النقد

حيوانات العريبي

عوالم تجمع بين قوة المنطق وسحر المخيلة

سمير الفيل *

الكتابة عند سعيد العريبي تعني المتعة، ومحاولة فهم ما وراء الأشياء، وإدراك البعد الفلسفي لما خلف ” الحكاية “. إنه كاتب يتوسل بالمجاز كي نتقدم خطوة في فهم الحياة الإنسانية بعوالمها المتداخلة والمتشابكة والصعبة.

 أكثر ما يميز هذا الكاتب الموهوب هو اللعب الفني الحميد الذي يتكيء على الترميز بوعي ورهافة وحسن إدراك مع تشخيص للحكاية يضعها في مصاف الأمثولة بما تفرضه من إعادة التأويل والقدرة على إحداث تعددية لقانون الاحتمال.

 صحيح أن قصص الحيوان تلعب الدور المركزي في المسألة، يكون الهدف منها التسلل برفق ووعي وفهم لعمق التساؤلات المطروحة على واقعنا العربي المأزوم. إنها لعبة فنية تكشف المفارقات، وتعمد إلى ثنائية الأضداد فتقتنص أجمل ما فيها من مغزى، وهي كتابة مسئولة، ربما تكون جارحة بمفاهيم هذا العصر غير أنها تسرب خطابها الفكري بتؤدة وذكاء، مع نمو الحدث الذي قد تأتي نهايته صادمة أو تفتح آفاق الفعل الإنساني لعوالم مترعة بالحكمة والقوة والفاعلية بدون تجهم أو يأس أو عبوس لأن من شروط اللعب الفني انطلاق  الكنايات والاستعارات في فضاء النص كي تثبت مقولة ما بعد تمحيصها وفحصها واعتصار خبرتها بكل شروطها الفنية الممكنة.

السخرية ملمح رئيسي في تجربة العريبي، وهي نوع من السخرية التي تتجه للكشف عن عوامل الخزي والعار والتفسخ في مجتمعات تؤمن بالشكل دون الجوهر، وتهمش الحقيقي لحساب الضحل والسطحي والعابر. هكذا يمكننا بمزيد من القراءة الواعية أن ندخل في نسيج الحكاية حيث يتضافر التصريح بالتلميح في دوائر متعاقبة، متشابكة، لتقوم المخيلة النشطة بالفضح الكلي للمشهد في صيرورته.

يعتمد سعيد العريبي على لغة سهلة، طيعة، حية، لا معاظلة فيها. هي لغة قريبة التناول من الناس العاديين ؛ لهذا نراها تغزو القلب وتنفذ إلى الوجدان لكونها لغة صادقة. هذا النوع من الصدق القريب من ” الحالة الراهنة ” في الوقت الذي يخال البعض تلك القصص نتاج تجربة سبق إبداعها أو هي رهينة تراث سبق تداوله.

 والحقيقة أن ترثنا العربي شديد الغنى بهذه النماذج التي تتوسل بقصص الطيور والحيوانات  كي ترسل خطابا ناصعا للمتلقي لا يقع في شبهة المباشرة، ولعلنا نستعيد ” كليلة ودمنة ” وقصص نجيب الكيلاني وحكايات توفيق الحكيم ولو جنحنا للآداب العالمية لتراءت لنا عوالم تحتشد بتلك الحيوانات كما نجد عند لافونتين وجورج أوريل وغيرهما. هذه واحدة.

الأخرى.. أن تلك المساحة المتخيلة، تمنح للقارئ مساحة زمنية، تتسع لكي يرى الأشيــاء في غير نسقها الواقعي، فيتورط بالتالي في عمليــة التحليل والتفسير والتقييم،

وإعادة الترتيب، وكلها مقدمات ناجحة كي يصبح النص السردي مؤهلا للدخول في نطاق المساءلة والمراجعة وإعادة التأويل.

 سعيد العريبي يعيد الاعتبار للقص الشفاهي، فأغلب تلك النصوص تقوم بعقد أواصر صلة بين عناصر يصعـب وجودهـا في الواقع.. الحيوان يخطط لوثباته، ويتحرك بوعي، ويتكلم فيفصح، ويومئ فنفهم، ويشير لنستبين معنى أو رمزا. منه تنبع الحكمة وتنثال ” الحواديت ” التي تنشط الذاكرة مهما بدت متعبة.

 الحكمة هي الأخرى مشروطة بوعي المتلقي في ربط الأحداث بعضها ببعض مع إحكام العلاقة بين المفصلات الحاكمة. إنها غابة مشاع، وقانونها الذي قد يبدو ظاهريا هو منطق القوة المطلقة والافتراس والبدائية.

 هذا هو الظاهر. لكن الخفي، والمستتر، والعميق هو أن للقوة الباطشة منطقها ومرتكزاتها وآليات عملها فلا توجد عناصر تحت مظلة الكون إلا وتملك الحكمة وتستند للقانون المركزي الحاكم. مفهوم الحكمة في هذه النصوص السردية هي تبيان ما للمنطق من قوة وما للعلاقات من شرعية،وما للغة من لماحية وتأثير،  ونضيف أن منطق ” الحدوتة ” بإيقاعه السحري يشكل إضافة حقيقية لقوة السرد ذاته، ونفاذيته،  ومصداقيته.

