طيوب عربية

المناضل.. من عصر المنظومة إلى عصر الشبكة

نزوى

ثقافــة مختلفــة: من نموذج المناضل إلى نموذج الناشط .. من عصر المنظومة إلى عصر الشبكة

بعد الحدث الذي ينبجس بصورة مفاجئة وغير متوقعة، لا شيء يعود كما كان عليه أو يرجع إلى سابق عهده، إلا على النحو الأسوأ والأخطر. واذا كانت الثورات العربية الراهنة هي أحداث كبرى تترك آثارها العميقة والجسيمة في مصالح البشر ومصائر المجتمعات، فإنها تشكّل فاتحةً لعصر جديد تجترح معه إمكانات للوجود والحياة، بقدر ما تنشأ قوى جديدة على المسرح تخلق وقائع تغير خارطة المشهد، وتنبني مساحات جديدة للتفكير والتعبير، بقدر ما تتشكل ثقافة مختلفة بمفرداتها وتراكيبها، بمنطقها وشبكاتها الدلالية، بمنتجيها والفاعلين في حقولها وعلى ساحاتها.

من أعمال التشكيلي محمد حجي.
مثقف من أعمال التشكيلي محمد حجي.

الحدود القصوى

ولنتوقف بدايةً عند واقعة صارخة بدلالاتها: لا أحد توقع ما حدث من انتفاضات عفوية أو ثورات شعبية، بمن في ذلك كتاب ومثقفون ذوو ميول ثورية واتجاهات يسارية معارضة اعترفوا بأن سقوط النظام في تونس، ثم في مصر، لم يكن ممكناً تخيّله حتى في الحلم.
وهكذا فإن الثورات الجارية لم يصنعها المثقفون والكتّاب الذين يسعون إلى تصدّر قيادتها. هذا ما شهد به الروائي المصري علاء الأسواني، وهو من أكثر المتحمسين للثورة والمنشغلين بها والحريصين على نجاحها. يقول الاسواني في حوار أجرته معه جريدة «لوموند» (الجمعة 30 أيلول 2011): بعد أن شاركت في احدى التظاهرات التي فرّقها البوليس بقنابل الغاز، يوم 26 يناير، قلت لمجموعة من الشباب، يكفي ما فعلناه اليوم، غداً نعود للتظاهر. ولكنهم رفضوا، وقد بكى أحدهم مصرّاً على البقاء في الميدان. عندها فهمت ما يحدث. ولذا بقيت معهم في ميدان التحرير طوال ثلاثة أسابيع..
والمغزى من هذه الحكاية أن من فجّر الثورة وصنع الحدث، هم شباب وشابات حَدَث تحوّل كبير، في وعيهم وفكرهم، جعلهم يؤثرون البقاء في الميدان والمجازفة بحياتهم، على البقاء في ظلّ أنظمة الاستبداد والفساد.
تلك كانت البداية والمحرك الأصلي، بعد أن بلغت الأوضاع حدودها القصوى من حيث الهشاشة والتآكل والتردّي، لكي تنقلب إلى ضدّها. فالنفوس كانت تغلي من فرط الغضب والسخط، ولذا فالجموع من عموم الناس كانت تحتاج إلى شرارة لكي تكسر حاجز الصمت والخوف، وتخرج هادرة إلى الشوارع لتقلب موازين القوة وتغيّر قواعد اللعبة.
لنعترف بذلك: نحن إزاء ثورات جديدة صنعها فاعلون أتوا من خارج الأطر والمؤسسات السائدة، القديمة والحديثة، بقدر ما تحرروا من أساطير الأولين وأقانيم المحدثين. فهم لا ينتمون إلى النخب الثقافية، ولم يتخرجوا من المدارس العقائدية، ولم ينخرطوا في الاحزاب السياسية، سواء منها التراثية والدينية أو الحداثية والعلمانية. إنهم ينتمون إلى جيل جديد أفاد افراده من الثورات والانعطافات والتحولات العالمية على غير صعيد.

الطفرة المعرفية

(أ) لقد أفادوا، على الصعيد الفكري، من الطفرة المعرفية التي أدرجت تحت خانة ما بعد الحداثة، والتي تبدلت معها خارطة المفاهيم كما تبدلت، بنوع خاص، طرق التعامل مع القيم والقضايا. فقد تمّ التحرر من لغة المطلقات والمتعاليات ذات الطابع الأحادي والشمولي، بقدر ما جرى كسر منطق التطابق والثبات في ما يخص التعامل مع الحقيقة والواقع، لصالح مفردات القراءة والخلق والتركيب والبناء والتحول. وهكذا فالواقع لم يعد ما نقبض عليه، بل ما نحسن قراءته وتشخيصه أو تفكيكه، لإعادة بنائه وتغييره. والحقيقة لم تعد مجرّد ما نعرفه، بل ما نقدر على خلقه وما نتقن إنجازه وأداءه.

