الإنسان دون وعي إلى مصير مجهول) . المناخ النفطي الجديد أحدث تغيراً ملحوظاً في مجتمع شارع الغربي فقد ظهرت مهن جديدة كالسمسرة والمقاولات وخدمات وأعمال للكسب والثراء السريع. وبعد تعوده لأول مرة على عبارة (قيدهم على الحساب حتى نهاية الشهر) وهي الدرس الأولي عند مزاولة مهنة التجارة في شارع الغربي والتواصل المستمر لزفير إبريق الشاي الذي جلب حركة البيع والشراء للدكان عاد “أحمد المبروك” إلى منزله منتشياً بالنجاح الذي حققه في بدايته وهو ما قد يبعث إشارة لمستقبل الحياة الايجابية إثر ظهور النفط وما قد يوفره أو يجلبه من راحة وتفاءل بمستقبل موعود بحياة أكثر هناء وسعادة.

أما “الخطوات” فهي تجسد التغيير الذي أحدثته شركات النفط بأموالها وثقافتها الوافدة حين استولت على الجميع في توظيفهم في حقول النفط بالصحراء أو بمكاتبها بالمدن، لدرجة أن شيخ الجامع حين مد بصره نحو الشارع وجده فارغاً وخالياً من السكارى والمتعطلين واللصوص والمشاغبين. كل هؤلاء صادرتهم شركات النفط. ويهز (شيخ الجامع) رأسه نحو الحاج مخاطباً:

(- هجر الناس المسجد كما هجروا الشارع)

والهجران هنا يشير إلى الابتعاد والترك والنفور وهو ربما يشمل الآخرة التي يرمز لها المسجد والدنيا التي قد يعكسها الشارع لما فيه من حركة وضجيج يومي تتطلبه معيشة الناس. ولكن شيخ الجامع في حديثه إلى الحاج يستدرك بسرعة ليبين له:

(- كلهم يصلون ولكن بلا قبلة)

وحين لا يجد رداً على كلامه، يواصل عزف منولوجه الداخلي وهو يفكر بصوت عال ومسموع:

(- الصحراء هي القبلة الجديدة)

هكذا يحدد شيخ الجامع تنبؤه بالتغير الذي طرأ على الناس والحياة الاجتماعية وبروز قبلة جديدة تستقطب الناس الذين ينشغلون بالنفط عن ممارسة عباداتهم الدينية. والصحراء التي يرقد في أعماقها الخام الأسود الذي يتحول بعد تفجره واستخراجه إلى أموال وأرصدة في الجيوب تتبدل طبيعتها من مجرد صحراء قاحلة إلى قبلة نفط ومال يتوجه صوبها الناس تاركين وراءهم الجامع والشارع على حد سواء. الحكاية تبرز إحساساً مبكراً بتوقعات وخيمة على الحياة نراها حاضرة بين سطورها المليئة بالآسى والمرارة من الخوف على … المستقبل.

أما في “اللعنة” فيجسد شخصية الحكاية العم معتوق الكفيف. ويخبر الراوي عنه فيقول (عند رأس الشارع ألتقي بعمي معتوق مهرولاً كالعادة، فأتعجب لغرابة هيئته وغرابة مشيته المتعجلة، فأنت لا تدري في ما إذا كان الرجل يجري أو ينط كالأرنب، وأخيراً فإنك لا تملك إلا أن تضحك فالعالم كله الآن يجري على قدم واحدة) . كفاح رجل كفيف بحثاً عن عمل. أتقن لغة التجار وصار سمساراً خبيراً يتفوق على كل السماسرة ويقول عن نفسه ضاحكاً ومؤكداً براعته (لو خطر له أن يبيع الهواء لما أخفق في العثور على من يساومه) .

