هتاف الصحارى ونداء التلال!
رمال الصحراء تمتد أمام العيون بلا انقطاع، كثبان ووهاد وتلال، والضوء الساطع يغمر كل شيء في النهار ويعكس الظلال والقمر يطل رائعاً بتمامه في مواعيده كل شهر. وفي مرات كثيرة تثور الصحراء وتزوبع. تنتفض الرمال وتثور، الغبار ودوامات العجاج والعواصف وتغيب عبر الدروب والمجاهل قوافل قادمة من هنا أو غادية إلى هناك وتضيع معها أغاني الحداة وتتوه منهم معالم وعلامات: بعض أحجار صلدة شديدة السواد مكومة بلا تناسق أو بقايا طعام تيبس أو عظام إبل نفقت منذ زمن أو علب صدئة محترقة بفعل الشمس.. وسراب هائل يخدع على الدوام!
الصحراء هتاف المدى، صهد في النهار وبرودة في الليل وأساطير وحكايات وأسمار حول نيران القوافل مع حبات من التمر.. ومجامر الرواة.. وقصص بنات الجن… لكنها هناك.. في الجغبوب ملاذ للخائفين وملجأ للآمنين من رجال الله والطلبة وحفّاظ القرآن الكريم. أصوات الخشوع والابتهال المورقة والأوراد: السيفي واللطيف تتردد في الزاوية المهيبة والخلاوي الوقورة. في الجغبوب البعيدة وسط الصحراء، وتنبعث من الكوى أضواء السُرُج بكل الأطياف الملونة وتستقر في أعماق النفوس الحائرة التي وجدت المنهج والهداية. تصير الصحراء بكاملها أنساً من الخوف والوحشة بعد معاناة الطريق وصراع العواصف والرمال.
السيدان المحمدان: المهدي والشريف إبنا المؤسس الكبير يتابعان شؤون الزوايا.. ويشرفان وينظّمان منظومة إخوان الطريقة.. يستقبلان الوفود والمبعوثين، وتظل زاوية الجغبوب هي المركز الأم لكل الزوايا في المنطقة وخارجها.
الزاوية، عالم آخر من النظام والترتيب والدقة. (مجتمع مدني مصغّر!) علم وعمل، دين ودنيا، طلبة صغار ورجال يحفظون القرآن ويرددون الأوراد فجراً وعشاء بكل إيمان ووقار، ويتعلمون الفقه والحديث واللغة، وينهضون في أراضي الزاوية بأعباء الخدمة العامة: الزراعة والصناعة والنجارة. يخلقون حياة وعمراناً مباركين. كان الإمام الأكبر يقول: (الكيمياء تحت سكة المحراث). وكان العمل يردف القول على أرض الواقع. وكانت الزوايا في مجملها نظاماً ومجتمعاً مترابطاً انطلق منه العلماء والرواد والمجاهدون والمثقفون وكل شيء. لم تكن تنظيماً سرياً أو خلايا حزبية أو تكتلات قبلية. كانت أكبر من ذلك: العمل من خلال الجميع دون إستعلاء والدعوة إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة. كان سلاح الزوايا بالدرجة الأولى العلم.. والكتاب. عندما حضر رشيد باشا الوالي العثماني لبرقة في زيارة إلى الجغبوب ومقابلة السيد المهدي السنوسي.. كان يتوجس من وجود أسلحة. سأل عنها، أجابوه: بأن المخازن هاهنا.. تمتلئ بالأسلحة، وعندما فتحوا له الأبواب وجدها مكتظة إلى حافتها بالكتب ونفائس المخطوطات! حركة دعوة وفكر وعلم لا تقوم على عنف أو إرهاب أو دروشة، لكنها في الوقت نفسه تواجه الظلم والاحتلال والغزو الأجنبـي وتنهض للدفاع في كل الأمكنة من الوطن المترامي الأطراف.. وأيضاً ما وراء حدوده!
كانت الجغبوب هناك، تترامى بالقرب من الحدود المصرية.. طريق الطواحين.. الدروب. المتاهات. الكهوف والمغاور. بحيرة الملفا. سباخ منتشرة عند الحواف، ووسطها نخيل وبيوت بسيطة متناثرة والمسجد وضريح الإمام (السنوسي الكبير) صاحب الدعوة السنوسية ومؤسسها. واحة تعيش على مواردها الذاتية، الزيت من الزيتون والتمر من النخيل، والسلطة التركية بعيداً هناك في مناطق الساحل تدير أمور الولاية مع الآستانة التي بدأت في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر تشعر بالوهن والتعب.
