هنا ليبيا :: إعداد/ كوثر الجهمي
“الفنّ يغسل عن الروح، غبارَ الحياة اليوميَة” – بابلو بيكاسو…
والغبار في بلادنا، لا يقتصر على ما تلقيه الحياة في وجوهنا من مصاعب ومتاعب، بل يتعدّى ذلك إلى غبار البارود ورماد الحرائق؛ ولكننا رغم هذا، وبدل أن نقتات بالفنّ في مواجهة جوعنا إلى الجمال والسلام، لا نرى فيه إلا هواية للمتفرّغين، ولا نعترف بجماله إلا إن كان مجّانيًّا، ولا نصنّفه إلا ترفًا لا ينبغي تبذير الأموال لأجله! فنرى فنّانين دفنوا مواهبهم لقناعتهم التامّة بأنها لن تطعمهم خُبزًا.
فما هو رأي الفنّانين المتمسّكين بفنّهم، المُطالَبين أحيانا بتقديمه مجّانًا؛ وكأنه أمرٌ مفروغٌ منه؟ وما وجهة نظرهم في الأسباب الكامنة وراء هذه النظرة الدونية للفنّ، رغم عشق العين أو الأذن إليه؟!
> الفنّان في مجتمعنا: درويش جائع (شكري الميدي)
عن تجربته، يقول شكري الميدي أجي (روائي ليبي شاب): “مع إعلان صدور الكتاب، يتوقع الأصدقاء نسخاً مجانية، بالنسبة للبعض هذا دليل على الصداقة“ وهذا ما يدفعه كثيرًا للشرح، بأنّ الكتاب سلعة كأيّ سلعة أخرى، “هل تذهب إلى الصيدلي وتطلب منه الدواء مجاناً؟”، سؤالٌ يبدو إجابة أكثر من كونه سؤالا، يوجّهه شكري للمطالبين بالنسخ المجانية، وهو بصفته كاتبا يسعى إلى تسويق كتبه؛ يحرص على منح تلك النسخ المجّانيّة للمؤسّسات أو الأفراد الذين سيُساعدونه في نشر الكتاب، بالدعاية أو كتابة المراجعات الصادقة.
وعن أسباب أزمة تقبّل المجتمع للفنّ مصدرًا للدخل، يقول: “تعاملنا دوما مع الفنون كهواية، لم تكن مادة أساسية في أي سنة دراسية، بالتالي لم تشكل تحدّيا، ولم نعرف أيّ فنان عاش حياة مختلفة عن الصورة النمطية للفنان الدرويش الطيب، المنعزل والزاهد بكبرياء حد الجوع”.. “هذه الصورة التي نشأ عليها كلّ ليبي، حتى أصبح الفنان الذي يهتمّ بالمال يعتبر مزيّفاً ومدّعيا؛ وهذا مرتبط أيضا باعتبارهم للفن كفعل سهل، خاضع فقط للإلهام، غير متعب، ولا حاجة للناس به، يمكن للجميع العيش من دون معرفة رامبرانت مثلاً، ولا قراءة شيكسبير. منذ الصغر يعرف الليبييون أن أبناءهم يريدون أن يصبحوا أطباء ومهندسين، لأسباب نفعية لا يريد أحد أن يمتهن أبناؤه الفنون.”
> الفنون تُعاش ولا تُدرّس (نجلاء الفيتوري)
أمّا نجلاء شوكت الفيتوري (فنانة تشكيلية ليبية)، فتؤكد أنّ البعض قد يعبّر بصورة غير مباشرة عن رغبته في اقتناء بعضٍ من لوحاتها مجّانا. (نجلاء) لا تتردّد في منح ذلك لبعض الأصدقاء المقرّبين أو الجهات الخيرية بكل حبّ؛ لكن هذا لم يمنعها من تكوين سوقها الخاص، منذ أكثر من عشر سنوات، وتفعل نجلاء ذلك: “حبّاً في جعل اللوحة تدخل بيوت الليبيين كقطعة ضرورية لإشباع الروح، بدلًا من أسلوب النزعة الاستهلاكية”.