 المناخ السياسي

(ب) وأفادوا، على الصعيد السياسي، من انهيار المعسكر السوفييتي في أوروبا، وما أسفر عنه ذلك من تشكيل مناخ عالمي مختلف، بعناوينه المستجدّة، والقديمة ايضاً، ولكن المتجددة، كالديموقراطية، والشفافية، والتعددية، والشراكة والمجتمع المدني، وحقوق الانسان؛، فضلاً عن حقّ التدخّل من جانب هيئات الامم المتحدة ومؤسسات المجتمع المدني، الدولية والعالمية، لدعم أو حماية الأفراد أو الجماعات أو الشعوب التي تتعرّض للقمع أو الاضطهاد أو للإبادة من جانب الأنظمة الاستبدادية أو من أي جهة أتى ذلك.
هذا المعطى الجديد أدى إلى انكسار الثنائية القطبية بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، والى تجاوز ثنائية الشرق والغرب، لكي يفتح المجال لبروز هويات تمارس خصوصيتها الوطنية أو الثقافية بصورة منفتحة، مركبة، عابرة للحدود. فقد بات من الخداع والتضليل التمسّك بمبدأ السيادة أو التذرع بالمؤامرة، فيما تتحول بعض الاوطان إلى سجون ومقابر من جانب الحكام الذين يدعون حراستها والدفاع عن مصالحها.
ولذا لم يعد مقنعاً خطاب المثقف الذي يحدثنا عن الغرب بوصفه الآخر، فيما هو ثمرة الغرب بلقبه ومعارفه وعدّته الفكرية. هل المقصود بذلك الغرب المهيمن والعدواني والعنصري؟!
ما يُمارَس عندنا، ومن قبل أنظمتنا ومجتمعاتنا، من هيمنة وطغيان وفساد وعدوان وحروب، هو أضعاف مضاعفة. والدليل هو أنه بعد مضيّ أكثر من قرنين على مقارعة الغرب، يتحول الاخ في الدين والشقيق في الوطن إلى عدو كما تشهد الحروب الأهلية.
من هنا فإن التذرّع بالمؤامرات والأجندات الخارجية لقمع المطالبة بتغيير الأنظمة، التي يعترف أصحابها بأنها بحاجة إلى الاصلاح، لم يعد يقنع أحداً، بل بات مجرّد تغطية للعجز أو تمويه للمشكلة، للهروب من الاستحقاقات الداخلية المشروعة في ما يخص محاربة آفات الاستبداد والفساد.
ثم إن العالم الغربي، سواء في اوروبا أو في امريكا، يغرق الآن في أزماته، أزمة الدين، أزمة اليورو، إفلاس بعض الدول… ولا أعتقد أنه قادر على نسج مؤامرات ضدنا، فيما هو عاجز عن حلّ مشكلاته. لو فعل ذلك يصبح على شاكلة أنظمتنا التي تقوم سياستها على خلق الاعداء وتصدير المشكلات واستدعاء المؤمرات والتدخلات.
طبعاً، إن الغرب يتدخل إن أعطي الفرصة لذلك، كما حصل في ليبيا. ولكن على خلاف ما حصل من قبل في العراق، اذ التدخل هذه المرة قد تمّ في اطار الامم المتحدة، وفقط من أجل حماية المدنيين من السكان.
حتى لو افترضنا وجود مؤامرات، فالاولى في هذه الحالة الاستجابة لمطالب الحراك الشعبي، لأن ذلك يعطّل فاعليتها، بقدر ما يجعل الأنظمة تستعيد بعض مشروعيتها. ولكن الأنظمة لا تريد الاصلاح ولا هي قادرة عليه أو قابلة له. لأنها تأسّست على منطق التقديس والتسبيح والترهيب، من أجل قولبة البشر وإخضاعهم واستعبادهم، ومَن يُعارِض أو لا يُذعن يُستبعد أو يُتّهم أو يُلاحَق أو يُعتَقل أو يُقتَل… من هنا اصبح الحديث عن المؤامرة حديثاً متهافتاً. واذا كان ثمة مؤامرات أو دسائس، فنحن نتقنها اكثر من سوانا، في سياساتنا وعلاقتنا بعضنا مع بعض.

الموجة الحضارية

(ج) ولعلّ العامل الأبرز الذي ساعد في نجاح الثورات، هو أن من فجّروها قد استثمروا، على الصعيد الحضاري، موجة العولمة بثورتها الرقمية والتقنية التي فتحت المجال لولادة الواقع الافتراضي والانسان العددي والفاعل الميديائي والأنا التواصلي والخيال السبراني…
هذا التطور الهائل كسر، من جهة اولى، احتكار الأنظمة الديكتاتورية للمعلومة وقلّص قدرتها على المراقبة والتجسس والضبط، بقدر ما فتح أمام قوى المعارضة امكانات قصوى للاتصال والتبادل والتنسيق، من على بعد، عبر الهواتف النقالة والشبكات الالكترونية والقنوات الفضائية. من هنا لعبت القنوات الفضائية، خاصة «الجزيرة» والى حد كبير «العربية»، دوراً في نجاح الثورات اكبر بكثير من دور الأحزاب والمؤسسات العقائدية والسياسية والنقابية.
ولكن ثورة المعلومات والاتصالات أفضت، من جهة ثانية، إلى كسر العقلية الفوقية، المركزية، البيروقراطية، لتوسع آفاق العمل السياسي نحو صيغ جديدة من الديموقراطية هي حيّة وميدانية، بقدر ما هي تشاركية أو ميديائية.