في بعض مناطق ليبيا شعور بالغبن من إرتفاع الضرائب. إنتفاضات محلية وثارات قبلية وعداوات سلاحها الخيل والبارود وقصائد الشعر، مات بعضها في المهد بفضل تلك الدعوة، لكنها تطل برأسها بين حين وآخر في بعض الأماكن. صراعات النفوذ والعصبية.
في تلك الأجواء، كان العالم يحتفل مع إسماعيل في مصر القريبة بشق قناة السويس عام 1869 – بعد وفاة الإمام بعشر سنوات -، قناة وصلت بين بحرين وغدت مجرى مائياً هاماً يربط العالم، وبعدها بأربعة أعوام 1873م، ستشهد الجغبوب ولادة أكبر أبناء السيد الشريف (أحمد) الذي سيستلم مهام الدعوة لاحقاً من عمه المهدي في ظروف صعبة ويقطع بها أشواطاً بعيدة من الحركة والانطلاق العظيمين.
عام 1876م، ستصبح روما عاصمة إيطاليا الموحدة التي سيواجهها أحمد الشريف في ليبيا بعد فرنسا (مع عمه) في تشاد، وفي ذلك العام سيعتلى السلطان عبد الحميد الثاني كرسي الخلافة هناك على شاطئ البسفور، وفي 1881م سيحتل الإنجليز مصر ويسيطرون على القناة. وستدور بينهم وبين أحمد الشريف معارك أيضاً. لقد بدأ النفوذ الغربـي يتحرك باتجاه المنطقة، ويحكم الخناق بلا هوادة، ويحاصر ليبيا من الجنوب والغرب والشرق.
في تلك الواحة المطمئنة العامرة برجال الله والتقوى وبدايات إرهاصات الزلازل المقبلة في العالم، ولد أحمد الشريف السنوسي…. كان ذلك يوم الأربعاء الثامن والعشرين من شوال 1290هـ – 1873م، بعد ما يقارب خمسة عشر عاماً من وفاة جده السنوسي الكبير. كان والده الشريف ثاني أبنائه. ولد في التميمي( ) شرقي درنة في الرابع من رمضان 1262هـ – 1845م. وارتحل في صباه إلى الجغبوب ثم الحجاز ورافق والده، وتعلّم على يد كبار إخوان الطريقة، وتصدّر للتدريس أيضاً في زاوية الجغوب، وألّف شرح مغنى اللبيب لابن هشام في النحو. وكان قد أصيب بطلقة من غدرية صغيره كان يحركها بيديه استقرت في صدره لكنه شفي منها.
كان الإمام الوالد يعتز بنجليه (المهدي والشريف) ويعدّهما للمستقبل على أحسن ما يكون الإعداد السليم في التربية والسلوك والمنهج، وقال عنهما: (المهدي له السيف، والشريف له الكتاب)، وقد جمع أحمد الشريف لاحقاً بينهما في وضوح وصدق، الكلمة والجهاد.
كانت والدة أحمد الشريف، أكبر الأبناء، ثالثة زوجاته والده محمد الشريف، تزوجها عندما بلغ من العمر عشرون عاماً (1286هـ – 1869م)، وهي السيدة خديحة العمرانية، أو خديجة بنت عمران بن بركة الفيتوري، جدّه العالم الشهير، وهو كاتب وشاعر ومؤلف كتب في العديد من المسائل الفقهية والشرعية والفلك أيضاً. حين رجع محمد الشريف من الحجاز هنأ والده الإمام بقدومه بقصيدة طويلة مطلعها: (ذاك برقٌ، بدا بُشرى لقد لمعا من جانب الشرق حسناه قد سطعا).
