محمد اسويسي
حين يعلن الخريفُ مقدمه، تتشارف أكداس السحب عالية، بآفاق الشمال البعيدة داكنة الأكتناز، لتتدلي على هضاب فرسيطة والمنصورة، وجروف الجبل الناهضة إلى السماء.
حينها، ينفث الشمال أنفاس البلل، فتشاكس بواكير رذاذها “قورينا” الجميلة، وهي تدهن أطرافها العفية بزيت زيتون الحنايا، فيما يجمع “باخوس” عنب “سهل الدبادب” الشهي في صنوف استعماله، فيعبق إكليل الجبل زعتره، وشيحه فرحاً، وعند القمم تتسلل شمس الضحى بين السحابات المطيرة تتخفي طارحة وشاح ألوانها معلنة “عرس الذيب”، لتجتاح المحاريث سبات الأرض بعصف قشها، تفوح رائحة طين الله تشخص شقوقه تتهيأ لبرق المطر الوامض، بأحداقها لتعلن حبات الحنطة والشعير حبلها.
وتقول الرواية التي يجانبها الصواب، أن “كيلوبترا” التي لم تكن جميلة سوى في حنكتها، وخفة ظلها وكونها ملكة وبصفة الحال، ابنة النيل ساكن المياه واحتفاء بزيارتها نحت لها “الأبولونيون” حوضاً صخرياً عند مدخل ميناء “سوسة” ولم ير هذا المسبح البحري العجيب جسد “كيلوبترا” الذي كان أقل جمالاً من عقلها فتحول هذا الحوض الى مدرسة تعلم بها أبناء “سوسة” الغطس في البحر، وتلقي علوم المغامرة، والقفز في مياهه كلما غمرته الأمواج امتلاءً.
البحر سرح اليدين (غليّني) وغروب “سوسة” الساحر، يكسو شواطئها بمعزوفة ألوانه تغشى أنفاس عشب البحر مساءات سوسة مبكرة النعاس لتحط على الأسطح وزجاج الشبابيك القديمة بخوراً لشوق لا ينتهي إلا عندما يلفظ الليل أنفاس نزعه الاخير، وتلعق السنة الديكة طعم النهار فتتصايح معلنة انا هنا.
بين جذلى وراقصة أمواج البحر ترسو صخرة (الطيارة) مُفرغة طافية قابعة على كفي المد والجزر، تقلع عند كل مغيب بأجنحة النوارس، ولا تعود إلا عند فجر البحر الناهض من عمق زرقته محملة بصنوف الوان القيعان لتبثها لزهر الخروب والشماري بوديان “مجهور، الحولة، المهبول”، وعواء ذئابها المتوجع نهماً لليل الافتراس في (سطيه ووادي بطومه وقلعة سنيارة والترك) هناك عند القمة حيث أعلن الشعر؛ أن الأصيل يلف سوسه في حُلةٍ نسجت من الأضواء*.
“سوسه” محمية السكينة في هدوئها الذي طالما استباح الطرقات القديمة، وتسكع بين الأرصفة الفارغة عند مقهي (مستو وعليو) وضلال هوتيل “اللوح القديم” وأطراف الباحات، والسوق، والجامع القديم، ومتواضع المحلات، التي تكاد تعرض الكساد مادة للبيع، حيث بقايا الخربشات على الحوائط القديمة تسترق السمع لغناء (بلاوتوس) لشويهاته في حقول السلفيوم العابقة، باللسلس والشقارة تراشق حجارته الصغيرة قرون معزاته الشقية الجانحة لتردها، والتي غضت كلابه الطرف عنها، كي لا تترك القطيع لذئاب الجبل الماكرة، وعند الشاطئ الساكن، تترنح مويجات متأنية، تفوح برائحة خيرات البحر، تجتذب كهول قطط سوسه بموائها المتثائب، وألوانها الوبرية الباهته التي تخلى عنها أصحابها الذين أحبوها يوماً، مشاكسة صغيرة تداعبهم بلغة طفولتهم، لم ينسها بحر ” سوسة ” من قوته.