آلهة وعبيد

من أبرز سمات الثورات الراهنة أنها مدنية، سلمية، مستقبلية من حيث منطلقها وتوجّهها. واذا كانت الثورات السابقة التي عملت بالمبدأ القائل: العنف هو قابلة التاريخ، قد انتهى بها المآل لتأكل أبناءها وتصفي أعداءها، وتنتج أشكالاً جديدة من العبودية، فإن ثورات القوة الناعمة لعصر الاتصال والتداول، تحاول التحرّر من أسر التاريخ بإيديولوجياته الحتمية وتهويماته الاسطورية وبطولاته الدموية، لكي تفتح أبواب المستقبل، من أجل بناء مجتمع حيوي، تعددي، ديموقراطي، تسود فيه قيم الشفافية والاعتراف والمداولة والشراكة، بقدر ما ينكسر منطق الترهيب والاستعباد، وتتفكك علاقات التدجين والإخضاع.
فمن يرفع مطالب العدالة والمساواة والحرية والكرامة، لا يعمل ويشقى، أو يجتهد ويبتكر، أو يقاوم ويصمد، لكي يصنع تاريخاً أو يسجل بطولة أو يعبد زعيماً، بل ليحيا حياة حرّة، آمنة، كريمة، لائقة، وبصورة تتيح له صناعة ذاته والاسهام في بناء مجتمعه وعالمه.
من هنا أخذ يبرز، مع الانتفاضات الجديدة، فارق نوعي بين النمط الذي جسده شباب الثورة، وبين النمط القديم الذي صنعته المنظومات الايديولوجية والكتب المقدسة والأنظمة الشمولية والأحزاب الأصولية، كما تجسد ذلك في نماذج المنظر العقائدي والقائد الطليعي والمناضل الثوري، وفي ما تلاها من صُوَر المرشد الديني والامير الجهادي والوكيل الشرعي…
أما الأتباع والافراد العاديون من الناس، فالواحد منهم هو مجرد متلق، أو منفذ، أو مأمور، أو أداة، أو رقم كما في الحالة القصوى. بمعنى أن لا صفة له سوى أن يخضع ويمتثل وينخرط في الحشود العمياء في الساحات، أو يتسمر أمام الشاشة للاستماع إلى خطبة الزعيم الأوحد أو القائد المرشد أو الولي الفقيه أو البطل المنقذ الذي يفكر ويقرّر عن الجموع، فيما هي تصدق وتصفق أو تنتشي وتهلّل، لكي تمارس فروض الطاعة وطقوس العبادة تجاه زعمائها الذين يتحولون بدورهم إلى عبيد لسلطاتهم ومناصبهم وألقابهم ونزواتهم. هذا ما صنعته حركات التحرّر بثوراتها ومقاوماتها: آلهة وعبيد، سلاطين ومماليك، ابطال وأرقام، أمراء وأدوات…

بربرية النخب

ومن المفارقات الفاضحة أن شرائح واسعة من المثقفين العرب، الذين ادعوا بأنهم أصحاب وعي تاريخي وفكر ثوري تقدمي وثقافة نقدية حديثة، قد ارتضوا لأنفسهم العبودية والتصفيق للزعيم الأوحد تحت شعار الفداء بالروح والدماء.
وقد احتاج هؤلاء، والأحرى القول بعضهم، إلى اندلاع الثورات التي جوبهت بكل هذه الوحشية، لمطالبتها بالعدالة والحرية، لكي يستفيقوا من غفلتهم ويخرجوا من سجونهم الفكرية ويدركوا، ولكن بعد فوات الأوان، ان الأنظمة والاحزاب التي ساروا في ركابها أو صدّقوا دعاويها، لا قضية عندها سوى تأبيد السيطرة وممارسة القبض والهيمنة. وها هي الثورات العربية تفضح المستور، إذ هي تكشف زيف الأنظمة وأحابيلها وتنزع عنها شرعيتها، بقدر ما تنتزع منها الاوراق التي صادرتها، ورقة ورقة، تحت شعارات العروبة والقومية والمقاومة. هذا ما تشهد به المصائر الكارثية للقضايا والشعارات في غير بلد.
ولو توقفنا عند لبنان، الذي أريد له أن يكون وحده رأس حربة لتحرير الارض ومواجهة الامبريالية، نجد بأن ما جرى، بعد عقود من تحويله إلى ساحة مفتوحة وسائبة لأصحاب الاحلام المدمرة والمشاريع الفاشلة، هو تخريب لبنان من غير استرجاع فلسطين. وتلك هي البربرية التي مارسها مثقفون عرب وغربيون من أصحاب المشاريع العقائدية، تحت دعاوى التحرير والمقاومة ومناهضة الغرب.
وأتوقف عند تشومسكي الذي يقدم مثالاً. فهو يقول لنا الان بأن «الغرب مرعوب من الثورات العربية» (مجلة «أخبار الادب» عدد 951، 16 أو كتوبر 2011). هذا في حين أن الثورات العربية أفادت من الثورات والانجازات العالمية، كما تفيد الشعوب العربية من دعم بعض الدول الغربية لها في مواجهة طغاتها الذين ينشرون الرعب ويزرعون الموت. تلك هي المسألة الآن: ما تواجهه المجتمعات العربية من الرعب على يد طغاتها. ولكن تشومسكي، الذي يحمد له موقفه النقدي من الغرب واستراتيجياته في الهيمنة، يتغاضى عن الوجه الآخر للمشكلة، بقدر ما يسكت على الرعب والاستبداد في العالم العربي.