تعود أصول بن بركة إلى فواتير زليتن التي نشأ بها وتعلّم وحفظ القرآن الكريم وحصل على بعض العلوم ثم قرأ على السيد منصور بومدين في زاوية المحجوب بمصراتة وأخذ عن الشيخ أحمد بن عبد الرحمن الطبولي المشهور تلك الفترة، وعند قدوم الإمام السنوسي إلى مصراتة تعرّف عليه عام 1238هـ – 1822م. وفي مرحلة لاحقة سيقترب بن بركة من الإمام ويقيم معه في برقة ويظل موضع ثقته وإعجابه الكبيرين ويسهم معه في النهوض بالطريقة السنوسية، وهو الذي اكتشف موقع الجغبوب وأخبر به أستاذه، وشارك فى بنائه، وأصبح صهره، وتوفي عن عمر قارب المائة عام (1213هـ – 1798م). ( )
تلك البيئة الدينية والعلمية والاجتماعية، في رحاب الجغبوب.. في عمق الصحراء.. بين الوالد والجد للأم والعمّ وكبار الأخوان السنوسيون القادمون من شتى البقاع، نشأ أحمد الشريف ودرس وتعلّم، وحفظ القرآن الكريم، ونقل واستفاد من جلسات العلماء والشيوخ والأخوان. لم تكن الجغبوب بيئة طاردة أو منفّرة. لم تكن واحة متباعدة يقتلها العطش وتعصف خلالها الرياح وتثور الرمال. كانت بيئة حاضنة للجميع.. تكبر بالعطاء والتقارب وتعطي أحسن الأمثلة لتوهج العلم والمعرفة في فترة كان يموج فيها العالم بالقلق والاضطراب. ومثلها كانت أيضاً الزوايا المنتشرة على إمتداد الساحل والصحراء تقوم بالدور نفسه.. والواجب نفسه. ظلت الصحراء كلها مصدر إشعاع ولم تعد مكاناً للوحشة أو الخوف، أو ملاذاً للصوص وقطّاع الطرق والوحوش الكاسرة.
من هناك إنطلق أحمد الشريف. ولم يكن إنطلاقه من فراغ. كان صدى قوياً لهتاف الصحراء ونداء التلال، بيئة صقلته تماماً، وحياة أكسبته حصيلة رائعة من المعرفة على الدوام. يقول عن ذلك بخط يده( ): (أخذتَّ عنه = يقصد عمه المهدي – القرآن الكريم وقرأته عليه وقال لي بلسانه الشريف ما حصّلت القرآن إلاّ عليّ ولله الحمد المنّة وسمعت منه أول البخاري وقرأت عليه بلوغ المرام في أدلّة الأحكام من أولّه إلى آخره وقرأت عليه الجزء الأول من الدردير الكبير علي خليل وابن تركي بحاشية الصفتي وقرأت عليه أيضاً إبن عقيل على الألفية والآجرومية والجوهر المكنون وسمعت منه البردة وبانت سعاد والزينبية ومنظومة الأستاذ في النفوس وغيرها من القصايد التصوفية وقرأت عليه السيفي والأحزاب والمحامد والصلوات والحصون والنفحات والمغني وأخذتُّ عنه الطريقة المحمدية وصافحني وناولني الأحزاب وأجازني في قراءتها وإجازتها وناولني السبحة أفرغها في يدي بيده الشريفة.. وسيدنا الوالد رضي الله عنه كذلك أخذتُّ عنه وقرأت عليه القرآن وسمعت منه أول البخاري وقرأت عليه الآجرومية والألفية والأزهرية والصفتي والعزية وسيدنا السيد أحمد الريفي إذ هو الواسطة العظمى بيني وبين الأستاذين المذكورين وكان يقول الذي له واسطة ما يخاف…).
حياة علمية رصينة إنتهت بالتأثر والتأثير. كان عمه المهدي أساس من أسسها وظل هذا التأثر واضحاً في شخصيته وفي كل تصرفاته.. فهو عمّه وهو أستاذه الذي كان يقول دائماً لمن معه: (لا تحقرنّ أحداً لا مسلماً ولا نصرانياً ولا يهودياً ولا كافراً، لعله يكون في نفسه عند الله أفضل منك، إذ أنت لا تدري ماذا تكون خاتمته)!
لقد وجد أحمد الشريف نفسه صبياً وشاباً يُقبل على الحياة التي تحتاج إلى حمل الرسالة والنهوض بالواجب، لا على حياة الدعة والتكاسل والركون إليها، واكتملت شخصيته بهذا التأثر وصار لاحقاً من أبرز المؤثّرين فيمن حوله.. أو العاملين معه من أجل تلك الرسالة في الحياة.. وتحت قيادته عن طواعية ورضى.
ونتيجة لهذا التأثر وعقب وفاة والده تولاّه عمه أكثر بالرعاية ورافقه في جميع تنقلاته وأسفاره، وظل قريباً منه خاصة بعد نقل مركز الحركة السنوسية إلى الكفرة، ووصف رحلته معه في مخطوطه الشهير (السراج الوهّاج في الرحلة من الجغبوب إلى التاج)، وألحقه بالكوكب الزاهر. كانت الحركة السنوسية بذلك تعطي دليلاً على تواصل أجيالها وديناميتها وعدم جمودها.
