قلما ينجو المرء من الشعر إذا ما خاض غماره يوما ومارسه على مستوى الكتابة، وقليل من الشعراء من لم ينقاد لسحره الغامر وسطوته الآسرة حتى النهاية بعد أن ذاق حلاوة اقترافه ولذة اجتراحه، فالأمر يشبه اقتناص شيء من العدم أو اصطياد معنى من اللا معنى أو إسباغ شيء من الجدوى على العبث، غير أنَّ شعراء قليلين جداً أصيبوا بما يشبه السكتة الشعرية فلم نعد نسمع أو نقرأ لهم شعراً، في هذا النهج الذي افتتحه الشاعر الفرنسي رامبو، الذي أبدع في الشعر ونبغ فيه وخطَّ لنفسه طريقاً في متاهاته قبل أن تستدرجه التجارة إلى واقعيتها ويهجر الشعر إلى غير رجعة في سن مبكرة وكانهُ لم يعرفه يوماً، وغير بعيد عن هذا الفراق الواعي أو اللا واعي نتيجة ظروف معينة قد تضع الحياة الشاعر فيها وتنعطف به بعيدا عن الشعر، غير بعيد عن هذا سمعنا عن شعراء عرب قُدامى اشتهروا بأبيات معينة أو بقصائد معدودة قبل أن يختفوا فجأة مثلما ظهروا وتندثر اصواتهم تاركين الساحة للراسخين من الشعراء الذين لم ينقطع عنهم الإلهام ولم تجف قريحتهم أو أن التاريخ سكت عنهم لسبب من الأسباب، ولعل لإجادة الشعر دوراً في الموضوع حيث العرب في تلك الأزمنة لا يتساهلون مع المتطفلين على الشعر ممن يميل كلامهم إلى النظم أو الافتعال الشعري الهش في امة تعد البيان والقول أحد أهم أركان هويتها بل أنَّ كل وجودها يتمحور حول اللغة والفصاحة، سوى أنَّ الحيرة تكتنفنا والعجب يتملكنا لسكوت شاعر مفوه ذو قريحة ناصعة لا تشوبها شائبة وتوقفه عن طرح الشعر سيما وأنهُ نحتَ لنفسه مكانة داخل المشهد الشعري الليبي العام، أقول قولي هذا وأنا غير متأكد من سكوته التام رغم أن الفيس بوك لم يدع شخصاً يقول أو يدعي الشعر إلا وأبرزه في خلطة عشوائية ترتب على المتلقي مسئولية وعبء فرز الغث من الثمين – كما يقال –
عن الشاعر الدرناوي أحمد الشريف أتحدث ولربما بهذا المقال أستطيع أن أُخرجه من عزلته الشعرية إن كانً وسط حلقتها المغلقة، وإن كان خارجها فنحن ننتظر رده بقصائد ينشرها حيثما ينشر جل الشعراء الليبيين على منصة الفيس بوك .
فرغم متابعتي شبه الدقيقة للمشهد قديمه وحديثه وبكل تنوعاته ومساراته وألوانه لم أقرأ لأحمد الشريف شعراً، حتى وإن كان قديماً، وأعتقد أنني وجدته – أي أحمد الشريف – ذات تسكع في أروقة الفيس ذات مرة قبل أن أضيعه وأفقده مع علمي بأنه موجود في ركنٌ ما من أركانه .
أقول هذا الكلام وأنا أستذكر لقائي به سنة 2008 في دورة جيلاني طريبشان للشعر بمدينة الرجبان، حيثُ التحق بوفد الأدباء والكُتاب الحاضرين متأخراً، إذ أتذكر أنُ جاء مساء اليوم الأول في المهرجان في وسيلة نقل عام على نفقته ليلتحق بالركب تقديرا واحتراما لصديقه الراحل جيلاني طريبشان كما أخبرنا وقتها، وبخلاف ما يبدو عليه مظهره الجاد كان ذو شخصية لطيفة ومرحة وحضور خفيف شخصية فيها ما فيها من العفوية والطفولة والرهافة، في ذلك المساء شجرَ بيننا الحديث إلى ساعة متأخرة وإلى حد أنهُ خصًّنا أنا والروائي أبوبكر حامد ولا أتذكر من كان معنا أيضا، إلى حد أنهُ اقترح علينا بقراءته لبعض القصائد التي أحضرها معه للمشاركة بها في فعاليات المهرجان ما يشبه الأمسية الشعرية المصغرة، وكما لو أنه يواجه جمهورا أخذ يتلو علينا قصائده بصوت فيه ما فيه من الشجن والحزن سيما وأن القصائد المقروءة تتناسب وهذا الإيقاع الصوتي حيث تحدث الشاعر عن معاناته اليومية وعن تنازله عن كل شيء مقابل الحصول على علبة حليب لطفله، وتحدثت إحدى القصائد عن مأساة شعب البوسنة والهرسك التي شغلت العالم آنذاك واستحضرت القصيدة أسلوب عيش الناس هناك بكلمات شعرية دافئة ودافقة حتى أنني سألته بعدها هل ذهبت إلى هناك ؟ ولشد ما كان تعجبي واستغرابي حين أجاب بالنفي لان القصيدة التي تفوقت على نفسها تمثلت فعلاً حياة الناس هناك وعكست بساطتها وشاعريتها قبل أ ينعطف بنا الحديث عن سفره إلى دولة أثيوبيا – بحسب ما أعتقد – أو لعله أرانا إحدى صوره هناك لا أتذكر !!
المهم الآن هو أن يطمئننا أحمد الشريف عن وضعه الشعري وهل لا زال على قيد الشعر أم لا ؟ ونحن بالتأكيد في شوق لقراءة بعضا مما جادت به قريحته وانتزعته همته من سطوة الخراب الذي يحيط بنا .
19 / 12 / 2019