المناضل والناشط

مقابل ذلك يبرز النمط الجديد، المتعدد المذاهب والمشارب والمنابت، حيث كل فرد هو فاعل وخلاق، بقدر ما يستثمر على نحو بناء الأدوات الفائقة في الاتصال التي أتاحت، بشبكاتها العنقودية وقنواتها الفضائية، كسر الحواجز وتخطّي الحدود، لإقامة سياق تداولي تُنسج معه علاقات وروابط وتتشكّل تجمّعات كانت مستحيلة قبل العصر الرقمي.
ولذا لا تُدار الثورات الحالية بعقلية النرجسية النخبوية والعقيدة المقدسة والزعيم الأوحد والحزب الواحد. هذا ما يميّز الشبان الذين يتظاهرون في ميادين التحرير وساحات التغيير عن الأجيال السابقة والنماذج الآفلة. من هنا خلوّها من صور الزعماء والقادة والابطال… والفارق بين النمطين، القديم والجديد، هو كالفرق بين المنظومة والشبكة، أو بين القوقعة والفضاء، أو بين الهوية والعلاقة، أو بين العقيدة والمداولة…
وهكذا أخذ يتشكّل نمط جديد هو «الناشط» الذي حلّ محلّ «المناضل» أو «المجاهد» الذي أسدل الستار على عقله وتخلى عن حرّيته وكرامته، تجاه الزعيم والمرشد والوكيل والوصي والبطل، وسواها من الصور التي تصدّرت الواجهة في حقبة انتهت إلى مآلاتها البائسة، استبدادا وفساداً وخراباً.
فالناشط هو فرد يملك استقلاليته ويمارس حيويته، بقدر ما يفكر ويعمل بوصفه مواطناً منتجاً وفعالاً، مسؤولاً ومشاركاً. إنه ينخرط مع سواه ويحضر في الحشد، ولكنه يتحرك ويبادر، يناقش وينتقد، يتصل وينسّق، يبتكر ويقترح، لكي يفعل ويؤثر، أو يتغير ويغير.
والمثال الساطع يقدمه شباب الثورة اليمنية التي تتوافر فيها مقومات الثورة اكثر من سواها. أولاً لكونها الأوسع شعبية إذ هي تشمل جميع المدن والمحافظات؛ ثانياً، لأن النساء يشاركن في القيادة والحراك على نطاق واسع على قدم المساواة مع الرجال؛ ثالثاً، لأن وزن التيارات الأصولية هو الأضعف قياساً على الثورات الاخرى.
وهكذا كنّا نظنّ أن اليمن وراءنا يرسف في تخلّفه، فإذا به أمامنا يصنع نموذجه في التغيير والتحديث والتقدم. لقد فضحنا أهل اليمن، الذين يحاولون إسقاط حاكم جرّ الكوارث على البلاد والعباد، فيما نحن نتقن صناعة زعماء، مستبدّين، فاسدين، مجانين، من حيث علاقتهم بالسلطة والثروة والعقيدة، لكي نؤلّههم ونتعصب لهم تعصباً أعمى، فنقتتل من أجل تأبيد سيطرتهم وازدياد ثروتهم، كما هي حالنا في لبنان.

