بقدر ما تعكس قصص الاديب كامل المقهور (1935- 2002) روح واقعها وتلامس فيه مواضع القلق، نجد أن تلك الاعمال قد شكلت انعطافا في كتابة فن القصة القصيرة، بمقاربتها الانماط السردية الحديثة، من حيث الفكرة والقالب الفني، ابتداء من مجموعته الاولى (14قصة من مدينتي ) سنة 1965 الى (حكايات من المدينة البيضاء) سنة 1997.
صيغ أدب المقهور على وقع محطتين، الاولى بطرابلس حيث المولد والنشأة، الثانية هي القاهرة موطن الدراسة والعلم الذي مثل له رحلة البحث عن الذات، وقد ظلت المدينتان في وعي الكاتب نافذتين في نافذة أو مسارين في مسار، نضجت بينهما نماذجه القصصية واسلوب الكتابة عنها في وصف يدونه كتابه (محطات) الصادر سنة 1995 بقوله: (هدتني الغربة أن استرجع ما قرات، أعيده على نحو يناسبني عزت المدن الى طرابلس وبنغازي والشوارع الى المحلة، استبدلت الاسماء بأخرى أعرفها) ص195.
فكما ساهمت القاهرة في تشكيل ذائقته الابداعية، وتعرف من ذلك على نتاج كتاب كبار كتوفيق الحكيم، طه حسين، الزيات، المنفلوطي، وبعض الاعمال المترجمة من الادب العالمي، حاول اعادة اسقاط كل ذلك تخيليا على بيئته، حيث تتحول ام حسين الى حليمة ويصبح أبو محمود هو الحاج محمد، ويتصور ما يحدث في شوارع القاهرة على أنه يجري في ازقة المدينة القديمة أو (زنقة المحلة)، فالقاهرة بالصورة المتخيلة هي طرابلس .
ان القوالب التي يرسمها المقهور في صوره، حافلة بالسلوكيات والافكار التي يدينها المجتمع، وقد يمارسها في ان واحد، ما يعكس استحكام ظروف معينة تولدت منها انساق ثقافية شكلت روح السلوك العام للفرد، وبالتالي فان شخوص المقهور تظل منشغلة بالهروب من واقعها، لكنها تتشابك معه في النهاية، كمحاولة للبحث عن مخرج .
اضافة الى أن شخوصه متحررة من رقابة الراوي، لها فضولها الخاص في استيعاب كنه العناصر المشكلة لأي حدث، وتتجه للإجابة عن السؤال الظرفي المتعلق بالحالة أي كانت خلفياتها ودوافعها، وبذا فالنهايات جاءت كنتيجة منطقية لطبيعة الشخصية والموقف، ففي مجموعته القصصية (الامس المشنوق) الصادرة سنة 1968، كان مصير عمار في قصة (عمار اللي شدوه) السجن لأنه أراد معرفة السبب الذي قاد الرقابة لمنع بيع الجرائد، وهو ما لا تسمح به سلطة الامر الواقع، ومع أن بيع الصحف هو مصدر رزق منصور صديق عمار، الا أنه شعر في لحظة ما أن مسؤوليته تجاوزت شؤونه الصغرى الى افاق أبعد، وأن ( هناك أمانة ملقاة على عاتقه تجاه الناس، تلك اللحظة أنسته فضول مراقبة ” جوليا ” المرأة الايطالية المقيمة بالحي، فرأسه الصغير بدأ يتسع لأشياء أكبر من قصتها اخر الليل وهي تقفل الشباك خلف زائر غريب ) ص36.
