وأنا في نشوة الفرح بقرب صدور ديوانين شعريين لي بينما أنا على أعتاب الستين ، أشعر أني الآن ، والآن بلا مبالغة ، ذلك الطفل المتردد الذي سيق إلى المدرسة تدفعه يد أبٍ مُصِرٍ على أن يتعلم أبناءه بأي شكل وبأي ثمن ، ربما تعويضاً عن حرمانه من نعمة التعليم ، لقد كان شخصية فذة ، ذكيّاً ومقداماً وصادقاً وكريماً ، يملك كل صفات الزعامة ولا ينقصه سوى القلم كما كان يقول رحمه الله ..
يد غليظة تدفعني صوب هذا المكان المغلق وقد جئته من استرسال الحقول صوب المدى ومعانقة الجبال لرؤوس الغيوم واحتضان الأودية للشتاءات الباردة ، يد غليظة انتزعتني من حضن أمي الدافئ ، أقول الدافئ ليس كحضن أي أم ، حضن أم توالى الثكل على قلبها مرات عديدة فكانت تتشبث بي بوله يشبه العنف ! وها هي تدفعني إلى يدٍ أخرى غليظة تنهال على مؤخرة الرقبة عند أول هفوة !
وحده معلمي في الصف الأول كان مختلفا ، حتى شكله كان مختلفا ، كان أسمر ، سمرته خفيفة تميل لأن تكون نحاسية ، بعينين خضراوين يمتلئان وداً وجاذبية ، يمتلك صوتاً هادئا ينشر الثقة والسلام والأمان في القلوب المرتعشة ، وضع يده الوحيدة على ظهري فجفلت ، كنت أظنّها صفعة ! لكنها كانت طبطبة !
لا تخف همس في أذني وقد استشعر حالة الرعب التي أعيشها ، سندني بيدٍ وحيدة حانية حتى أجلسني مستقيما على الدرج الخشبي ، عدّل وضع القلم المائل في يدي المرتجفة ، هدّأ من روعي بابتسامة يملأها الحنان وقلَّلَ من صعوبة الكتابة ، اكتب كما تشاء ، فقط اكتب ، فقط اجعل القلم صديقك ، دعه يتعوّد على يدك ، عامله بلطف وحين تنتهي من الكتابة لا تضعه في حقيبتك ، ضعه في جيبك ، دعه قريبا من القلب !
ارتخت أطرافي المشدودة رويداً رويداً ، استطعت أن أرفع رأسي وأحدّق في بقية الطلاب المنهمكين في التعلّم واللعب ، هدأت أنفاسي المتلاحقة ، استطعت لأول مرة منذ خروجي من حضن أمي أن آخذ نفساً عميقا ، وأن أخرجه ببطء وهدوء …
ومن ذلك اليوم والقلم قريب من قلبي ، يرتّب أفكاري الشاردة ، ويسرد لي سِفر حكاياتي ، ويخرج صهير النفس القلقة إلى حيّز اللغة ..
فسلام عليك يا معلمي : “عبدالله حمد صالح”، غفر الله لك وأسكنك فسيح جناته ، وأثابك عني خير الثواب وأمنّك كما أمّنتني حينما كانت رهبة البدايات ترعبني …