وإضافة إلى هذا فإن دور أحمد الشريف سيكون إمتداداً لدور عمه وأستاذه، وستكون ثمة أوجه من الشبه تقارب بينهما كثيراً. إن الزمن سيظل هو الزمن. والمكان هو المكان. الصحراء وهتافها المتجدد، لكن التبدلات مع قادم الأيام والأعوام تثير حولها المزيد من المفاجآت، ليس فقط في تلك الصحراء وإنما في كل الأرجاء من ليبيا بل وخارجها أيضاً في الجوار القريب والبعيد. وسيجد أحمد الشريف نفسه وسطها: مزيداً من المقاومة والصلابة التي بدأها عمه ضد الفرنسيين هناك في السودان الفرنسي.. الذي سيعرف لاحقاً بتشاد. كانت المعارك تلتهب في وجنقة وبيرعلالي وأم العظام وعين كلك وكانت هي بداية التجربة للمقاومة السنوسية الليبية المبكرة ضد الأطماع الأجنبية.. هناك في التلال السوداء نشأت أولى الأدوار الحربية (المعسكرات) وانتظمت صفوفها وإدارتها.. وهناك برز الكثير من قادة تلك المقاومة إضافة إلى أحمد الشريف: عبدالله الطوير ومحمد بوعقيلة ومحمد العريضة والبراني الساعدي.. وغيرهم وسيكون أيضاً من بينهم عمر المختار الذي سيواصل المقاومة الباسلة بلا هوادة ضد الإيطاليين حتى إستشهاده في 1931/9/16م. قادة ورجال كانوا نتاج تلك الزوايا.. وتلك الطريقة. شيوخ وإخوان. جهاد من أجل الدين ورسالة نبيلة غايتها الخير في الحياة. فلسفة الطريقة في المنهج والدعوة.. دين ودنيا معاً. خطّان متوازيان لا يفترقان.
إن أحمد الشريف.. الصبـي النشط بين أركان الزاوية في الجغبوب ثم الشاب اليافع في الكفرة وميادين القتال في تشاد ظل على وعي كبير بأن (طرابلس) أو ليبيا سيغزوها (النابلطان) – الطليان – كما تنبأ جده السنوسي الكبير، وأدرك أن إحتلال فرنسا للصحراء سيجر خلفه أولئك (الطليان) إلى بلاده. كانت ليبيا جزء من الدولة العثمانية، إحدى ولاياتها في (بلاد العرب) تنقسم إلى متصرفيات وتتبع الآستانة مباشرة.. ولاة يتعاقبون ومحاولات لإصلاح ما يفسد الدهر.. لكن وهجها بدأ يخبو إيذاناً بالرحيل.. والعطار لم تعد أدواته تجدي نفعاً!!
المسؤولية… مقاومة وراء مقاومة
توفي العم والأستاذ والقدوة، المهدي السنوسي، يوم 20 صفر 1320هـ – يونيو 1902م، في زاوية قرو شمال تشاد التي كانت مقراً له بعد الكفرة. رجع أحمد الريفي – من كبار إخوان الطريقة وأحد معلمي أحمد الشريف – ومعه الجثمان، وجثمان نجله محمد الريفي الذي توفي بعد المهدي بعشرين يوماً، ودفنا بزاوية التاج المطلة على الكفرة والفضاء الفسيح عبر الصحراء.
كان يونيو فائظاً كالعادة في الكفرة وما حولها، والصحراء عموماً، عزّ الصيف والحر فيما القتال ما يزال يدور هناك في قرو ومحيطها رغم وفاة الأستاذ، لكن ذلك الحر اللّهاب لم يمنع كبار الإخوان السنوسيين من الاجتماع في التاج يوم 1902/6/19، بعد أسبوعين من الوفاة، لمناقشة الحاضر والمستقبل، وقرّ قرارهم على أن يتولّى أحمد الشريف المسؤولية وقيادة الحركة لصغر أبناء عمه (إدريس والرضا). كان عمره آنذاك تسعة وعشرون عاماً، وكان عليه أن يتحمل النهوض بتلك المسؤولية الثقيلة وعبر كل الظروف المحيطة لإكمال مشوار عمّه الذي كان قد بدأ منذ فترة يهتم إهتماماً ملحوظاً بالجانب الحربـي والدفاع وتدريب أبناء الزوايا ومنتسبيها على حمل السلاح عندما صار الخطر قريباً على حافة الصحراء المجاورة ويكاد يلامس الأراضي الليبية ذات يوم.
