محمد الأصفر اشتغل مدرسا ولاعب كرة قدم وتاجرا… وانتهى روائياً
صحيفة العرب :: حنان عقيل
الكاتب الليبي يرى أن أجمل الكتابات هي التي تكتبها الذات مباشرة ودون أقنعة وبكل عراء، ويؤكد أنه توجد أقلام ممتازة في ليبيا من الجيل الجديد.
مثلما يستند العمل الأدبي إلى جُملة من الركائز لا يستطيع الكاتب أن يتجاوزها أو يتجاهلها، يظل جموح كل كاتب وشطحاته هو ما يمنح العمل صوته الخاص، وهو ما يضع الكاتب في إشكالية الاختيار بين دربه الخاص بكل هناته وتلك الدروب التي يُرشده إليها الآخرون بمثاليتها الظاهرة. “العرب” حاورت الكاتب الليبي محمد الأصفر حول دربه الخاص في الكتابة وإشكالياته.
يرتكز الكاتب الليبي محمد الأصفر في أعماله الروائية على تداعي الذكريات والتخيلات عن الوطن، وتلك الركيزة تجعله يضع ما يتعلق بالسرد والحبكة الروائية في المرتبة الثانية. وفي هذا الصدد يوضح أن كل كتاباته عن ليبيا؛ تاريخها وتراثها ومدنها وقراها وعاداتها الاجتماعية وأحداثها السياسية وثوراتها، فكل شيء عن ليبيا يُحب أن يتناوله خاصة في ما يخص مدينته بنغازي ودرنة لمعرفته العميقة بهما.
يقول الأصفر “حينما أكتب لا أركز، أكتب وحسب، لو ركزت سأفقد الخيط الذي انطلقت منه، لكن معظم رواياتي بها سرد وحبكة ومعظم الأشياء المتعلقة بفن الرواية، وكلها تواجدت في النص تلقائيا ودون ترتيب مسبق من قبلي، إذ أنني لا أعتمد خطة أتبعها بدقة، ولكن أكتب كمًّا لا بأس به من الصفحات وأحذف منه الكثير عند مراجعة النص.
– الرواية مربوعة
يؤمن محمد الأصفر أن “الرواية مثل المربوعة، أنت في مربوعتك حر، تفرشها، لا تفرشها، تضع لها مقاعد وثيرة أو حصيرا جميلا، تستقبل فيها ضيوفا أو لا. والقارئ أستضيفه داخل المربوعة، وأقدم له ما أملك من مادة، هناك قارئ تعجبه الضيافة وطعامها وشرابها وموسيقاها وآخر يعجبه بعضها وآخر لا تعجبه إطلاقا، وأحترم رأي كل الضيوف الذين قبلوا دعوة قراءتي بالطبع، وأثناء الكتابة دائما أضع القارئ بعيدا عني ولا أسعى لإرضائه، أنا كاتب وهو قارئ، وكل منا شغله مختلف عن الآخر، ولو اتّبع الكُتَّاب القُراء فسوف ينتهون، سيكتبون تحت ضغط إرضاء القارئ ومن هنا يتحولون إلى إعلاميين يتحركون وفق رغبة مموليهم”.
ينتظر الأصفر قريبًا صدور رواية له بعنوان “تمر وقمعول” عن دار الجيدة بالأردن وعنها يقول “تتحدث عن ثمرتين ذواتي خصوصية ليبية من خلال شخصيات هاجرت قديما ومؤخرا إلى أوروبا، تمر النخيل وهو فاكهة معروفة و‘القعمول‘ وهو نوع من الخرشوف لا ينبت إلا في إقليم برقة (الشرق الليبي)، الممتد من خليج سرت غربا إلى مساعد شرقا وإلى الكفرة جنوبا. الرواية تتناول فترة زمنية من ستينات القرن العشرين إلى الآن وما عاشته من تغيرات في معظم المجالات، والفضاء المكاني للرواية يمر بعدة مدن ودول أهمها بنغازي وألمانيا وفلسطين”.
بدأ الأصفر الكتابة في فترة متأخرة نسبيًا من حياته، وعن ذلك يقول “حياتي حلقة من التجارب في كل فترة منها أهتم بشيء ما، ثم لا أجد فيه نفسي فأتركه، بدأت مدرسا وتركت التدريس بعد عشر سنوات، لعبت كرة القدم ثم تركتها، عملت تاجر شنطة مع مدن جنوب شرق آسيا والمغرب ومصر ثم تركت ذلك، ذات عشية في بكين رأيت شيوخا كبارا يرقصون في حديقة ويعلقون في الشجر أقفاصا بها عصافير تحاول أن ترقص هي الأخرى وتلفت النظر بزقزقاتها وكأنها تقول للشيوخ نحن في سجن صغير وأنتم في سجن كبير، ورقصكم لن ينجيكم من السجن القادم، كتبت المشهد في ورقة وقرأته على أصدقائي تجار الشنطة في الفندق وأعجبوا به واحتفوا بالنص”.