الثالوث المضاد

ليست الثورات فراديس، وإن أطلق عليها تسمية «الربيع العربي». فالثائرون أرادوها مدنية، سلمية، ناعمة، ولكن الأنظمة أرادتها مضرّجة بالدماء. حتى الثورات التي نجحت في إسقاط الأنظمة، فإنها تواجه الكثير من الصعوبات والعقبات والأزمات، وربما المؤامرات.
وهكذا يتواطأ ضد الثورات الاضداد جميعاً، كما يتمثل ذلك في ثالوث الدكتاتورية السياسية، والأصولية الدينية، والنخبوية الثقافية، وكما تشهد به المجريات.
ففي مصر تطلّ برأسها، بين الفترة والاخرى، الفتنة الطائفية لتعيد الأمور إلى الوراء وتشوّه شعار المجتمع المدني كما يرفعه شباب الثورة وشاباتها. هذا فضلاً عن أن القوى المضادة للنظام السابق تحاول تخريب الثورة سواء بأدوات الفتنة أو بعقلية المؤامرة. من هنا تشهد مصر الآن موجة جديدة من التظاهرات الحاشدة ضد الذين يحاولون مصادرة الثورة أو التآمر عليها.
وفي تونس، وكما حصل في الآونة الاخيرة، لجأت بعض الجماعات السلفية المتشدّدة إلى شنّ غزوات ضد مؤسسات فنية واعلامية وأكاديمية، بذريعة الاحتجاج عمّا يسمونه إساءة إلى الذات الالهية والمقدسات الاسلامية. بذلك يراد لتونس أن تنتقل من حكم الزعيم الأوحد الذي حوّل بلده إلى ملكية خاصة، إلى حاكمية السلفيين الذين يحاولون احتكار الحقيقة الدينية والنطق باسم الواحد الأوحد.
مثل هذا المنطق الذي يحاول أصحابه الاعتداء على حرية التفكير والتعبير وممارسة الإرهاب العقائدي، بفرض نموذجهم الشرعي والفقهي في العيش على المجتمع، يرتد في النهاية عليهم، كما تشهد الحروب الأهلية، حروب الآلهة والنصوص والجوامع، بين المسلمين. هذا مع أنني لا أعتقد أن بوسع التيار السلفي أن يتحكم بالمجتمع التونسي الذي اطاح بالطاغية وفتح صفحة جديدة، لكي يصنع مجتمعه الديموقراطي، المدني، التعددي، كما شهدت انتخابات المجلس التأسيسي، وكما يشهد تشكيل الحكومة الجديدة بائتلاف بين الاحزاب الرئيسية الثلاثة.

عجز المعارضة

وأما النخب الثقافية والسياسية المعارضة للأنظمة، فإنها تحاول الالتفاف على الثورات وتصدر قيادتها، بدعوى أن المنتفضين في الميدان هم شباب قليلو الخبرة. وفي هذا الرأي الكثير من الادعاء والمكابرة. ذلك أن الكثيرين من الشباب الذين نستمع اليهم، عبر الشاشات، يبدون ذوي فكر حي وخلاق، قياساً على ديناصورات النخبة والعقيدة والسياسة. ولنا مثال ساطع على ذلك في تجربة الناشطة اليمنية توكل كرمان. وها هي التسوية التي تمّت في اليمن بين نظام علي عبدالله صالح والمعارضة التقليدية، والتي تتجاهل مطالب الثوار، تشهد على أن هذه المعارضة، أكانت قومية أم يسارية أم اسلامية، هي الوجه الآخر للنظام، لأن مطلبها هو السلطة، وليس العدالة أو الحرية.
وهذا دأب المعارضة التقليدية التي تشكّلت وتخلّقت في عصر الأنظمة الشمولية والايديولوجيات الاسمنتية، أكانت عربية أم غربية، كما تشهد مواقفها من الثورات الجارية. فهي تعلن بأنها مع الثورة، وقد تنخرط في صفوفها، ولكنها أعجز من أن تفي بمطالبها أو تتحمل تكاليفها. إذ هي تنتمي إلى زمن آخر، فائت، بعقلياتها القاصرة ومسبقاتها المعيقة ومعارفها الميتة. ولذا لا تحسن سوى التراجع والارتداد على الثورة. الاجدى لقادتها أن يستخلصوا الدرس من الاخفاق، بعد كل هذه النضالات الطويلة، لكي يفيدوا من الناشطين الذين ينتمون إلى زمن مستقبلي، ويشرعون الابواب لبناء مجتمعات جديدة، بفكرهم الحيوي وخيالهم الخلاق وعقولهم الفعّالة ومعارفهم المستحدثة وأساليبهم المبتكرة…
ومن الطريف في هذا الخصوص أن يأتي الفيلسوف اليساري سلافوج جيجك إلى «وول ستريت» لكي يلقي كلمته وسط الاضواء، على جموع المتظاهرين والمحتجين ضد السياسات المالية والرأسمالية الوحشية.
فذلك لا يعني أن بوسع جيجك تلميع أو تعويم مقولاته التي تنتمي إلى مرحلة آفلة من الصراعات الايديولوجية بين المعسكر الاشتراكي والمعسكر الرأسمالي. فضلاً عن أنه يجسّد نموذج المثقف النخبوي الذي فقد مصداقيته، كوصي على مصالح العموم، وعلى شؤون الحقيقة والحرية والعدالة والانسانية.
من هنا الفارق بين الفيلسوف جيجك الذي يمارس ازدهاره بالانتقال من عاصمة إلى اخرى ومن ندوة إلى سواها، وبين رجل الشارع (manstreet) والناس العاديين المحتجين على بؤس اوضاعهم.
بالطبع لجيجك أن يمارس حريته، بل هذا حقه. وهذه مهنته: أن يقرأ ويحلّل. وهنا تكمن فائدته. ولكن ليس له أن يتصدر المشهد أو يسرق الاضواء، فيما يغيب الآخرون الذين صنعوا الحدث، بقدر ما أفادوا من التكنولوجيا العلمية التي يستثمرها جيجك ويهجوها.