تابع أحمد الشريف القيادة والمسؤولية ونظم الصفوف وأسس المزيد من الأدوار المقاتلة وأرسل قوافل من الذخائر والأسلحة، في سلسلة المقاومة التي اشتعلت مع مطلع القرن العشرين في أغلب مناطق العالم الإسلامي.. في الجزائر وتونس والسودان وبلدان الصحراء( ).. وغيرها، ضد تلك الأخطار المتتابعة التي لم تعد في حقيقة الأمر (خطراً واحداً فقط). دول إستعمارية: بريطانيا وفرنسا إقتسمتا (الكعكة) وستلحق بهما دول أخرى في مقدمتها، إيطاليا، وبرز عبر تلك المقاومة الفريدة في تلك الأيام ما عرف بتيار (الجامعة الإسلامية) الذي دعا إلى الجهاد ومحاربة الأجنبـي وتحرير الأراضي الإسلامية من وجوده. ولاقت تلك الفكرة في الواقع إستحساناً وتشجيعاً من السلطات العثمانية (دولة الخلافة)، التي باتت تخشى على سيادتها وهيبتها، وفي فترة قريبة لاحقة ستستفيد هذه السلطات من أحمد الشريف وتحاول إستغلال مكانته وموقعه، وثمة آخرون في بلدان أخرى أيضاً شاركوا بطريقة مباشرة أو (غير مباشرة) في هذا التيار، على سبيل المثال: (الشيخان صالح الشريف وإسماعيل الصفائحي، وعبد العزيز الثعالبـي، وربما من بعيد محمد الخضر حسين وعبدالعزيز جاويش- الليبـي الأصل- وعبدالكريم الخطابـي وعلي الجزائري وسليمان الباروني.. وغيرهم)( ). وكان بينهم إتصالات عديدة وتنسيق مستمر مع منظمة (تشكيلاتي مخصوصة)( ) التي ضمت ضباطاً في الجيش التركي منهم أنور باشا، ونوري شقيقه، وبعض الضباط العرب: عزيز المصري وجعفر العسكري ونوري السعيد، وهؤلاء الضباط ستغدو لهم مواقف متباينة في الساحة الليبية عقب الغزو الإيطالي مع أحمد الشريف، خاصة فترة الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918م).
منذ تلك الأيام لم يتوقف أحمد الشريف عن المقاومة.. مقاومة تتبعها مقاومة وسط تبدلات متسارعة في صالح المشروع الاستعماري للمنطقة، واستمر كذلك إلى أواخر عام 1911م. تحققت نبوءة جدّه.. وصل (النابلطان) إلى الشواطئ الليبية وقصفوا المدن التي على الساحل وارتكبوا الكثير من الجرائم بالقتل والترويع. كان الوقت آخر شهر رمضان 1320هـ، وكان أحمد الشريف لحظة الغزو الجديد في الكفرة وعقد إجتماع لهذا الغرض في منـزل أخيه عابد السنوسي، وعن ذلك الاجتماع يقول أخوهما صفي الدين السنوسي( ) بخط يده ضمن مذكراته التي لم يكملها( ): (.. وكان الجواب – عن مهاجمة إيطاليا – من المرحوم خالنا السيد علي المحجوب والجواب موجود عندي إلى الآن يذكر فيه أسامي كل من السادة من السيد أحمد – الشريف – إلى إسمي أنا أصغرهم وفيه يستشير إيه العمل، هل يساعدو الحكومة العثمانية أو يتركوا بين الحكومتين وكان ذلك الوقت الأخوان من مشايخ الزوايا حاضرين عندنا بالتاج وهم السيد عمر المختار والسيد عبدالله الجيلاني والسيد محمد علي بن عبد المولى والسيد صالح العوامي..)( ).
ويواصل: (وانتهى الموضوع باحتلال بنغازي فأخذته – يقصد الجواب – ورحت به إلى الأستاذ الأكبر أحمد الشريف وكان ليلاً، فقال لي: إمش به إلى السيد محمد عابد والسيد إدريس وبقية الأخوة وإذا وافقوا يكون الاجتماع باكر صباحاً بمنـزل السيد محمد عابد بالضحى إن شاء الله فوافقوا كل السادة على هذا الميعاد وكانوا أبناء السيد الأكبر محمد المهدي: السيد إدريس والسيد الرضا وأبناء الوالد – محمد الشريف – رضي الله عنه خمسة: السيد أحمد والسيد محمد عابد والسيد علي والسيد هلال وكاتب هذه المذكرات واجتمعنا وكان طبعاً أكبرنا السيد أحمد وهو الزعيم بيننا المعترف به حسب العوايد في العائلة).
