الكاتب الليبي يرى أن كل عمل أدبي هو سياسي بالضرورة والتواصل بين المثقف والجمهور مُلتبس ومُفخخ في الكثير من الأحيان.
صحيفة العرب – حنان عقيل
رحلة ثرية من الإبداع الأدبي بدأها القاص والروائي الليبي سالم الهنداوي منذ سبعينات القرن الماضي إلى اللحظة الراهنة، كان فيها مسكونا بوطنه رغم ترحاله واغترابه. من مدينته بنغازي وتفاصيلها استمد وعيه الجمالي وبدأ شغفه بالكتابة، فباتت مجموعاته القصصية وأعماله الروائية صورا متعددة تعكس أسئلة وهموما عربية أصيلة. “العرب” التقت الهنداوي في حوار حول مسيرته وانشغالاته الأدبية.
من مُعتكف القصة القصيرة، الذي أسفر عن مجموعات قصصية بارزة كانت أولها مجموعة “الجدران” ثم “الأفواه”، و“علاقة صغيرة”، بدأ سالم الهنداوي رحلته الإبداعية، وهو يرى أن القصة القصيرة رواية قصيرة تعتمد على الومضة والاختزال بالأساس.
يوضح ذلك قائلا، “أعتبر القصة تمرينا وتمهيدا لكتابة الرواية، قد أكتب قصة من سطرين أو من صفحات، وفقا للحالة الإنسانية يأتي الحدث واللغة، لكن القصة عندي تعتمد بالأساس على الدهشة والومضة، ويمكن اعتبار مجموعتي الأولى ‘الجدران‘ التي نُشرت عام 1977 مجموعة صور قلمية أو خواطر أقرب إلى القصة، وأعتز بها لأنها رصيد أول ابن إبداعي لي، والابن البكر هو ابن أصيل في كل الأحوال”.
التجريب الأدبي
كانت مدينة بنغازي الليبية هي المصدر الأول لإلهام الهنداوي وتوجيهه نحو مسار الكتابة الإبداعية، فهي مصدر جمالي ثري بصورها المتعددة وأماكنها الدافئة، فضلا عن أنها شهدت تيارا صحافيا قويا آنذاك، فكانت هناك العديد من الصحف المهمة ومنها صحيفة “الحقيقة” التي كانت تنشر للكثير من الكُتّاب البارزين.
لم تكن الأيدولوجيا هي بوصلة الهنداوي في التوجه نحو الكتابة الأدبية. فقد مارس التجريب في العديد من الأعمال. يقول في هذا الصدد، “لم تكن الرمزية أحد همومي في بداية مشواري الأدبي، كان جمال الإحساس هو الدافع نحو الإبداع، وفي الكتابة وجدت الفرصة الأمثل للتعبير عن المشاعر والأوجاع، بعدما أخفقت في إشباع تلك الحاجة عبر الرسم الذي مارسته في البداية، كانت البدايات مُرتبكة إلى أن تمكنت أكثر من أدواتي وتحقق ذلك بعد مسيرة من الكتابة في السبعينات بدأت بكتابة القصة القصيرة ثم الاتجاه إلى الرواية”.
يؤمن الكاتب الليبي بأن الزمن كفيل بتغيير ما يحدث في ذهن الروائي، فهو لا يكتب في إطار مشروع مُتكامل لأنه غير منتظم في كتابة الرواية وغير مهتم بمسألة التوثيق للأفكار في الكتابات بحيث تكون امتدادا لبعضها، وهو ما يبدو واضحا في اختلاف أجواء كل عمل عن الآخر سواء كان قصة أو رواية. ففي رواية “الطاحونة” تدور الأحداث بين الصحراء والبحر في قرية صغيرة، بينما رواية “خرائط الفحم” تبني عوالم متخيلة في إطار سريالي يبدأ من نشوب حرب عالمية ثالثة، فاللغة فيها مختلفة تماما وتميل إلى الشعرية وكذلك السرد.
يُنوّه الهنداوي بأن روايته “خرائط الفحم”، التي صدرت في طبعة جديدة مع روايتين قصيريتين تحت عنوان “رحلة نوح الأخيرة”، هي بمثابة رحلة الإنسان للخلاص، إذ تمثل رؤية انقلابية ضد نواميس الحياة السائدة ومصائر الجموع في عالم تسوده أيديولوجيات ماكرة أعطبت الفكر الإنساني.
من الأعمال التي صدرت حديثا للكاتب عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، روايته “ليل بيزنطي” والتي تصدر بعد عشرين عاما من كتابتها. يبيّن الهنداوي أسباب التأخر في نشر هذه الرواية قائلا، “أنهيت هذه الرواية في نهاية التسعينات من القرن الماضي، أدليت بعدها بتصريح عن إنجازي لها ولم تصدر حينها، سمع بها صديقي الراحل الأديب المصري إبراهيم أصلان وكان يدير سلسلة نشر للهيئة المصرية للكتاب، وأعجب بها وطلب نشرها في مصر، لكن الأقدار سبقت وانتقل إلى رحمة الله، ونتيجة انشغالي بأعمال أخرى وعدم استقراري في ليبيا بقيت الرواية بصحبتي، وكنت أتحين الفرصة لنشرها إلى أن نشرت أخيرا في العقد الثاني من الألفية الثالثة”.