وحين سألتها عن سبب نظرة المجتمع للفن كهواية ينبغي أن تُقدّم مجانا، تجيب نجلاء: “لدينا أزمة ثقافية متراكمة عشعشت في ثقافة مجتمع منعزل مقيّد بتقاليد متوارثة. وبعد طوفان العنف والقتل، من الطبيعي أن ينسى الناس ما هو دور الفنون كوسيلة ممكنة لتغيير الرؤية المشوّشة، تعاملنا مع الفن كأنّه غير واقعي وحمولة زائدة في عقولنا، الحلقة مفرغة وعلينا منح فرصة للجيل الجديد لتغيير صورة الفنون؛ لأن الرصيد فارغ للأسف! الناس في بلادنا عامةً، لديهم حكم مسبق عن الفن بأنه هواية، وليس حاجة ضرورية للمعيشة، وما تزال المدارس حاضنة وزارعة لهذه الفكرة القديمة، التي تخرج أجيالًا لا يكتشفون ذواتهم ومواهبهم، فلا يسترجعون ما فقدوه من خيال و إبداع؛ الحقيقة أن الفنون تُعاش و لا تُدرّس. هنا على المُحترف – ليس الهاوي – تجديد الوعي؛ فالإبداعُ عمل فرديّ واحتياج المجتمع له أمرٌ مُلحٌّ في لاوعي الفرد، خروجه من المألوف يجلب حياة جديدة من فكرة فنية بسيطة، إنها صحوة الانقلاب على الذات”.
> نظرة المجتمع للفنّ ضيّقة (أحلام البدري)
أيضًا أحلام البدري (مصوّرة فوتوغرافيّة) أكّدتْ أنّه كثيرًا ما طُلِبَ منها التصوير مجّانًا؛ ولكنّها لاتفعل ذلك إلا لصالح الجمعيات والمؤسسات الخيرية، أو لدعم المشاريع الصغيرة. ترى (أحلام) أنّ: “ثقافة المجتمع ونظرتهم للتصوير بصفته فنًّا مازالت ضيقة، تدور فى دائرة التوثيق لمناسبات اجتماعية فقط”. كما ترى أنّ السّبب في ذلك، هو: “قلة الاهتمام بنشر الفن كثقافة تعبر بها هذا العالم المفتوح، التصوير له مدارس وأكاديميات ومناهج دراسية. الصورة يمكن أن تعبُر بها الضفّة الأخرى من الكرة الأرضية! وهذا يعود لقِلّة الدعم والاهتمام من وزارتي الثقافة، فلا يوجد فى ليبيا براح مفتوح مخصص للفنون والمعارض بشكل دائم يعزّز ويرفع مستوى الذائقة البصرية، ويحتضن الجمال بمستوياته المختلفة”.
> عندنا، يفقد الفن احترامه إذا ما تحول لمهنة (مصطفى نجم)
مصطفى نجم (موسيقيٌّ وعازف عود) يرى بأن ثقافة المُجتمع اعتادت النظر بنمطيّة للفنّ باعتباره هواية؛ لهذا كثيرًا ما طُلب منه العزف مجّانا، وكان يفعل ذلك رغبة منه في مشاركة فنه مع الحضور، إلا أنه توقف حاليا عن هذا. يقول مصطفى: “إنّ النّاس يعتبرون الفنّ أمرًا محبّذًا إلّم يخرج عن نطاق الهواية، فإن خرج عنها وتحوّل إلى حرفة تُدرّ دخلا، فقدوا احترامهم للفنان وما يقدمه!”.
> الفن أولا
على عكس ما يتوقّعه معظمنا، فإنّنا في وقتنا العصيب هذا تحديدًا، أشد ما نكون بحاجة إلى كلّ ما يربطنا بإنسانيّتنا، والسمو بأرواحنا عن متطلباتنا المادية الحيوية، التي نشارك بها بقية المخلوقات الحية!
فلنأمل إذًا، أن تنظر وزارتا التعليم، ووزارتا الثقافة، إلى هذه الحاجة، وأن تركّز اهتماماتها في كلّ ما يتعلق بدعم الفنانين – الصغار قبل الكبار – مادّيًّا ومعنويًّا، بإتاحة المجال لتعلم شتى أنواع الفنون بحصص إجبارية، في كل المراحل التعليمية، يحقّ فيها للطالب اختيار شكل الفنّ الأقرب لوجدانه، ورعاية المعارض والمسابقات والندوات والتشجيع على حضورها، وقبل كل هذا، توفير المناخ الآمن والبيئة الخصبة. ربّما يصبح الفنّ حينها حِرفة مرموقة، يحلم بها الصغار، كحلمهم بأن يُصبحوا أطبّاءً أو مهندسين، أو محاميّين أو معلّمين.