وتقرر، بالطبع، في هذا الاجتماع إعلان الجهاد والبدء في المقاومة ضد الاحتلال الإيطالي التي سيقودها أحمد الشريف، ثم ليتابع المواجهة – وإن أُستدرج إليها – في فترة من سنوات الحرب العالمية الأولى ضد الإنجليز على الحدود الشرقية (مصر). مقاومة تفصح عن تجربة أحمد الشريف في مقارعة الاستعمار العالمي وعبر ثلاث جبهات متلاحقة ودون توقف استغرقت من عمره قرابة العشرين عاماً، كان فيها الوطن حزاماً من النار.
بعد هذا الإستنفار على مستوى العائلة وكبار الأخوان ومناقشة الأوضاع الجارية في شمال البلاد، أكد أحمد الشريف بأنه: (تعين الجهاد بمفاجأة العدو ولو على إمرأة)( ) وتوجّه مباشرة إلى الجغبوب، مسقط رأسه وموقع ضريح جده ووالده، لكي يبدأ في قيادة النضال، وحضر إليه خصيصاً عزيز المصري الضابط في الجيش التركي موفداً من الحكومة( )، وتباحث معه في مجريات الأمور وتم التنسيق في المواقف. وسينكث لاحقاً هذا الضابط بتعهداته ويغيّر مواقفه مع أحمد الشريف ويهرب إلى مصر بأسلحة وأموال تاركاً المجاهدين تلك الفترة العصيبة في أشدّ الحاجة إليها.
إجتمع أحمد الشريف مع كثير من شيوخ وأعيان القبائل توحيداً للصفوف والكلمة، فيما شرع لاحقاً في جولة واسعة إمتد نطاقها إلى أماكن متعددة في برقة البيضاء وجنوب الجبل الأخضر ترافقه قوة مسلحة أنجز تشكيلها وبدأت تنمو شيئاً فشيئاً لتصبح نواة لجيشه فيما بعد إضافة إلى مجموعة من (الطلبة) الذين أكمل أغلبهم تعليمه في زاوية الجغبوب أو ممن كانوا على وشك الانتهاء منه، وفي هذه الجولة التي استغرقت حوالي عاماً كاملاً (1912م) أشرف بنفسه على تأسيس أدوار القتال (المعسكرات الحربية) في تلك المناطق وظل يتفقد أحوالها بالرعاية والتوجيه رافعاً من عزائم المنضوين إليها وبقي فترة خلال هذه الجولة أيضاً في زاوية مسوس جنوبـي سلوق وجعلها مقراً لقيادته. كانت في عمق تلك الأراضي ومنحت لقيادته بعداً استراتيجياً رائعاً.
وفي فترة أخرى وصل إلى درنة شرقي ليبيا، كانت هناك أدوار كبيرة للمجاهدين تكونت أيضاً منذ غزو الساحل الليبـي خاصة في منطقتي الظهر الحمر والطنجي على مشارف المدينة الجنوبية والشرقية وقد ضمت العديد من أبناء وشباب القبائل المجاورة ومجموعة من الضباط والعساكر الأتراك في مقدمتهم الضابطان التركيان: أنور باشا ومصطفى كمال الذي سيعرف لاحقاً بأتاتورك، إضافة إلى عدد من الضباط الليبيين الذين نالوا تعليماً حربياً قبيل الغزو الإيطالي في مدارس اسطنبول العسكرية باهتمام مباشر من أنور باشا.
مع وصول أحمد الشريف في هذه الأثناء إلى تلك المنطقة حدثت المعركة الكبيرة بين المجاهدين والإيطاليين في موقع سيدي كريّم القرباع يوم الجمعة 16 مايو 1913م، كان الربيع قد بدأ يرحل واقترب موسم الحصاد ومن بعيد ستقبل نسائم الصيف، وقد شارك أحمد الشريف في المعركة وربما تولّى مرحلة من مراحل قيادتها ونتج عنها هزيمة شنيعة للإيطاليين الذين سيذكرونها في مصادرهم بمرارة، فيما غنم المجاهدون أسلحة ووسائط لا حصر لها وأمسكوا أسرى( ). كان لهذه المعركة في واقع الأمر تأثيرات معنوية ومادية مهمة في حركة الأدوار وإستفاد منها المجاهدون وتغنى شعراؤهم بهذا الانتصار الذي رددت أصداؤه الوديان المجاورة وسنابل القمح في السهوب المنتظرة للحصاد القريب، وكان أيضاً – وهو عامل لا يقل أهمية عما سبق – حضور أحمد الشريف قد أضفى على المعركة أجواء روحية وتنظيمية كبيرة.