الرهان الصعب

اذا كانت الثورات تسقط أنظمة سياسية، فإنها لا تحمل معها البديل الذي لا ينجز بين ليلة وضحاها، ولا أحد يملك بشأنه وصفات جاهزة أو مسبقة، لا من جهة الثوار أو سواهم. فالنظام الذي ينهار هو في النهاية صنيعة الجميع. ولذا فهو يتكشف، بعد سقوطه، عن امراض المجتمع وآفاته التي تحتاج إلى التشريح والتشخيص، للوقوف على أسبابها وعواملها. ولكن الناس تكتفي عادة برؤية الاعراض والنتائج وتتستّر على العلل التي تسهم في انتاجها، من غير أن تحتسب. وإلا كيف نفسر أن الشعارات تترجم بأضدادها وأن الاعمال تقود اصحابها إلى ما يفاجئهم ويصدمهم.
من هنا يحتاج بناء أنظمة جديدة إلى جهود جبارة، من الإبداع الفردي والعمل الجمعي، تساهم فيها مختلف الحقول والقطاعات والفاعليات، على نحو يسفر عن صنع نماذج جديدة، في ما يخصّ إدارة شؤون السلطة والثروة والمعرفة.
بالطبع هذا رهان صعب. وإذا نجح، فإنه سيكون ثمرة صراعات مريرة وتجارب مديدة وتحولات خلاقة، يكتسب خلالها الفاعلون والناشطون والمواطنون، كل في حقل عمله وفي مجال تأثيره، خبرات غنية بقدر ما ينجحون في صوغ أو ابتكار أطر وقيم وقواعد وأساليب جديدة في العمل والانتاج أو في التداول والتبادل أو في التدخل والتوسط أو في التنظيم والتدبير.

سياسة الافكار

أصل من ذلك إلى ما يخصّ دورنا، نحن، الكتّاب والمثقفين العاملين في مختلف فروع المعرفة. لم يعد الأمر يقتصر على ترديد شعارات الديموقراطية والتعددية والثورة السلمية المدنية، فيما الثورات تواجه كل هذه المشكلات والمؤامرات. ما ينتظر منا وما بوسعنا القيام به، هو إعادة النظر في ما يتصل بمهننا ومهامنا، من غير وجه.
(1) الاول هو التدرّب على التواضع المعرفي، لكي نخفف من نرجسيتنا ونتزحزح عن مركزيتنا، بحيث ننصت إلى الناس العاديين ونتبادل معهم، ونستمع إلى ما يقوله الناشطون لكي نتعلم منهم، بعد أن فاجأونا بهذا الانجاز الذي لا سابق له.
ما عدنا وكلاء على غيرنا، ولا أوصياء على القيم العامة، وإنما نحن فاعلون في مجتمعاتنا وفي عالمنا، بقدر ما نحن منتجون في حقول اختصاصنا. وما ننتجه من الأفكار على سبيل الدرس والتحليل أو الفهم والتشخيص، نتداول به مع الفاعلين في بقية القطاعات، لاجتراح المعالجات وتركيب الحلول، في ما يخص التصدي  للمشكلات والخروج من المآزق.
(2) الثاني هو التمرس بسياسة فكرية جديدة تتغيّر معها طرق التعامل مع ما ننتجه أو نطرحه من الافكار، كي لا تتحول إلى أصنام نظرية وتنانين مفهومية أو إلى أنظمة استبدادية ومنظمات ارهابية. فالافكار الحيّة والخصبة ليست حقائق مطلقة أو نهائية تصحّ بذاتها أو تحتاج فقط إلى التطبيق. وإنما هي أنماط من الوجود المعاش واشكال من التواصل، بقدر ما هي قدرتها على خلق بيئة للحوار أو وسط للتداول أو مساحة للتبادل، وهي قابليتها لأن تغتني وتتجدد، أو تتغير، بقدر ما تجري ترجمتها إلى واقع مُعاش من الخيارات والتدابير والإجراءات الآيلة لحل المشكلات أو لتحسين شروط الوجود ونوعية الحياة…
(3) الثالث هو تجديد الافكار. لقد تجاوزنا الزمن الذي كنّا نتحدّث فيه عن القضايا، كما كنا نفعل قبل خمسين عاماً. لأن المفاهيم تغيّرت، في ضوء التغير الهائل الذي طرأ على العالم بمشهده ونظامه وأدواته وقواه والفاعلين على مسرحه.
لم تعد القضايا تُفهم كما كانت تُفهم بعقل كنط أو هيغل أو ماركس، ولا حتى بلغة سارتر أو تشومسكي أو بورديو، سواء تعلّق الامر بالديموقراطية والعقلانية، أو بالحرية والمساواة، أو بالهوية والذات، أو بالدين والدولة. وبالطبع فهي لا تُفهم بصورة ساذجة كما كانت تُفهم في عصر النهضة أو كما يفهمها المثقفون والدعاة المُحدَثون، فيما العالم يزداد تعقيداً وتشابكاً، أو تسارعاً وتغيّراً، بل صعوبةً وتأزّماً.
من هنا فإن التحولات الجارية، مع اندلاع الثورات العربية، تشكّل فرصة أمام المفكرين المحترفين، سواء منهم الذين ينظرون إلى الأحداث بعين نقدية محايدة، أو الذين يتحمّسون للثورات بالكتابة عنها وقراءة مجرياتها، أو الذين يطمحون إلى ادوار قيادية فيها، أقول فرصة لكي يسهموا في تجديد العُدّة الفكرية، بإغناء العناوين القديمة أو باجتراح عناوين جديدة.

