

أغمضتً عينيّ كي أستوعب كلماتي وأعيد ترتيبها من جديد.. وأتذوقها وأعيد ترتيب الأشياء من حولي.. لا شيء أمامي سوى جهاز صغير على هيأة تفاحة بيضاء اللون بمثابة منظومة الكترونية صغيرة جداً…
تحسستُ فتحة صغيرة جداً.. دسستُ شريحة صغيرة سوداء “ميموري” في عمق التفاحة الإلكترونية… ثم ضغطت بسبابتي على زر التشغيل الصغير…
الصوت يأتي متأوهاً شجياً حزيناً يخترق مسام الروح.. وترتعش له كل ذرة في جسدي.. وأنا أترقب شيء ما.. أنتظر في قلق.. أتوجس.. شاردة الفكر والذهن والبصر…
تحن الموسيقى الهادئة.. ويئن الصوت.. وينتفض القلب وأنا ساكنة وفي القلب صخب وصراخ وعويل.. لم استطع تفادي كلمات الأغنية أو سحرها.. أو الأنين الذي يأتي من العمق…
يتأوه الصوت.. يأتي من بعيد.. من زمن قديم موغل في الغموض والسحر والجنون يسرقني من عالمي ويطوح بي بعيداً.. يرمي بي عند حافة الوجع…
أتوسد الفقد والحرمان والغياب وعبثاً أبحث عن تماسكي الجبار في حضرة هذا الصوت الشجي القادم من زمن الأسطورة الحزينة والخرافة والتيه والغموض…
الصوت الآن يتمدد على صخب المكان.. بل ويلغي كل حضور لموجات صوتية أخرى.. يعلو بروعته على كل حس أو همس أو صراخ أو عويل…
كانت صديقتي “فاطمة” تستغرب ارتباطي وتعلقي بهذا النغم الشجي الحزين.. وكنتُ أعيش فكرياً زمن هذا النغم الحزين الذي يكبرني كثيراً.. فأنا من جيل تربى على صوت “محمد حسن”، “وذكرى التونسية”، والنهر الصناعي العظيم، ومن جيل ردد كثيراً “بلادنا زين على زين”، و”على دربك طوالي”.. ولكن يكبرني هذا الصوت الملتاع.. ويبكيني.. ويقلق راحتي…
”نور العين والجوبة بعيدة..
حن القلب لاوهامه يريده..“
تنقر أناملي على الطاولة.. نقرات رتيبة.. يجول بصري المجهد في أرجاء الغرفة.. يقع بصري على حقيبة يدي.. دفاتري.. حقيبة ملابسي الجاهزة والمعدة للسفر الطويل كانت ملقاة بإهمال كأسمال بالية وسط الغرفة.. حيث من المحتمل أن نسافر غداً السبت إلى بنغازي.. لزيارة عمتي…
الفوضى تعم المكان.. ويتخللني صوت “محمد مرشان” من جديد يجتاحني.. يغزوني.. يأتي متسللاً.. حنوناً رقيقاً.. ينساب بعذوبة.. وصفاء وعفوية…
”لاوهامه وحبه يحلم بيه
بأيامه بقربه
زاد الموح في شوقه وحبه
حاله حال من فارق اوليده..“
وأحس بأنه يعذبني بصوته الجميل.. وموسيقاه الحارة.. وأنزوي في الركن المعتم.. يتآكل داخلي.. وتتسارع دقات قلبي لكنني ساكنة.. حزينة.. أشعر بأن صوته يجلدني.. يمتصني.. أظل صامتة لا أنبس ببنت شفة.. ساهمة.. خرساء.. لكنه يصرخ.. نور العين و الجوبة بعيدة…
”حن القلب لاوهامه يريده“…
وتنساب موسيقاه.. تنهش بقايا روح.. أحلام.. براءة.. تنكأ جراح غائرة في القلب.. تثقب ذاكرة وتنسف تاريخ وتلغي أجيال.. فجأة قفزتْ إلى ذاكرتي بنت الوطن الرائعة خديجة الجهمي كاتبة هذه الكلمات…
ينتهي “محمد مرشان” من ذبحي.. وتمتد سبابتي المرتعشة إيقاف زر تشغيل التفاحة الإلكترونية ليعلو صوت المذيعة في إذاعة ليبيا الأحرار المرئية.. نائحاً ملتاعاَ مفجوعاً هزني من الأعماق.. “اغتيال أربعة شخصيات في بنغازي اليوم الجمعة.. والحكومة تتعهد بالوصول إلى الجناة“…
جاءني الخبر الحزين متقطعاً والكلمات لبست السواد استعدادا لحداد طويل.. طويل جداً.. بدأت الكلمات تتساقط أمامي.. وصوت المذيعة الحزين يخفت تدريجياً.. ثم يعلو.. وبدأت الأشياء تتراءى أمامي.. تتضح.. تتضح.. ثم رويداً.. رويداً تتلاشى.. تختفي.. كانت المذيعة تهذي بكلام غير مفهوم…
مخطوط ” ذائقة الغياب والغربة “