كانت تركيا قبل المعركة بأشهر قد آثرت الإسنحاب من المشهد الليبـي بناء على معاهدة أوشى لوزان في أكتوبر 1912م وأخرجت جيوشها رسمياً، فيما ظل بعض من ضباطها وجندها على مستوى شخصي، شاركوا في تدريب المجاهدين وامدادهم بالأسلحة المتبقاة دون أن تعود إلى إسطنبول، ولم ينشأ فراغ ملحوظ في القيادة والحركة على الإطلاق. قام أحمد الشريف مباشرة بواجبه وبما يمليه عليه ضميره، وستعبئ الحكومة السنوسية التي أنشأها كل القوى للعب دورها المطلوب إضافة إلى قيام الزوايا السنوسية المنتشرة بمعظم الأمور الإدارية والحربية بناء على تعليمات الحكومة في مساعد.
حكومة مساعد:
كان من نتائج التنسيق والتفاهم بين أحمد الشريف والأتراك الذين ظل يحترمهم لأنهم يمثلون السلطان ودولة الخلافة الإسلامية. في هذه المرحلة وبمساعدة منهم نشوء أو تكوين (الحكومة السنوسية) في مساعد الواقعة عند أطراف الحدود الشرقية لليبيا وبالقرب من السلوم.. المرفأ الإستراتيجي الذي كان يتبع لبرقة( ). كانت المنطقة تعرف في الأصل قديماً لدى السكان هناك بـ (مصيعط)( ) (أو مسيعد)، ثم صارت (مساعد) بتسمية من أحمد الشريف الذي نقل قواته وحكومته إليها وأضحت مقراً جديداً له منذ أواخر عام 1913م، وفي عام 1916م، احتلها الإيطاليون مع مرسى البردية القريب منها، وغيّروا إسمها عام 1923 إلى (كابتزو).
كانت مساعد المطلّة على السلوم وخلفها الصحراء منطقة حسّاسة واستراتيجية، فهي في مفترق دروب وطرق من الصحراء إلى البحر وبالقرب منها ناحية الغرب طبرق، وتمتد بعدها صوب الشرق مناطق براني ومطروح في تركيبة إجتماعية وقبلية تكاد تكون واحدة، قبائل أولاد علي ذات الجذور الليبية في برقة. هناك نشأت وانطلقت الحكومة السنوسية الوليدة.
بدأت المساعدات تصل للحكومة وإدارتها، وتجمع الأهالي حولها، واحتوت المنطقة مخيمات مختلف الوحدات من الجيش (مدفعية، رشاشات، مشاة، خيّالة)، وضمت ضباطاً ليبيين وغير ليبيين منهم على سبيل المثال: عاكف مسيك الغرياني (قبل تحوله إلى القوات الإيطالية في مرحلة لاحقة) وحسن بوشناق، ووصفي الخازمي، ونوري باشا، وجعفر العسكري، وأدهم الحلبـي، ونجيب الحوراني( )، ونهاد المهدوي، والضباط المصريون: اْلماس أفندي، ومحمد صالح حرب، ولطفي المصري( )… وغيرهم، وكان هناك مجلساً مدنياً للدور ضم الشيخ عبد الرحمن الزقلعي قاضياً للدور، والأمين الهوني، ومحمد مصطفى بن عمران، ومحمد محمد الأسمع، وأحمد التواتي، وأحمد المدني( ).. وآخرون، إضافة بالطبع إلى السيد إدريس السنوسي الذي وصل بعد أدائه فريضة الحج عام 1915م وكلّف بقيادة الجيش، والسيدين: صفي الدين السنوسي الذي تولى أدوار المنطقة الغربية من برقة، وهلال السنوسي( ) الذي ظل يدير شؤون الواحات والكفرة مع أخيه علي الخطابـي ثم قدم إلى مساعد في فترة أخرى.
