عبد الونيس محمود الحاسي
الزول والعسكر:
هل هي مصادفة أم مفارقة، أن من يصدر حكم الإعدام على المبروك الزول هو رجل عسكري.. ؟!.. فقد كان الزول إنطلاقا من توجهه الفكري، وميوله اليسارية، يكره العسكريين أو (العسكر) كما كان يسميهم.. وكان لا يخفي ذلك الكره، ولا يأبه لإعلانه أمام الجميع.. وكان يعتبر انقلاباتهم العسكرية وباءا ينتشر في المجتمعات المتخلفة.. كان يعلن ذلك أمامي صراحة ـ وأنا رجل عسكري ـ وبغيرما حرج، بحكم الصداقة وصلة القرابة.. بل إنه كان يقول ذلك أمام شقيقه الأكبر (سالم) وهو رجل عسكري أيضا.. وغالبا ما تكون كلمة العسكر عنده مصحوبة بكلمة (الفاشيين)، أو مرادفة للفاشيّة.. وعندما قلت له مرة، بأن الفاشية ولدت من صلب حزب مدني، ثم نمت وترعرعت بين احضانه، قبل انتقالها للعسكريين.. فاعترض بشدة، وعاد إلى تواريخ قديمة من هانيبال إلى نابليون مرورا بجنكيز خان وهولاكو، كأمثلة على قدم الفاشية العسكرية في التاريخ.. ؟!
وكان يتحين الفرص للتعليق على جهلهم وعنجهيتهم، أو السخرية منهم.. أتذكر مرة، أننا كنا نشاهد خلالها شريطا وثائقيا في التلفزيون عن المجاعات في أفريقيا.. فشاهدت طفلا يشبه عود الثقاب المحترق، فقلت له: (شوف يا مبروك هضاك اللي اتقول عود وقيد منحرق..)، فرد عليّ مازحا: (هابا عليه هضا عندك، يوم ما يركب عسكري اتشوفه كيف ايدير البطيط في عباد الله).
ولهذا فقد كان يعتقد، بأن الحل يكمن في إلغاء الجيوش النظامية كافة.. بل يجب في نظره اجتثاتها من المجتمعات البشرية المتحضرة. وحين سألته مرة: (ومن سيدافع عن الوطن يا مبروك، إذا ما هوجم وتعرض لاعتداء أو غزو خارجي.. ؟!).. فرد بسرعة الواثق من إجابته قائلا: (الشعب هو الذي سيدافع.. وانطلق يستشهد ويسرد الأمثلة: الشعب الليبي ضد الغوز الإيطالي، والشعب الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي، والشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الصهيوني، والشعب الفييتنامي ضد العدوان الأمريكي، بل ومقاومات الشعوب الأوربية بعد انهيار جيوشها النظامية أمام الإجتياح النازي، إبان الحرب العالمية الثانية.. الخ). ولم اشأ حينها أن أدخل معه في جدال يطول وليس له من نهاية.
أما الآن، وبعد ثورة 17 فبراير العظيمة، فإنني أضيف نيابة عنه واقول: والشعب الليبي مرة أخرى، ضد الاحتلال الداخلي وجحافل الطاغية وجبروته..!؟
وعن العسكر وجحافل الطاغية، وجيشه وكتائبه التي كان يحكم ويتحكم بها ومن خلالها في مصير البلاد والعباد.. نسج الزول قصيدته الرائعة: (عسكر أوداروا دولة) التي يفضح فيها حقيقة إنقلاب سبتمبر العسكري وجوهره.. وفساد دولته.. وحكمه الذي أقامه بالقمع على أنقاض الحرية والعدل وحقوق الإنسان وكرامته.. واختزل الشعب والوطن كله، في شخص فرد واحد ديكتاتور، أو حاكم عسكري بمفرده أو بطوله على حد تعبير الزول.. !؟
يقول المبروك الزول في بداية قصيدته:
(شفته عذاباً مرّ مشين هوله من يومن لفوا عسكــر أوداروا دولة
دار حكومــــــــــــــــــــــــة والتاج طيّحوه وبدلـــوه أبّـومـــــــــة
وابقي عسكري.. حاكم عليك ابطوله
حصّل دالــــــــــــــــــــــــه وما عــاد رينـــــا يوم بـاب عدالــــة
إلى أن يقول:
او يانا اللي للعدل قلبي ضامي الحق والعدالة هن احدود مرامــــي
اليوم غـيّبن عالوطن وايش السّولـة)
الزول والجبل الأخضر:
كان مهد طفولته وملعب صباه ـ كما اسلفنا ـ وسط شجيرات البطوم الكثة والخضراء على الدوام.. بعناقيد ثمارها الفاحم السواد.. تماما مثل ثمار الزيتون.. رمز الخير والحب والسلام.. فعشق الغابة منذ نعومة أظفاره.. ومن خلالها أحب الجبل الأخضر الذي أراد في وقت من الأوقات، أن يساهم في الحفاظ على ثروته الخضراء، فانضمّ ـ كما ذكرنا آنفا ـ إلى هيئة حراسة الغابات.. وظل الجبل الأخضر في سويداء القلب عنده على الدوام.. !؟
كان لا يفتأ يردد من حين إلى آخر:
(ما كيف الجبل كيف لولا اخباث الســـهــاري
فيه الظل في الصيف وفيه الذرى في البداري)
وما من مرة لمح فيها طائرا عابرا في سماء سجن الحصان الأسود.. وخاصة إذا كان متجها نحو الشرق.. إلا وهتف من أعماقه، وقد عصف به الحنين:
(يا طيرا ماشي الجبلنا… قول الهلنا… رانا في المقرون ذبلنا)
وهي عبارة أو أهزوجة قديمة متواترة منذ أيام الإحتلال الإيطالي، من أحد المعتقلين من الجبل الأخضر، كان معتقلا في (معتقل المقرون) غرب مدينة بنغازي.. حين شاهد طائرا متجها نحو الشرق، فافترض من عنده أنه ذاهب إلى الجبل الأخضر، فبعث معه تلك الرسالة التي يصف فيها حاله وحنينه وشوقه إلى أهله ومحبيه في أحضان الجبل الأخضر.. فما أشبه الليلة بالبارحة.. !؟
وشاهده رفاقه مرة، وهو ينصت باهتمام شديد إلى راديو كان مع الجنود في نقطة الحراسة العليا القريبة من سطح زنزانتهم.. بل كان يرهف السمع في خشوع وتبتل، إلى فيروز وهي تغني بصوت ملائكي حزين ودامع:
(يا جبل ياللي بعيد… خلفك حبايبنا.. ؟!)
ثم ما لبثوا أن شاهدوه، وهو يتصامد ويغالب الدموع على نحو بالغ الشدة والتأثر.. !؟.
قصائد أو نماذج من شعره:
بدأ المبروك الزول يقرض الشعر الفصيح المقفى أو العمودي وهو لا يزال طالبا بمدرسة سوسة الثانوية.. وكان يلقيه في احتفالات المدرسة في المناسبات الوطنية، كعيد الاستقلال وعيد الدستور، وكان شعره يتمحور كله أو في مجمله حول الانسان وحب الوطن.. ولكنه فيما بعد، ونظرا لميوله اليسارية، هجر الشعر الفصيح تماما.. حين تحول كلية إلى الشعر الشعبي، باعتباره لغة الشعب الحقيقية، التي يتكلمها المواطن البسيط العادي يوميا في الشارع والمزرعة والمرعى، وحتى في المدرسة كذلك.. وهو المعبر بصدق عن آمال وآلام الملايين المسحوقة تحت وطأة الخوف والاستبداد والاستغلال.. وذلك بعد تحوله الفكري كلية إلى التوجه اليساري الذي ينحاز ويصطف إلى جانب الجماهير المطحونة بالقمع.
عموما.. لست ناقدا أدبيا.. وكل ما يمكنني قوله الآن.. بل وتأكيده أيضا، هو أن شعر المبروك الزول، ينبثق من تربة الوطن الحقيقية، كإحدى حبات بذار (نجيب سرور) الوفية لأرضها.. حين تتحول إلى سنبلة معطاءة.. لا تلبث أن يشتد عودها، وتتعانق مع ملايين سنابل (محمود درويش) بعد أن تجف في تربة الوطن:
(وحبوب سنبلة تجف ستملأ الوادي سنابل)
بل آلاف الوديان والشوارع.. رأيناها تتدفق بشبابنا الليبي الباسل خلال الثورة، وهم يدكون معاقل الظلم والطغيان.. ويتلقون الرصاص بصدورهم العارية.. أعني أن شعر الزول، ينبثق من أرض الوطن.. ثم يعود ليفنى في أرض الوطن.