يمتلك الكاتب من اللمسات السردية الساحرة الشيء الكثير وتجد الفانتازية حاضرة في قالب حكائي شيق مشحونة ببعد سياسي قادر على إحداث التوتر الفني والارتباك لدى المتلقي وهو أمر مقصود وحميد في حالتنا المستعصية هذه.

كما يعتمد العريبي على الحوار ومنه ينطلق صوب الكتلة السردية ليحملها قلقه الوجودي الذي استشعره من تفحصه للمشاهد البصرية التي تمنحه أوجاعا نفسية وجسدية لا نهاية لها حيث الانفتاح على عوالم تزخر بالشيء ونقيضه في صرة واحدة.

 ولا يمكننا أن نغفل مسألة الترميز في نصوص العريبي فجل إنتاجه يحمل هذه السمة، وهو ينجح فعلا في إن تحمل قصصه تلك الطاقة الترميزية التي تجعل الحكاية واجهة لقضايا ملحة وعاجلة لا ينفع معها المباشرة.

ولعله من المنطقي أن نتحدث عن فكرة الأسطورة في بعض النصوص التي تقدم لنا مهادا تخييليا تنضوي في إهابه تلك النزعة، والأسطورة كما يراها ألكسي لوسيف في كتابه ” فلسفة الأسطورة ”   مؤطرة بمعايير منهجية حيث  ” تجد لنفسها سندا في الوقائع القائمة كحقائق بالذات والأسطورة واقع ليس افتراضيا ؛ إنما واقع حقيقي، وهي ليست وظيفة، إنما نتيجة، مادة، وهي ليست كذلك إمكانية، إنما واقع فعلي، وهي إلى جانب هذا واقع ملموس خلاق، كائن معيش”.

 هذا يردنا لقصص تمتح من الواقع دون أن تتطابق معه تطابقا حرفيا فهنا تلعب الحيوانات على أحبال مشدودة للواقع من غير أن تسقط في وهدته تماما. أنها تومئ، وتشير، وتمرح في فضاء محبب إليها كما أنها تتورط في مشاكل لا حصر لها، نتيجة عدم استيعاب منطق الضرورة، وفي نفس الوقت تعبر عن أزمات متعاقبة بعضها يخص ذواتها وبعضها الآخر يرتبط بمحيطها الحيوي، وبمعنى الحرية المطلق.

ويجدر بي التنبيه إلى مسألة توليد الأضداد في النص السردي حيث استبطان الحكايات الشعبية، ومنها يتم التحويل الحكائي فتبرز الثيمات السردية بمحمولاتها الترميزية، وهي ذاتها التي برع فيها الكاتب حيث يحدث ما اسميه ” التواطؤ الجميل ” بين القاص والمتلقي وفيه يبسط النص حكايته بكل ما تحمله من مفاهيم وقضايا وعلاقات يجد فيها المتلقي شيئا من هواجسه وأحلامه وآلامه وعذاباته الدائمة.

ولعلي أقدم هنا بعض المحددات التي تؤطر تجربة سعيد العريبي في مجموعته التي تحمل عنوان ” مجرد حلم وحكايات أخرى ” :

ـ  تقنية التقاط ” الحدوتة ” واعية وتجري بسلاسة وانسياب واضح، وضمن سياقات جمالية متنوعة.

ـ  تلعب المكيدة وما تشعه من دهاء دورا بارزا في نسيج النصوص، وهناك تراسل بين عوالم البشر وعوالم الحيوانات.

ـ   نلمس طيفا من النهج المسرحي في بعض النصوص فالحكايات قابلة للدخول في حالة تمسرح:  تعمق العلاقات، وتبرز المتناقضات، وتفضح المسكوت عنه.

ـ  الإسقاط السياسي واضح ولكن في إطار لعبة فنية متفق عليها، وقد يحدث أن يتدخل الكاتب لمزيد من التوضيح وهنا يشحب تأثير النص لأن القاريء يمتلك من الذكاء ما يجعله قادرا على الإمساك بالخيط المضيء للسرد دون مساعدة.

ـ  توجد عدد من النصوص لها نهايات مفتوحة، تمنح المتلقي حزمة من الحلول المقترحـة، وهذا الشكل يترك مساحة لخيال القاريء الفطن.

ـ  يعتمد الكاتب على ضمير الغائب ويحقق فيه نجاحا ملحوظا لكنه في نصوص قليلة يتوسل بضمير المخاطب ويحقق فيه نفس التوفيق.

ـ  توجد في بعض النصوص زوائد نصية كما في نهاية قصة ” الذئب” حيث يثبت الكاتب مقولة نصها ” هنا يرقد الضمير “. فيمكن بالطبع ودونما جهد يذكر أن نفهم من السياق ذات المعنى بدون تدخل الكاتب.