يرى الكاتب الليبي أن الأديب يمتلك شارة انطلاق الخيال، فلديه كل عوالم السحر الموجودة في العالم لأنه يعيش حالة كونية مختلفة، وهذا ما يدفعه إلى التنويع في الثيمات الأدبية بين الرؤى الكونية والمشاهدات الحيّة شديدة الذاتية. من هنا جاء كتابه ” أصحاب المغيب.. كتابات في الغربة” الذي ضمّ كل مشاهداته وعلاقاته في الغربة والمدن التي زارها، فالمتخيل الشعري والأدبي واللغة تجسدوا في هذا الكتاب الذي يتراوح ما بين المقالة والقصة والمشاهدات، فهو نصوص متعددة تمثل حالة واحدة قوامها الخيال والشعور والاستفادة من لغة الشعر والرؤى الجمالية.
ويلفت الهنداوي إلى أنه لا ينشغل سوى بالكتابة، فإن كان القارئ غير مجتهد فهذه ليست مشكلة الكاتب الذي ينشغل بكتابته بالأساس، ومن ثم فهو ليس مسؤولا سوى عن نفسه. يقول، “أنا مسؤول عما أكتب فأنا أكتب ذاتي ولا يهمني الآخر، يعنيني القارئ فقط في الأمانة الفكرية وقيمة العمل الأدبي الإنسانية، حتى إن مسألة التلقي النقدي لأعمالي لا تشغلني لأن الكتابة الأدبية هي الأساس، فحتى أهم النقاد غير مبدعين”.
يرى الهنداوي أن كل عمل أدبي هو سياسي بالضرورة، فالكتابات التاريخية على سبيل المثال تحمل جزءا من السياسة في رؤيتها لبعض الأحداث التاريخية مثل سنوات حرب أو استعمار، حتى السرد الجمالي المنشغل بعلاقات إنسانية وعاطفية بالأساس يحمل موقفا سياسيا، وبعض الأعمال الرمزية تحمل نقدا واضحا لمنظومات سياسية مثلما نرى في رواية مثل “القرود” للكاتب الليبي الراحل الصادق النيهوم، ففيها إسقاط رمزي على نظام عالمي، وأيضا روايته “الحيوانات” وفيها استخدام لرمزية الحيوانات كما هي موجودة في التراث الأدبي الرمزي.
الرواية والاستلاب
من الإشكاليات التاريخية المستمرة علاقة المثقف بالمجتمع وأفراده، فثمة هوة تزداد اتساعا بين المثقف والجمهور تجعل التواصل بين الطرفين مُلتبسا ومُفخخا في الكثير من الأحيان. ويرى الهنداوي أن الجمهور منشغل بأزمات الحياة، وهي في حقيقة الأمر ليست منعزلة عن الثقافة، لكنها أزمة الوعي المُجتمعي بأصل وجوهر مشكلاته. وفي هذه الظروف يقف المثقف مُقيّدا لأنه لا يملك سوى رأيه الذي لا يصل إلى الشعب بحيث يحدث حراكا واعيا قائما على أسس معرفية. وهذه الأزمة رأيناها متجسدة في الثورات العربية؛ فالمجتمعات التي واجهت السلطة تعرضت للقمع، وكانت معظم الثورات الشعبية مجرد ظاهرة عفوية ناتجة عن عاطفة مندفعة تم استغلالها بشكل كبير، وباتت الشعوب العربية أكثر استلابا وتبعية لدول غربية حققت مصالحها من ثروات المنطقة ثم التبعية الثقافية الكاملة لها.
وبسؤاله عن حال الرواية العربية في ظل ذلك الواقع، يلفت الهنداوي إلى أن ما يميز الرواية العربية أنها رواية مناضلة وامتداد تاريخي للإرث الروائي العالمي في أمريكا اللاتينية والهند، كما أنها بنت السرد العربي في المثل العربي القديم والأدب الحكواتي وديوان العرب. الرواية دائما في صدارة لأنها ناتجة عن تفاصيل العمق المجتمعي في المجتمعات العربية عند العرب، فهي تحتفي بمكانها مع اختلاف الأشكال والأنماط والتجريب، وفي بعض نتاجها تجاوزت حتى التكنيك الروائي الغربي.
ويتابع، “على الصعيد العام نلاحظ انشغال عدد كبير من الروائيين العرب بالرواية التاريخية، التي تميزت بالعطش التاريخي المفقود في المادة التاريخية التي تم تزييفها عن طريق المستشرقين المتوافدين على المنطقة العربية. الشغف بالرواية التاريخية مهم لتصحيح التاريخ، وإن أضفت جماليات أخرى مرتهنة عند الكاتب الذي يستطيع أن يشوق القارئ من حيث التكنيك والسرد بحيث توصل المادة غير مقولبة أو جامدة وفاعلة في الوجدان.
وانتقالا للحديث عن الرواية الليبية تحديدا، يوضح الهنداوي أن النص الروائي الليبي نص حقيقي ومؤثر، ولكن اختلاف المناطق العربية يؤثر على درجة الانتشار، فالمثقف الليبي مظلوم إذ يعاني من غياب الرعاية المؤسساتية أو الاهتمام الإعلامي، فضلا عن أن باب الترجمة ما زال محدودا، وهذا ما يتعين على دور النشر أن تهتم به لأن هناك أسماء مهمة تضاهي أسماء لمعت في العالم.