في المواسم نجمع الشماري، الذي حدثتنا عنه اللغات القديمة أنه (شوماري) خدود مريم بل، ونضع أكليل الجبل زهرة مريم في وهج النار كلما أخافتنا رعود، وصواعق الشتاء طقوساً قديمة تقرباً للسماء ونجني الغرنبوش والكريشة والسيكران والقمحي التي نعرف كيف نجدها متخفية بالدرياس (والخورطة) تلك النبتة المقدسة عند أهل سوسه، والتي فضلت العيش بين البحر والبر لكليهما تحمل سراً يعرفه السوسيون وحدهم بل يجعلون من جمعها تقليداً موسمياً وإعدادها خصوصية لوجباتهم.
جنينا البطوم عند نضجه لنظيف طعم نكهته الجبلية (لقلية القمح) مع تناول طاسة شاهي أنضج على نار(قرمي بطوم) ذلك القرمي، الذي طالما أدفأ أطرافنا في ليالي الشتاء المبللة بل، وأكفنا كلما لسعتها برودة رياح الشمال نتحلق حولها مسامرةً تذكي عفوية حكايانا، التي لا تذهب بعيدا عن بسيط طموحنا.
طالما تحدثنا عن جمال عيون (أم العز) بلون خضرة المرارة، ونفايلها الداكنة المعلنة لصفاء بشرتها، وعيني مليتشي غزيرة الأهداب واسعة زرقاء صافية كبحر سوسة، وكحل عيون مصوابة الذي يشبه المرسين الناضج، وغثيثها الأسود المعصوب وخصلات شعر فيتي ذهبياً كصابة قمح (إمقارنس) حين يتهادى مع رياح الجبل قبيل حصاده، (ومسدة مقبولة) راجحة العقل والقوام وبسطها زاهية الألوان بعبق التراث تجريداً، ومفارش ” دانتيلا” البيتشي، رقيقة المشاعر والتطريز، هادئة كشمس الضحى.
عند مهجع الشموس ينتصب فنار المنارة يعاكس كريت بالإشارة كلما سنحت له الأنواء في مساءات سوسة الهادئة صافية السماء والشِباك تتهيأ للغوص بحثاً عن لقمة العيش، والفوانيس المعلقة و(اللمبارة) عند مقدمة القوارب، وحكمة الأنواء، عند شيخ البحر العجوز كركارة بعينيه بلون (القلتة) بلوني السماء المعشوشب، وكثيف لحيته رمادية كبقايا اتقاد سجارته، وقد ترك التبغ ملمح صفرته على اطراف شواربها, وعلى الرصيف القديم رائحة صنوف مخلوقات البحر قبل، أن تتحول إلى أطباق شهية تجيدها السوسيات دون غيرهن.
مدرسة (سوسة القديمة)، الهنيد، وبوفروة، والبرواني، والمدني وطابور، الصباح “بوشاح” وعليوه، ووحيد وبن عمران والمسماري ودقات الناقوس النحاسي، تلك الدقات التي نحبها كثيراً معلنة انتهاء رتابة جلوسنا علي الأدراج الخشبية القاسية مللا مضجراً لأطرافنا.
نوارس الشاطئ وحكايا “بوجير الله” الذي أغدق له البحر كنوزه دون سابق إنذار فالبحر زاهد شريعته؛ أن يهب ما ينال، وعرفت السماء متى تغلقها بكل هدوء، ولم يكابر “بوجير الله” الطيب وعلم جيدا أنه لو اكتشفنا كنوز الروح لما احتجنا لكنوز الدنيا، فيما ظل الحلم الراقد تحت الماء، يراود الحالمين بالكنوز من أبناء سوسة، والفنار القديم على حاله يعاوده الحنين، فالرحيل غياب تخفى، حنين ما يشدنا لمذاق لبن شكوة العجوز مريم المعرعر، وخبزة تنورها الشبيه بوجه القمر، وجبة كاملة لنا فقد كان جوعنا شديد التواضع، فويل لنا من حقيقة ندركها ثم نتجاهلها يفر الوقت من الدنيا ليستجير بالخلوة.
_______________________
* إشارة إلى قصيدة الشاعر المصري ” علي محمد أحمد” في وصف سوسة التي يقول في مطلعها:
أرأيت سوسة والأصيل يلفها .. في حلة نسجت من الأضواء.