الحصن والفضاء

إن الثقافة الايديولوجية والسياسية، لدى أصحاب المشاريع، قد استهلكت، بشيفراتها ورموزها ونماذجها، سواء لدى أصحاب المشاريع القومية أو اليسارية أو الاسلامية. ولذا فهي لا تشكّل الحصن الأخير الذي نتمترس فيه للدفاع عن الهوية والمصير. بالعكس فهي من فرط تحجّرها وهشاشتها وانغلاقها، أصبحت أعجز من أن تواجه الازمات المزمنة، مما يجعلها تخنق الامكان ولا تصنعه، تسدّ الابواب ولا تفتحها، أي هي باتت مصدر المشكلة وليست الحلّ أو العلاج. ولذا لا مهرب من العمل على تفكيكها وتغييرها، للانخراط في بناء ثقافة جديدة تتغير معها جغرافية المعنى وعلاقات القوة، بقدر ما تتغير أنماط القراءة وطرق المعالجة، أو خرائط الطرق واستراتيجيات العمل.
الأجدى أن نتوقف عن التعامل مع الثقافة بوصفها حصناً أو معتقلاً. فهذا مقتلها، لأن الثقافة الحية والغنية، هي قدرتها على الانفتاح والخلق والانتشار. وهكذا، فالعناوين المطروحة، سواء تعلق الامر بالحرية أم بالديموقراطية أم بالعدالة، تحتاج إلى تغذيتها ورفدها بأبعاد جديدة، في ضوء التحولات والتحديات. وإذا صحّ أن الثورات العربية تشكل تجارب جديدة، فذة وخارقة، بقدر ما تشكل نقلة نوعية في تاريخ المجتمعات العربية، والعالم عامة، فإنها لا تؤتي ثمارها، ما لم تُسفر عن الجديد من القيم والافكار والنماذج والصور التي تفتح الامكان أمام كل فرد أو مجموعة، لكي يكون له قسطه ودوره في بناء مجتمعه وصناعة عالمه.
من هنا، فالسؤال الآن: كيف تفهم القضايا وكيف تدار الأمور؟ كيف تترجم الشعارات وتمارس السياسات؟ أعني بأي عقل وأي منطق؟ بأي معيار وأي أسلوب؟ بأي أداة وأي أداء؟  باختصار، بأي ثقافة وأي لغة؟
ولو توقفنا عند مسألة الديموقراطية، التي هي الامر الجامع في الثورات الجارية، بالوسع القول بأن المجتمعات العربية لن تنجح في عملية التحول الديموقراطي، ما لم ينخرط الفاعلون والناشطون في ممارسات مجتمعية وسياسية تغني وتطور مفهوم الديموقراطية، بقدر ما تسفر عن ابتكار أطر ووسائط وآليات تتسع معها وتتضاعف إمكانات وفرص التفكير والتعبير، أو الرقابة والنقد، في ما يخصّ ادارة المصالح العمومية والعمل المشترك.

خرق الشروط

في مثال آخر، أتوقف عند مسألة النهضة التي لا  تزال تثير النقاش والجدل حول كيفية تحققها، بعد قرن ونيّف على طرح مشروعها وشعاراتها. فالكثيرون يعالجون المسألة بالحديث عن شروطها. وأنا أعيد التفكير فيها بصورة مغايرة: ليست المسألة مسألة معرفة مسبقة بالنهوض مطابقة لشروط إمكانه أو نظام أسبابه ومسبّباته. فذك هو مصدر التعثر والاخفاق.
القضية هي خرق الشروط وتجاوز الحدود وكسر للنماذج السائدة. بهذا المعنى يأتي النجاح في مشروع النهوض كثمرة لتخييل خلاق وخارق تنفتح معه الابواب الموصدة أو تطلق الطاقات المحبوسة، بقدر ما تجترح امكانات للتفكير والتقدير والتدبير، بصورة غير متوقعة ولا منتظرة.
بالطبع، لا يعني ذلك أن أعمال النهوض والاصلاح والتحديث تجري من غير علم أو معرفة بالواقع، على سبيل الدرس والتحليل أو الفهم والتشخيص، فيما يخص المشكلات والتحديات. هذا عمل ضروري. ولكنه لا يكفي. فنحن ندرس ونحلّل، لكي نركب حلولاً ونصنع نماذج نكسر بها القوالب أو نخرق المقاييس والمعايير. بهذا المعنى، كل عمل مبتكر، إنما يجري على غير مثال سبق، لكي يشكل مادة لولادة نماذج أو صيغ جديدة، مبتكرة وخارقة.

