تراث

وين الغالي يا دار..!!

عندما كنا طلابا بالقسم الداخلي في النصف الثاني من العقد السابع من القرن الفائت.. كانت لا تحلو المذاكرة إلا على أنغام أشرطة (بوعبعاب).. (تعال خبر يا بوعبعاب.. أنت صادق مانك كذاب)، ولعل تسمية “أبو بكر عبد العزيز” بـ(أبي عبعاب) جاءت من هذه الأغنية التي أشتهر بها، فيما تعني كلمة (بوعبعاب) في التعبير الشعبي طائر الهدهد.. الذي عادة ما يأتي بالأخبار الطيبة كما ورد بقصة سيدنا سليمان ..

الفنان الشعبي بوعبعاب
الفنان الشعبي بوعبعاب

كنا نجد في البحث عن حكايات (بوعبعاب) المثيرة وقدرته على العزف بآلة وترية تكاد تكون غير معروفة لدى الفرق الموسيقية الكبيرة، صحبة فرقة تتكون من عازف كمان يتيم، وضابط إيقاع ومجموعة صوتية يتضح أنها مكونة من كبار السن.. كانت هذه الأخبار تتسلل إلينا من الصحراء التي تقع خلف تلال بلدة مساعد الحدودية الشرقية.

ربما كان بروز (بوعبعاب) كمطرب لحفلات خاصة جدا حصد شعبية كبيرة في القطرين الليبي والمصري ما بعد وفاة نجوم الغناء العربي (أم كلثوم، وعبد الحليم، وفريد الأطرش، وغيرهم).. و هو ما منحه هذه الشهرة والتألق الشعبي.. وإن كانت بعض أغانيه تخرج عن الذوق العام في بعض الأحيان.. وخاصة تلك التعليقات الجانبية التي يمررها بين الحين والآخر أثناء تأدية وصلاته في سهرات شعبية كما لو أنها نكات تثير نوبة من الضحك المريب المخلوط بنكهة الحشيش خلف عزف آلته الوترية المميزة وهي السمسمية بأشعار صاغ أغلب كلماتها الشاعر “حامد عبد المنعم مرسي” الذي كثيرا ما يذكره (بوعبعاب) خلال هيامه مع الألحان والتي تميل إلى اللون الشعبي في عمومها ..

لعل ما جعل الفنان الشعبي (بوعبعاب) مقبولا لدى عامة المتذوقين للفن الشعبي.. هو تفرده بموهبة تمثلت في حنجرته الدفاقة ولهجته القريبة بشكل كبير من لهجتنا في الجزء الشرقي من ليبيا، وعزفه على السمسمية ببراعة رغم فقدانه لنعمة البصر، وما قرب الذائقة الفنية بين الشعبين الشقيقين في ليبيا بصورة عامة وصحراء مطروح بصفة خاصة.. هو ملامسته لتفاصيل دقيقة تخص المجتمعين الليبي والمصري، و استعانته بأغاني المطرب الشعبي الليبي “عبدالجليل عبدالقادر” المشهور باسم “عبدالجليل الهتش”.. والذي يبدو أنه أعجب به كثيرا لدرجة أنه شدا بأغانيه وألحانه خاصة وأن شهرة “الهتش” تكمن في أدائه للمواويل بتفوق منقطع النظير، كذلك أغاني “شادي الجبل”، كما ترنم بشعر ليبي خالص لشعراء كبار ..

أثناء تأدية الامتحانات النهائية كان أحد أصدقائي يجلس على مقعد بالقرب مني وعندما عجز عن إجابة سؤال تململ في مقعده محاولا كسب ود وشفقة الملاحظين، وأرسل نظرة يأس إلى الدكتور المشرف وقال:

– أخرب بيت بوعبعاب .. هو من جعلنا نهمل مذاكرتنا حتى وصلنا إلى هذا المأزق الذي لا نحسد عليه.

نظر إليه الدكتور.. وبابتسامة صفراء قال له ساخراً:

– وين الغالي يا دار .. وين هو كاحل لنظار ..

ضج المدرج بضحك الطلاب الذين اكتشفوا أن الدكتور كان من متتبعي (بوعبعاب)، وبدرجة إدمان.

مقالات ذات علاقة

صفي النية

سعاد الجروشي

كل عام وأنت بخير

ميلاد عمر المزوغي

«قول الفجي».. خرافة ليبية تتحدى النميمة

أسماء بن سعيد

اترك تعليق