كما أنني هنا لا أدعي الإلمام الكامل بشعر الزول.. ولا حتى الإحاطة بنصيب منه وافر.. وما هذه إلا شذرات ونماذج من قصائده وشعره.. استشهد بها في هذه النبذة عن سيرة حياته النضالية والشعرية. ولعل الشيء الغريب الذي لفت نظري، هو أنني لم أجد أو لم أعثر للزول حتى الآن، على أي شعر أو قصائد أو حتى أبيات في الغزل أو النسيب، كما يفعل جميع الشعراء.
وعلى أية حال، للزول قصائد كثيرة.. لعل من أشهرها القصائد التالية:
1ـ قصيدة : (عسكر اوداروا دولة)
2ـ ” : (الممرضة)
3ـ ” : (العيد)
4ـ ” : (ياعون من جاه النبا من شرقا) وهي القصيدة التي يتنبأ فيها بالثورة.
5ـ ” : (اللي ايطيح مو مالسرية)
6ـ ” : (سيدك اعمر يا ما لهد باحصانه)
7ـ ” : (امرايف على قرية في برقة)
8ـ ” : (الصبر)
9ـ ” : (ياكراع يا هولك اللي جاريلك)
10ـ ” : (يابو سعد بورة اسنين طويلة)
ـ قصيدة (يا عون من جاه النبا من شرقه):
لعل القصيدة التي تتجلى فيها نبوءة الزول بتفجر الثورة في ليبيا، ضد نظام الطاغية القذافي الاستبدادي.. واحتمال اندلاع شرارتها في شرق ليبيا (برقة) لتعم بعد ذلك وتنتشر كالنار في الهشيم في جميع انحاء ليبيا.. وهي قصيدة:
(ياعون من جاه النبا من شرقه *** وقالوا على المنعول ناضت برقه)
وقد قال الزول هذه القصيدة وهو في سجن الحصان الأسود بطرابلس عام 1977، بعد أن بلغتهم وهم داخل السجن، الأنباء المفجعة والمحزنة، للإعدامات يوم 7 أبريل عام 1977، التي تحدثنا عنها آنفا بمدينة بنغازي.
وهذه القصيدة على روعتها ـ إن شئنا الدقة ـ هي أمنية أكثر منها نبوءة، لأن عبارة (ياعون) في لهجتنا الليبية الدارجة، يقولها المرء عندما يتمنى أي شيء.. وهذا في الواقع هو مضمون القصيدة.. وقد حقق الله أمنيته بالثورة، على النحو الذي وصفه في قصيدته، ولكن بعد رحيله.. إن جاز لنا القول بأن الأمنية يمكن أن تتحقق حتى بعد الموت.
ولعل هذا يذكرنا بأمنية شاعر ليبي وطني آخر كبير، هو أحمد رفيق المهدوي، عندما نفاه الاحتلال الإيطالي إلى تركيا.. فقال قصيدته الشهيرة:
(تبقى على خير يا وطنـّا بالسلامة *** ورانا نداما *** يا عون من فيك كمّل ايامه). ولقد حقق الله أمنيته بالفعل، بزوال الاستعمار الإيطالي، واستقلال ليبيا.. وعودته إلى أرض الوطن حرا مرفوع الرأس.. ليعيش فيه معززا مكرما.. وليكمل فيه أيامه سعيدا كما تمنى، إلى يوم رحيله…؟!.
يقول الزول في هذه القصيدة، بعد المطلع الذي ذكرناه:
(يا عون من جــــاه النبا بالنوضه *** نوضة الوطن اللي شبيـه الروضــة
ياعون من جاه النبـــــا من غـادي *** ويصير يوم في المنعول يوم عنادي
نهار غيظ من يومه نهار اطرادي *** نين يوهق اللي خايف وييبس عرقـه
يا عــون من جــاه النبـــا ميـــّازي *** يـــوروا انـجوم القــــايلة للنـــــازي
ومنعول بيّه في صــغاه ايعـــــازي *** ميّــت بصـــــفره كبــــدته منحـرقه)
أجل.. (ميت بصفره كبدته منحرقة).. ألم يكن هذا هو منظر الطاغية القذافي بالفعل، في لحظات حياته الأخيرة.. رسمه الزول بالكلمات، ومنذ أكثر من ثلاثين عاما.. قبل أن نشاهده نحن في الفضائيات وأفلام اليو تيوب يوم 20 أكتوبر 2011.. وهو يتوسل الثوار ويطلب منهم الرحمة التي لم يعرفها في حياته.. ولم يمارسها مع ابناء شعبه، طوال أكثر من أربعة عقود من الزمن.. ؟!.
يتبع/ الحلقة الثالثة
أثينا: في 23 يونيو 2012