شعوب الجبوري – العراق
اختتمنا في الحلقة الماضية، عن تأجيل الإجابات عن الأسئلة التالية: كيف يكون هناك تواطؤ في أصل المعنى عن الشيء نفسه، من دون تحرر المتلقي من انتظام مرويات المحتوى، واصل حكائية كل تنويعات فيه؟ وفي حال تحرر المتلقي من السياقات المروية، هل يتمكن من كشفه عن حقيقة الغايات والقلق الملازم له؟ وكيف أن تكون السياقات تمارس ضغوطات عن توليد المعاني، ومن اجلها يكون “المحتوى” معرفة مزيفة، أو، عن بنية الاهداف حين تخفي الحقيقة؟
الإجابة :
إن التواطؤ في أصل المعنى عن الشيء نفسه، تحدث عنه البعض، واصفا إياه بالتراخي هو ليس نقصا مهينا في المحتوى يعيبه، بل سمة من سماته تكاسل همته، فالتهاون، هنا، صفة مشبهة على الثبوت من الفتور والتواني، والتكاسل عن قول كل مافي واجب قوله وتبيانه في المحتوى، قد يواري ويتستر في واقع الأمر طلب يرجئه إلى تصيير كل الدلالات، المقبول منها وغير المقبول. وهذا ما يدفع التدلال بنشاط يتحرك نحو التأويل، لا على أصل يعتمد على قاعدته التوليد الابداعي فقط. وهي صيغة تحيل القول بالبحث عن “بؤرة” أو “مرتكز” الدلالات ليس في الابداع، بل يشيد لحظة التأويل من خلال إعداد الاستفهام ذاته، ذلك أن الأبداع ليس “ذاكرة” لمضمون ثابت، بل فاعلية مخبؤة تحتاج إلى إرادة.
وعليه، فإن الإبداع ليس مجرد وسيلة إجرائية غرضه إثبات مصداقية على تأويل ما، إنما هو مبحث فاطن يعتمد التأويل ببنائه على أسسه مدركة إليه، ضمن دورة حياة دائرية تقود إلى التحقق على هذا التأويل من خلال ما تستكمل صياغته الاستراتيجية، وفق عملية مراحل تنظيمية بمثابته نتيجة لهذه الحيوية الناشطة. ويجد القول هنا، بأن عملية المراحل الاستراتيجية وتقييمها، تراقب وتتابع المؤثرات وتغيرات المحتوى اثناء الحركة والانتقال عبر الزمان والمكان، مما يصعب احيانا، على ما هو دائم صالح ثابتا أو متغيرا في كل دورة قائمة للاختبار. ما يعني، أن المؤول الابداعي لا يبحث عن المعنى في ذاته، إنما يعيد بناء أهداف جديدة يواريها ظاهر المحتوى، كي يتمم صياغة حقة لفائض حقق المعنى من قيمة حقيقية صادقة.
وبعبارة أخرى، أننا نستطلع الأشياء ضمن معان قبلية، فلا نجلب من هناك إلا التصورات الساكنة، يعني ذلك أن كل الانتظامات/ السياقات كانت تتوالد بتفاصيل محتوى التصورات ذاتها، أو، هي قوام الترابط بين مفاصل التصور وكليته، من الجزء إلى الكل والعكس، علاقة تناوب مستمرة، وهي الحركة الفاعلة لإنتاج المعنى، ضمن تصور ما للكل من تأثير عناصره من فرص وتحديات، وما للجزء من عناصر قوة وضعف، وفق حركة فاعلة لسياقات منتجة، تستدعي إعادة أبنية ما للجزء من مهارات متقدمة مساعدة، عمادها الاساس المعارف التاريخية للمراكز الاستراتيجية، التي قابلة الاشتراط للتأويل كـ”بؤرة” المعرفة التاريخية، لتعيين مراكز وحداثتها في إعادة البناء المعرفي، أي استحضار الاهداف التواصلية التي تمكنها من اختراق موطئا جديدا نحو معنى كان مبهما أو منفلتا، والتقاعس هدد ضياعه فرصة الظهور لقوته حينذاك، ما يجعل الغموض يكتنفه لمجرد محاولة استحضاره كعنصر مبهم المعنى، ملقى من معناه القديم والقبلية الثقافية في تعاطيه لإقتداره الجديد. إننا هنا، لا نبحث عن منظومة معرفية لزمن مضى وأنتهى لعدم٫ وإنما نستدعي الفهم إليه لما تتضمنة عملية الابداع الاستراتيجي من نتائج راهنية قيمها، لمخرجات معان جديدة، يتلقى فيها الابداع حيوية نظرته المستقبلية من تفعيلها.
إن الابداع، على هذا القاعدة، يتضمن سلسلة من مراحل عمليات استراتيجية، لمتابعة خطط مسبقة، وهي التي يستند إليها صانع القرار المبدع والمتلقي من أجل تقديم سيناريوها لسياسات قابلة لمعان مستقلة داخل وحدات منظومة المعرفة الدلالية، أي حاملة التقبل للمعاينة المتخصصة المستقلة، لها تربتها الثقافية الجديدة؛ بعض منها عن توصياته وأخر عن ذات متلقيه. لم يعد هناك رابط مستقل لموضوع خارج محدداته إن لم يكن منضبطا بأهدافه، وإنما الأمر متعلقا بأبعاد تلك الاهداف التي تسعى لبناءه من خلال الابداع التي تشير معانيه بعلاقة ارتباط تحققه نحو خارجها، أي تبني على وجود عوامل مؤثرة تدفع انسجام وظيفتها حيوية نحو موضوع يدعوها من خارجها، ولابد هنا من الأشاعرة عن تحديد مضمونها، بمعنى أي انفتاح على الأخر من خلال تصورات، لابد من مراجعة البيانات القبلية (= منحنى الميل التاريخي لخبراته)، تقرأ، لمعرفة وحداته مهارات عوالمه البنائية، فهذه الأهداف هي مكونات منظومات قدرة دافعية صناعة القرار نحو التقدم عن معرفة كوامن طاقاتها الفاعلة، الهادئة، التي أمضت تشيد مع الخطاب الاستراتيجي ورسائل ضمنية مآلاته. إذن أننا نبحث عن المعنى في الابداع، مكونا متقدما، كما هو ـالمعنى ـ لا نستخرجه من الخطاب حتى يتشكل بحثنا في عناصرنا الداخلية لغرض تثبيت ابداعاتنا الضامنة عنه، نحو الخارج، كي يستلهم إعادة إنتاجه إلينا متجددا من جديد.