أما في “الصورة الأخيرة” وهي أقصر حكايات نصوص المجموعة. تتداخل فيها صور عديدة تجمع الأشباح والأمراض المستعصية وحيرة الناس في الحياة الدنيا وتعجبهم منها. كما تظهر في النص أسطورة المرأة الحبشية التي تزوجها الحاج ضمن زوجاته السبع في الصباح ولكنها اختفت في اليوم التالي. (ترى لماذا قدر له وحده أن يقرأ الفاتحة على روح الشارع المعذبة؟) . سؤال يلاحق الحاج كما يلاحق الراوي … والقاريء أيضاً.

الخاتمة:

لا شك أن “حكايات شارع الغربي” تمثلت فيها كل العناصر الضرورية في تقنيات السرد والصياغة والتصوير القصصي. فشخصياتها ظهرت متناسقة مع العمل كله وتوافقت أفعالها وحركاتها التعبيرية مع ما نفهمه عنها وتطابقها كنموذج بشري مع وظيفتها في النص القصصي. أما مواضيع الحكايات وأسلوب العرض وتنوع الحوادث والشخصيات والتفاعل بين الواقعية والخيال كلها برزت بغزارة في هذه النصوص التي شكلت إضافة للقصة والحكاية الليبية الراقية التي تسهم في الرفع من مستوى الذائقة الفنية لدى القاريء.

وإذا كان كل شيء في النص الأدبي له دلالاته فإن “حكايات شارع الغربي” أبرزت مؤشرات عديدة في كل ما أوردته من شخصيات وأحداث عن بيئتها ومكانها، وبالتالي أجمعت على قيمتها التعبيرية وتوثيقها لأحداث المكان والقضايا التي تتفاعل فيه. ومن هنا تتجسد القيمة الأدبية للنص الذي يستمد عناصره الإبداعية من تراثه الشعبي وشخصياته ومضامينه الاجتماعية والسياسية التي تنتمي للبيئة بكل إفرازاتها.

وإذا كانت شهرزاد قد جعلت من الحكاية في ألف ليلة وليلة وسيلة للعيش في فترة زمنية ما، فإن الأديب خليفة حسين مصطفى قد جعل منها هدفاً أبعد وأسمى وهو حفظ الموروث الأدبي والثقافي وإثراء الذاكرة الشعبية وصياغة وفاءه للمكان والمدينة بأسلوب إبداعي خلاق يرقى إلى الشهادة عن الأحداث التي صاغها التاريخ بأسماء وأمكنة أنطقها الأديب الراحل بكل دقة وبساطة لا تحتاج إلى مزيد تفسير أو توضيح أو تحليل، وهو بهذا يتفق مع القول بأن (تدخل القصاص بالتفسير من جهة، وبتعرية أعماق الشخصيات من جهة أخرى، أمر لا يجوز فنياً) وهو بذلك استطاع أن يقدم للمتلقي بعضاً من أنفاس الموضوع وروح المكان ووظيفة الشخصية محتفظاً ببعض المفاتيح الخاصة وبذلك (يتعين على المتلقي البحث عن أسرار العمل بنفسه) .


(*) نشرت هذه الورقة في العدد رقم (2) من “مواسم” الملحق الثقافي لصحيفة أويا، بتاريخ 2009/8/31 ، على الصفحتين 19-20. كما نشر جزء منها في “الشمس الثقافي” العدد رقم (21) بتاريخ 2009/11/23م، صفحة رقم 7.

مقالات ذات علاقة

الرستميون يعودون في رواية

محمد الأصفر

الأبعاد الثقافية للنسق الرمزي وتركيب المعنى في نص إبراهيم الكوني

المشرف العام

قراءة في رواية “ماريش في الزمن الغابر” للكاتب يوسف أبراهيم

سالم أبوظهير

4 تعليقات

الغربي عمران 17 يونيو, 2020 at 05:19

صباح الجمال.. جمال الحرف المسافر ابداعا شذيا .. صباح التجدد والجمال

رد
المشرف العام 17 يونيو, 2020 at 06:27

نشكر مرورك الكريم

رد
يونس شعبان الفنادي 20 يونيو, 2020 at 23:07

شكرا لك .. بارك الله فيك

رد
المشرف العام 21 يونيو, 2020 at 07:34

لا شكر على واجب!!!

رد

اترك تعليق