ـ  الحدث طازج وحي ومتحرك في قصص المجموعة بالكامل، وهذا معناه أن الكاتب يمتلك المقدرة على النفاذ إلى جوهر الحكي حين يتمكن من القبض على الثيمة المركزية وتطويعها لقالب السرد.

ـ  أحيانا يكون النص أقرب إلى المزحة، ولا أستسيغ هذا الشكل من الكتابة لأنه يفقد تماسك النص وقدرته على تحقيق آليات للترجيع الفكري كما نجد ذلك في قصة غرور،  على سبيل المثال.

ـ روح الأمثولة تليق بهذا النوع من الكتابة، وهي مضفورة بالفعل في نسيج العمل بقدر كبير من الخفاء وحسن الاستبصار. قصة ” دواء الثعالب”.

ـ  يميل الكاتب لأسلوب التضمين ويلجأ لإعادة تقديم نص عبر نص آخر كما يفعل مع قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي وللكاتب الليبي المعروف الصادق النيهوم، وكما يفعل الشيء نفسه حين نلمح طيف ” نسين ” و” الحكيم ديدبا ” و” أيسوب”. الشيء الجدير بالذكر هنا أنه يقدم معالجة جديدة وطريفة لمادة تراثية أوقديمة بشيء من إعمال المخيلة فيقع النص الجديد في منطقة تأويلات عدة حسب ثقافة المتلقي، وقدراته، ومزاجه الفني.

ـ  يراكم الكاتب متوالياته الحكائية فينشأ معها عالم مكتمل مكانه الغابة لكنه يحدث تقاطعا مفهوما مع الواقع بكل تحولاته وتبدياته ومشكلاته المزمنة.

ـ بعض نصوص المجموعة تميل لفكرة التوقيع في نهاية النص وربطها بمتغير سياسي كما في قصة” حكاية الأسد الذي مات واقفا “. أرى أن النص كان من النفاذية بحيث يمكننا أن نلتقط الإشارة بصورة مؤكدة.

ـ  تضمين بعض الحكايات عناوين جانبية للتوضيح وهذه مسألة لا تغني العمل، ولاتفتحه على احتمالات متعددة بل تقمعه مكانيا وزمانيا بما يفقر النص ذاته.

ـ  البعد الشعبي في الحكاية واللغة بل في العناوين واضح وقد يحقق شروط الارتقاء بالنص كما نجد في قصة ” رباية الزايح” مع تطعيم النص بتذييل من الشعر اللهجي  بكل طرافته ومذاقه الحريف.

ـ  رغم أن الأقنعة تلعب دورها بنفس درجة الترميز إلا ان الكاتب قد نجح في صياغة قالب حكايات تمتح من التجربة الإنسانية لتقدم لنا مشكلة إنسان هذا العصر الذي يتمزق بين الواجب والعاطفة من جهة، وبين القوة الباطشة والضمير من جهة أخرى.

ـ  يخرج نص واحد من إطار القص الحديث، وهو النص الأخير ” مناظرة بين حمارين” فهو يقوم بعمل مفاضلة بين كائنين فيما كان يمكن أن يتم ذلك عبر حدث كما فعل الكاتب في بقية نصوص المجموعة.

وفي رأيي أن الخطاب الذي تمنحنا إياه هذه المجموعة القصصية ينهض على عناصر جمالية متشابكة ومتنوعة تحقق تناغم الأجزاء للوصول إلى حالة من التوق المعرفي مع الاستناد لتعددية الحكايات، وقدرتها على التشويق كعتبة أساسية في عالم السرد.

 كلما ابتعد النص عن المباشرة وبسط المشكلة في شكل جدلي كلما تحقق الهدف، واقترب من منطقة الفن الرفيع حيث الخروج من الأطر المتكلسة والضيقة والانطلاق صوب التحرر من المواضعات المغلقة لتحقيق رؤى جديدة لا تعيد استهلاك ما سبق كتابته بل هي تستنطق الحياة بمزيد من الفهم والإدراك وقوة البصيرة.

هي إذن حكايات خبيئة تخفي أكثر مما تعلن، وفيها لا يغازل الكاتب فضول القاريء العادي،  فلا يميل للمتوقع بقدر ما يعيد التراتبية الحكائية فتحدث ارتباكا لذيذا ينشيء الدهشة. وفي رأيي أنه لا يوجد فن جميل بلا دهشة، ولا توجد كتابة أصيلة لا تحقق المتعة، وأغلب نصوص سعيد العريبي تمنحنا هذا النوع من الدهشة الفنية الجميلة والرائقة التي توقظ الوعي وتمنح النفس الصفاء المفقود والمتعة الأخاذة !

دمياط، مصر

 10ديسمبر 2008

ـــــــــــــــ

*  روائي وناقد مصري.

مقالات ذات علاقة

ما الذي يميز رواية “إيشي” لعائشة الأصفر؟

المشرف العام

تهاني دربي توقد شمعتها ”شعر يعربد بك“

المشرف العام

الكوارث لا تكفي.. هود الأماني

حسن أحمد إدريس

اترك تعليق