وأُنشئت إلى جوار تلك المخيمات العسكرية مسقفات خشبية لدائرة الجمرك لمراقبة واستلام الوارد عبر السلوم ( )، وحوانيت بسيطة لتقديم بعض الخدمات وابتياع السلع الضرورية: الشاي والرز والسكر، ومستودع لمواد التموين للجيش والمنطقة تتولاه إدارة لشؤونه وما يتعلق بها، وعلى بعد بضعة كيلومترات باتجاه الشرق من مساعد كان موضع (بئر واعر) وهو الموضع الوحيد الذي كان يضم مبان حجرية (عكس مساعد)، وقد أضحت مكاناً مهماً واستراتيجياً للحكومة إذ كانت مخصصة لتصنيع الأسلحة وما يتصل بأعمال الذخيرة الحية ( ).
هذا المصنع الحيوي عمل به فنيون أتراك قدّموا من خبراتهم ومهاراتهم الكثير وترأسهم البكباشي بشير صالح القرطبـي( ) أو (بشير التوفيقجي) – كما اشتهر تلك الأيام -، وقد قام مصنع بئر واعر بتجهيز وإعداد ما أمكنه من الذخائر وتصليح الأسلحة المعطوبة وصيانتها وإدامتها لسلسلة أدوار ومعسكرات المجاهدين في جبهة طويلة تمتد من مساعد في الشرق حتى سرت وسط ليبيا، والواقع أن المصنع أيضاً لم يقتصر على هذه الأمور وحدها فقط بل قام إلى جانب ذلك بإنشاء ورشة ميكانيكية لإصلاح السيارات التي غُنمت من القوات البريطانية أثناء القتال الذي جرى عام 1915م ( ).
هناك على هضاب مساعد نشأت حكومة ظلت محط الأنظار في العشر أعوام الأولى من القرن العشرين وقامت بواجباتها الوطنية: إتصالات مع مناطق الدواخل والساحل()، ومع ألمانيا، ومع تركيا، ومع مصر، سياسة داخلية وخارجية تدير شؤون الحرب. معسكرات، ومصنع أسلحة، وجمرك، وإدارة، وضبط وربط. ولم تكن هذه (المنظومة الحكومية) بدون نظام. كانت مرتبة تحوي سجلات وإحصائيات وبيانات ومتابعة للأمور الاقتصادية ومعاملة الأسرى، والغنائم، ويقوم بريد نشط بربط الاتصالات والمكاتبات، وكان ثمة رتب وترقيات وعقوبات في صفوف الجيش. كان ذلك كله يتم وفق تعليمات وأوامر يومية تتوالى من الأعلى إلى أدنى مستوى أو رتبة وصولاً إلى تحقيق الأفضل، منظومة تكاملت بالتجانس والترابط ( ). وسيلحظ القارئ وثائق ورسائل (الحكومة السنوسية الجليلة) مصحوبة بطغراء شعارها.
في هذا كله، وسواه أيضاً، مع هذه السنوات الأولى لتجربة أحمد الشريف ومسيرته النضالية التي بدأها في الجنوب ضد الفرنسيين، اكتملت خبرته ومعرفته بالأمور معززة بصلابة الموقف والإيمان وعدم المهادنة أو التخاذل. لم يكن خلالها رجلاً عادياً، وظل طوال حياته يُشهد له بالنظافة وروعة الموقف كذلك، وحتى بعد وفاته لم يصبح على هامش التاريخ أو حافته. كان من صانعيه، وكان وسطه شخصية بارزة في التاريخ المعاصر لليبيا والعالم الإسلامي أيضاً.
لقد تولى القيادة والمسؤولية في ظروف صعبة وبالغة التعقيد، كما أشرنا، لم تكن فترة هانئة وسعيدة، والمتابع لهذه المجريات سوف يلحظ بوضوح أن أحمد الشريف لم يكن ساكناً أو جامداً، بل كان يحرك الساكن والراكد، ولم ينعم بلحظة راحة أو يسعى لمصالح شخصية. كان رائده العمل والحركة والمقاومة، وهذه كلها مع لحظات الدعة أو النعيم الزائل لا تتفق أو تلتقي على الإطلاق.
وكانت تجربة نشوء الأدوار المقاتلة التي بدأت في السودان الفرنسي (تشاد) إرهاصة لبداية قوية للمزيد من الأدوار في داخل البلاد إبان الغزو الإيطالي، وإن اتسمت لاحقاً بالتنظيم والتنسيق، وأفادت هنا الخبرات التركية ومن إلتحق بصفوف المقاومة أو من الليبيين الذين درسوا في المدارس الحربية في اسطنبول هذه الأدوار بمعارفها وأكسبتها آفاقاً جديدة في أجواء الإدارة والحرب.