يتابع “عندما عدت إلى بنغازي كان الوقت ليلا، لم يكن هناك عشاء في المطبخ، وجدت جمرا ما زال يتقد في الموقد فرميت عليه كوز ذرة يابسة وتأملت مشهد نضوج حبيبات الذرة واحتراق بعضها، وظللت تلك الليلة في المطبخ أتأمل مشهد الذرة والنار تاركا خيالي يرحل فيهما كما يحب، ثم بدأت في كتابة نص بعنوان ‘من مذكرات شجرة’ كان ذلك في منتصف يوليو 1999، تتبعت في النص رحلة الشجرة منذ أن كانت بذرة حتى تحولت إلى فحم، وفي الصباح أخذته لجريدة الجماهيرية الليبية فنشروه على الصفحة الأخيرة كلها، وبعدها قالت لي فتاة صحافية إنك كاتب جيد، لماذا لا تكتب بانتظام؟ فقلت لها سأفعل، تركت التجارة فورا وانخرطت في هذا العالم إلى الآن، خاصة بعد أن شجعني كثير من الكتاب الكبار المعروفين في ليبيا وخارجها”.
في ما يتعلق بإمكانية تجاوز الكاتب لذاتيته في عمله الروائي، يعتقد الكاتب بأن كل الكتابات سيرة ذاتية للكاتب، فالكتابة تعبير عن شعور، والشعور منبعه الذات بالطبع، وحتى وإن استخدم شخصيات وأمكنة لا تمت إليه بصلة، ففي الدماغ لا شيء سوى الذات، منه ننطلق ومنه نعود، وما يحركه للكتابة هو إرضاء ذاته وإشباعها بشيء غير متوفر لدى الآخرين سواء بشرا أو آلهة، ولا أحد يعرفه غيره، فأجمل الكتابات برأيه هي التي تكتبها الذات مباشرة ودون أقنعة وبكل عراء ممكن، وهذا أمر صعب على كل كاتب، بمن فيهم الكبار والمخضرمين الذين يسعون دائما للبطولة والتفوق.
– نصائح نقدية
يقول الكاتب الليبي “أكتب وأرمي ورائي، حقيقة أنا أنسى ما كتبت، ولا أقرأ ما كتبت من جديد، لأني سأرى أشياء تؤلمني، فحينما أقرأ نفسي أقول ما هذه التفاهة التي كتبتها، هل أنا فعلا من كتب هذا الهراء؟ أنا لا أصدق، يبدو أني تغيرت كثيرا الآن، والحالة التي كتبت فيها ذاك النص خرجت منها إلى حالة جديدة تكفر بكل الذي قبلها، وعموما أنا دائما لا أحاول إصلاح القديم، وأُفضِّل اقتناء جديد بدلا منه”.
وعن تأثير النقد على توجهه في الكتابة يقول “لا يؤثر في النقد، لذلك لا أحب الاستفادة من أخطائي وأحب أن أظل كما أنا، النقاد يقولون أشياء صحيحة، لكن اتباعها بالنسبة إلي صعب، أحب أن أترك العمل كما هو بهناته وحسناته، ربما يكون آنذاك أصدق تعبيرا عني، عندما اتّبع رأي ناقد أشعر وكأنه كتب معي النص. ذات مرة حاولت أن اتّبع خطوات ناقد في الكتابة فوجدت نفسي قد قضيت شهرين ولم أكتب سوى ورقتين، مزقت الورقتين وقلت هذا الأمر لا يناسبني، أنا بدأت الكتابة مؤخرا وعمري 39 سنة، ولا أحب أن ينهب زمني أي ناقد مهما كان مُخضرما، حتى الكتب التي تمنح نصائح للكُتّاب لا اتّبع نصائحها, لست مقتنعا بمبدع يمنح نصائح للآخرين ليربك دربهم الخاص الذي اجترحوه، وعموما استمرّيت أكتب دون التفات، ودون طلب مجد أو جوائز أو قبول نصوص من دور نشر معروفة، لكن في الآونة الأخيرة بدأت أكتب بطريقة مختلفة، يبدو أن الناقد الذي يمشي معي هو المكان، عندما تغيّر المكان وتأقلمت معه تغيرت كتابتي من حيث الانضباط والنظام والاشتغال الطويل على النص”.
البعض يناقش مسألة غزارة الإنتاج الأدبي بنوع من الاستهجان باعتبار أن الكم الكبير يتعارض مع الجودة والإتقان. ويرى الأصفر أن أكثر الكُتاب الناجحين هم من غزيري الإنتاج، نجيب محفوظ، موراكامي، كونديرا، بول ايستر، أمبرتو إيكو، ماركيز، يوسا وغيرهم. ففي اعتقاده مادام المبدع قادرا على الإبداع فليبدع، مسألة الجودة تتعلق بالموهبة، إن كنت موهوبا مع قليل من المثابرة ستكتب جيدا، وإن كانت موهبتك ضحلة سيكون نصك رديئا.
ويختم محمد الأصفر بالحديث عن الرواية الليبية قائلًا “توجد أقلام ممتازة، دعونا لا نتحدث عن الأسماء المكرسة المعروفة عالميا، ولنركز على الجيل الجديد الذي ينشط الآن رغم ما تعيشه البلاد من ظروف صعبة، خاصة الكتاب الشباب الذين احتواهم كتاب ‘شموس على نوافذ مغلقة’ للشاعر خالد مطاوع والصحافية ليلى نعيم المغربي، وهناك كتاب شباب آخرون جيدون من عدة مدن ليبية لم يكونوا من ضمن متن كتاب النوافذ. وبخلاف ذلك، نحتاج في ليبيا إلى أن يقام معرض كتاب دولي بشكل منتظم، ودور نشر محترفة يمكنها تحرير وإخراج وتسويق الكتاب، فضلًا عن المهرجانات الثقافية والمجلات والملاحق الثقافية الجادة”.