ولربما أمن الدخول في سلك البوليس فرصة لأبو بكر للهروب من غول الفقر، غير أن ذلك وضعه في صراع بين أن يكون مع أهله أو ضدهم، وهو في النهاية ( لا يحب هذا المشروع ولا أصحابه ولا ضباط حمر الوجوه الذين يخنقون أنفاسهم ) ص128، كانت أمامه مرايا محدبة زائفة الابعاد، ولم يكن بحاجة الا الى مرآة ينظر من خلالها لذاته وتنتشله من الضياع، وقد تجسدت أمامه عندما شاهد أهل محلته وأصدقاءه، وشعر(أن عيونهم تلهب بذلته الصفراء وتخترق جسده )ص131، في مظاهرة ضد مشروع (بيفن سفورزا)، وتوجهت عصا ابو بكر في ذروة الاحتدام الى الضابط الانجليزي، كانتصار على سحر المرايا المزيفة، في منعطف مثلت فيه لحظة الوعي، الزمن الحرج لتهشيم تحدبها المراوغ وصولا للرؤية العميقة .
وفي صور أخرى يفرض القهر الاجتماعي طوقه الخانق، بحيث لا يجد أبطاله بدا من الرضوخ له، ففي قصة (الكرة ) تمارس الام البغاء للحصول على المال، وتتجلى المأساة عندما يسألها الابن (شن تخدمي يام ).. فتجيب بحزن (خدمة تجيب الفلوس، ياسر من أيام الهم ) ص155،
أو يصبح حلم البطل في قصة (بوخة) هو الحصول على ورقة للعمل في الميناء، وينتهي يومه بدفن بؤسه في الحانة التي أدمن عالمها، وتبدو الشخوص هنا حتى وهي تستسلم لقدرها تنتظر لشيء ما يلوح في الافق البعيد.
بعد مرور ثلاث عقود تصدر المجموعة القصصية ( حكايات من المدينة البيضاء)، وان ظلت الصور والافكار والبيئة والشخوص منتمية الى ذات العالم،الا أن قدرتها على التمييز أو اتخاد القرار تراجعت لحساب القلق الذي جعلها بعيدة عن فعل المواجهة، وظلت مسكونة بالتذكر، والبطل الذي يتناوب بين الراوي والانا، يكتفي بتوصيف الحالة ولا يتجه الى فهم محيطه .
اضافة الى أن مصير الابطال في (المدينة البيضاء ) الاختفاء أو الموت أو الانتظار الذي لامعنى له، اختفاء رباح، وانتظار مصطفى، وموت الحاج الشريف الذي لم يحتمل صدمة بيع السانية للبلدية .
هذا الاختلاف في سلوك الشخصيات وردود أفعالها بين (الامس المشنوق ) و(حكايات من المدينة البيضاء ) ربما يحيلنا لواقع زمن الكتابة في المجموعتين، والذي مكن لشخوص الامس المشنوق من التساؤل والاستعداد لتحمل الضريبة بينما عجزت في المدينة البيضاء، ولجأت للهروب والاختفاء .
ان الصورة الفنية في نتاج كامل المقهور تتجاوز اللغة السردية وتأتي لاحقة مقابل الفكرة، كما انها تدشن لنثر المدينة بطقوسه وشخوصه ومناخه العام، وما يربط نماذجه هو بساطتها وتقارب مستواها المعيشي (الطالب، المدرس، الجندي، البحار، بائع الخضار، الحائك، وحتى المتسكع، تمارس حياتها بلا تكلف، ولا تقوم بوظائف ليست من طبيعتها وهي واقعية على النحو الذي لا يبحث فيه عن دور خارج حدود تأثيرها .
والسؤال هل لهذه الواقعية ارتداد زمني طبع به أدب تلك المرحلة من خمسينيات القرن الماضي، واصبحت جزء من تكوينها ؟ تقودنا الاجابة الى انه ربما اختارت هذه النماذج طريقها بالاسلوب الذي يمكنها المزج بين اتجاهين، فهي لا تعتمد النفس البرجوازي، وليس مرتمية بالكامل في أحضان ما عرف بالواقعية الاشتراكية،انها واقعية تروم الى كشف المرايا المزيفة وكسر بريقها الخادع في لحظة فارقة .