الشعار المستحيل

وها هي ثورات الشباب الناشط شاهد حيّ بقواها وبكيفية حصولها وبالإمكانات التي فجّرتها، إذ هي فاجأت أصحاب النظريات الجاهزة والباحثين عن الشروط المسبقة للنهوض والتغيير، بقدر ما كشفت عن أوهامهم وعجزهم.
من هنا التحدّي الكبير أمام الاحزاب الاسلامية التي فازت في الانتخابات بالوسيلة الديموقراطية المستفادة من الحداثة الغربية: تجديد العناوين الحضارية واختراع نماذج جديدة. وهذا أمر يتجاوز شعارهم المستحيل: الاسلام هو الحل، إذ هو حيث طبق تحول إلى مشكلة لأصحابه ولغيرهم. ولا غرابة، فلا يستقيم حكم في هذا العصر بنماذج السلف واحكامهم وادواتهم. ولذا، فإن الاسلاميين يحمّلون الدين الاسلامي ما لا طاقة له به، فإن نجحوا ينسبون إليه زوراً ما ليس له أو ما لم يأت منه. وإن أخفقوا ينتهكون قِيَمَهُ يسيئون اليه بالغ الاساءة.
وهكذا لا مهرب من التغيير والتبديل، خرقاً للثوابت، على سبيل الاختراع والإبداع. والتجربة التركية شاهد بليغ، فقد نجح «حزب العدالة والتنمية»، الآتي من خلفية اسلامية، لأن قادته لم يعملوا بمنطق المنظّر العقائدي ولا بموجب النظام الفقهي، بل كان همّهم أن يخرجوا ببلدهم من هامشيته وتخلّفه. وقد نجحوا في بناء نموذجهم في التحديث والإنماء والتقدّم، بقدر ما انفتحوا على حقائق العصر، وأفادوا من تجارب الغير، وبقدر ما فكّروا بطريقة مركّبة تجمع، على نحوٍ مثمر وبنّاء، بين التقليد الديني والمرتكز القومي والتحديث الاقتصادي والمدى العالمي.

العين النقدية

خلاصة القول، إن الدرس الأول المستفاد من تجارب الماضي وإخفاقاتها، هو مَن أساء إلى القضايا والمشاريع هم دعاتها وحملتها بالدرجة الأولى. كما أساء الاسلاميون إلى القيم الدينية، والعروبيون إلى فكرة الوحدة، والحداثيون إلى عناوين الحداثة، والعلمانيون إلى التنوير والعقلانية، واليساريون إلى العدالة والمساواة، ومناهضو الاستبداد إلى الثورة والحرية. وتلك هي العدمية المعاصرة.
ولا غرابة. فتلك هي حصيلة النرجسية البشرية. لنتواضع نحن أدنى شأناً من حيث علاقتنا بالقيم والمبادئ والمثل، التي لا نحسن سوى انتهاكها، ليس فقط لفساد سياسي أو انحراف خلقي، بل لخلل تكويني قوامه محدودية الانسان وتناهيه، جهله وادعاؤه، الامر الذي يفسر كيف أن الذات التي نظنها سيدة، قابضة، عالمة، فعالة، تكتشف، بعد فوات الأوان، أن هناك في كل ما نفكر فيه ونعقله أو نعلمه جانبا معتماً يخرج عن نطاق التفكير والسيطرة، هو الذي يقودنا إلى ما لا نريده، أو يقف وراء ما تفاجئنا به أفكارنا وأعمالنا من المساوئ والمخاطر والكوارث.
هذا ما يجعل من النقد والتنوير مهمة دائمة، من التفكيك والتشريح والإضاءة، في ما يخص ما هو محجوب أو مستبعَد أو مستعصٍ على الادراك أو التغيير… والنقد المثمر ليس هو نقد الآخر، وإنما هو نقد الذات بالدرجة الاولى. إنه ارتداد المرء، بالمساءلة والمراجعة، على أفكاره من البداهات والمسبقات والمسلمات التي تصنع العوائق والازمات. بهذا المعنى يختلف النقد عن التشبيح النقدي الذي يتقنه بعض الذين لا يعرفون معنى النقد ولا نقد النقد. لأن النقد الذي تجترح معه الامكانات يتم بعقل مرن، متحرّك، مركّب، يرى إلى الواقع بكل تعقيده وتشابكه، والتباسه، وبكل حراكه وصيرورته وطفراته… بقدر ما يمارس بلغة الحوار الخصبِ والتداول المنتج والتركيب البنّاء والتحويل الخلاّق والتفاعل المثمر.

مقالات ذات علاقة

العلامة ابن خلدون سابقة علمية اقتصادية فريدة (1-4)

المشرف العام

يا طائري

حسين عبروس (الجزائر)

يوم جديد

المشرف العام

2 تعليقات

سراج الهادي 8 فبراير, 2020 at 07:13

موضوع مهم
استفدت مما عرض هنا

رد
المشرف العام 22 فبراير, 2020 at 05:56

نشكر مرورك الكريم

رد

اترك تعليق