بعبارة أخرى، لا يمكن الاعتماد على خطاب لمنظومة معرفية عن وحدات منفلتة من أهدافها، وإن تشاء بداهتها إنها تلقائية مسؤولية “حدود الأهداف” أو رسالتها الاستراتيجية ذاتها متحررة من قيود الخطط، وهذا اغفال وتكاسل تركها سائبة. إن الآمر، هنا، محدد بمخرجات “قيمية” للإبداع، محددة ضمن “المعنى” المتحرر المشروط. ومع ذلك لا يمكن لأي شيء ابداعي أن يستقيم إلا ومحددات أطره يساوقه الانضباط والوضوح في التنفيذ. لأن أي خطاب قادم من الخارج مؤثر في صناعة القرار حين يحيين للتنفيذ في الداخل، بل يؤثر في تفاعل طاقة إنتاج وحدات منظومة المعرفة الدلالية، مراكز وحدات الإنتاج النوعي المعرفي، وقواعد محددات التصميم المعماري في تحرره الجمالي، ومنها ما ينعكس عنها توليد الأحكام الاجتماعية في إنتاج المعنى، وما يرتبط بآلية عضويته إرادة السعي “سرديات” وفقا لسيناريوهات تعد تماثلها بدائل للتوقعات المحتملة الحدوث ضمن تحيين مؤكد المعارف ومتنوع الاختيارات، وايضا ما تظهره مراحل فرعيات العمل في التنفيذ من تقاعس وهمة.
يتعلق الأمر هنا، دقة الانضباط في المتابعة والتوجيهات لوحدات إدارة المشروعات المعرفية الثقافية، توجيهات ثقافة “إدارة الخبرة” المشتركة التي توكل إليها إدارة الابداع، أهلية انتقال النص نحو المعنى، من أجل مراقبة تطبيق المعايير، وبناء وحدات مساعدة متحركة الفهم عن عالمه، يعتمدها المتلقي “الفعال” في فهمه. وهذا يعني أن انتظامات المعرفة الابداعية، تتجاوز النص نحو معطى خارجي، تزيح سياقات المحتوى “الرؤى” دون الاعتراف بجاهزية معطاها في تحليل الواقع، أو الجدية في تبنيها له، لأنها وإن بنيت على قواعد تأويلية، إلا أنها خارجة عن مبدأ توليد دلالاته، وإن تتالت مناوئة، فالمعنى له واقع بناء وعمليات عمرانية في الابداع، والعمليات الابداعية شرطية، تنبه الخطاب عندما يتكاسل أو يتمنع عن تطبيق المعايير التوجيهية والثقافية المشتركة، بمعنى الابداع لا يكون حاملا منتجا لمعنى، إلا ويعبر عن ذاته بالاهمية المباشرة لذواتنا والمتلقي إليه.
وذلك ما يؤكده فعل الاستراتيجة ذاتها بتعاملها مع السيناريو إليها. هناك في التفكير الاستراتيجي الابداعي تسوده “الرغبة” في تبني السيناريوهات نحو المتلقي، تؤجج ما عنده، كي تدفع سعيه بتنامي وإثمار الدلالية داخله إلى حدودها القصوى، بمعنى تشبع لديه مدلولات تخيلية، قلقة، تفرز تأرجحها مكائد ساعية تحيلها التمسك بالرؤى على نهاية لا يمكن ازاحتها إلا إلى اللا شيء بعده، وبالمقابل هناك رغبة تدعو إليه التشبع بالطمآنية على مدلولات “حاسمة” ونهائية، عبر سلسلة حلقات متصلة، تتمرحل بدايتها فنهاياتها وتتقدم، لا تنقطع، تمنح طاقة متناوبة، تعد فرص الاستعداد والتهيؤ والعمل، إلى ما فاض من قيمة تأويلية أو أوحت بها. أن المتلقي لفعل الاستراتيجية في تأبط ما يتلاقاه، بشكل مباشر أو غير مباشر، يلتقط الأنفاس والنظر إلى ما خلفه الفعل من تأويل، قد يساويه بالكتلة أو يعاكسه او لا يعاكسه بالاتجاه، حين يتقصي عليها من خلال ما يلحظ. إن شئتم. لأن الاهداف من خلال تبني الموضوعات لها تدافع “رغبوية” غير ملموسة ماديا، تدفع “الرؤى” احتضانها مشحونة تندفع بانفعالية تألف معنى، لذلك لدى البعض ما يرى فيها أهداف محددة صفة للموضوع بكونها مركزه، منتقاة باختيارات لها من الوافر النصيب، أحق لها فيها عن غيرها.
لكن هل تنامي وتطور تدليل المعنى في الاشياء الحية مطلقة الفرضيات، أم لها من الابداع تأويل في وجود حدود تنتهي؟
هذا ما سنتطرق إليه لاحقا.