نجا بأعجوبة من مشنقة النظام الليبي السابق
الحبيب الأمين: كتاباتي أزعجت القذافي ومهدت لرحيله
.
القاهرة – زيزي شوشة
.
هو صاحب قصيدة مفتوحة العوالم، متجمعة عند نقطة كتابة التاريخ الليبي، الذي يراه مشوهاً ومنسياً فيحاول التنقيب عنه وإحياءه من رميم الذاكرة المقتولة عن سبق إصرار وترصد، هكذا بدأ الحبيب الأمين الكتابة عن ليبيا شعراً، فهو دائماً ما يجرد الكلمات إلى أبعد حد ممكن، وعندما حاول أن يجرد الظلم والقهر من ظلامه ليجعله مكشوفاً ومرئياً للرأي العالمي زج به في السجن، فبعد أن كان حراً طليقاً يتغنى بالحرية وجد نفسه سجيناً من قبل القذافي بتهمة التحريض على الثورة، فعاش تجربة السجين والمثقف معا، وهي تجربة تحتاج الوقوف أمامها .
“الخليج” أجرت هذا الحوار مع “الحبيب الأمين” .
الحبيب الأمين، عشت تجربة السجين والمثقف معاً، فكيف ترسم لنا حياتك في السجن ولحظة ارتدائك بذلة الإعدام؟
– منذ اعتقالي قررت التعامل ببساطة مع السجن والحياة والموت، فأنا لست بمجرم أو سفاح ولم أدخل إلى هذا المكان إلا لكون صوتي ونصوصي قد أزعجت الدكتاتور ومهدت لرحيله، سجنت فقط لمطالبتي برفع الظلم عن الشعب وإتاحة حرية اختيار السلطة ودمقرطة المجتمع، وبصراحة شديدة عشت التجربة التي لم أكن أتمنى خوضها أو حدوثها، رغم شعوري باقترابها مني، فقرأت الكثير من النصوص عن سجن المثقف وعذابات السجناء ووحشة السجان، وفي اليوم الثاني على اعتقالي بسجن “بو سليم” دخل علينا حارس السجن، وقال لي أنت في حضرة المذبحة، في الحقيقة استغربت من عدم اكتراثي ببذلة الإعدام، وربما لم أهتم بها، لأنني كنت على قناعة بأن مواعيد الموت والحياة ليست في يد القذافي، في الزنزانة لا يوجد كمبيوتر ولا أقلام ولا ورق، فكنت أنقر على الورق المقوى الذي يغطي وجبة الطعام، وكنت عندما أحصل على مسمار صدئ لأكتب به كنت أحس بسعادة غامرة، كأنني اكتشفت الكتابة من جديد وأطلقت عليها الكتابة المسمارية، وبهذه الكتابة كتبت كثيراً من النصوص، وكنت أخشى من ضياعها أو مصادرتها لأنها تكشف عن حالتي النفسية وتعكس حالة التعاطي مع زمن الثورة وفعل الشعب، وبقدرة الله خرجت ومعي نصوصي كألواح مؤرخة لحضارة الحرف في الزنزانة وعلى أنقاض الجلاد، كما استطعنا داخل الزنزانة أيضا إقامة صالون أدبي للتغني بالحرية والثورة وبأغاني مارسيل خليفة، كان الأمل بداخلي كبيراً في أننا سننتصر وسنحصل على حريتنا وهذا ما حدث بالفعل، فبعد أن كنا سنعدم بأوامر مباشرة من القذافي يوم 1 سبتمبر/أيلول مع ألف سجين فجأة تهاوت القضبان أمام أفق لا محدود من الحرية والانتصار على الطاغية، وخرجت من السجن ولم أحمل معي سوى مفاتيح الزنزانة والأقفال التي وضعتها في إطار أسود في مكتبي .
كيف تصف لنا الحياة الثقافية الليبية أثناء حكم القذافي؟ ولماذا غاب المثقفون الليبيون عن المشهد الثقافي العربي؟
– الثقافة الليبية مرت بمراحل عدة، إذا تحدثنا عن العهد الملكي فسنجد أن الثقافة كانت إلى حد ما في أفضل صورة لها، على الأقل أفضل من الحالة التي تلتها، وأفضل من الحالة التي جاءت مع انقلاب القذافي، حيث كان المثقف متحرراً وقادراً على المبادرة وعلى الحضور والاختيار والتأثر، وكان أيضاً متفاعلاً ومتواصلاً مع المشهد العربي، فبعض مثقفي ليبيا في فترة الستينات والسبعينات كانوا على اتصال بالمشهد العربي حتى نشروا كتبهم في لبنان ومصر، وكانوا يشاركون في المؤتمرات الثقافية بلا مخاوف، بمعنى أنه لم يكن للسياسة ظل على الثقافة، وكان هناك عدد كبير من الصحف، وكان للجمعيات والتيارات السياسية وللأحزاب منابرها وجرائدها، بالإضافة إلى حركات القوميين العرب والبعثيين والماركسيين، كل هذا كان يحدث في فترة ما قبل نظام القذافي، وعندما أتى هذا النظام سرعان ما كشر عن أنيابه وبدأ بحملة قمع مباشرة للمثقفين، وبدأ بالاستماع إليهم فعرف منهم من هو معه ومن هو ضده، هذا الرجل “القذافي” أراد أن يجعل من الثقافة وسيلة للدعاية للثورة فقط ونظر إليها كعدو وللتنوير كخصم ولحرية الإنتاج الإبداعي الثقافي خطورة سوف تنعكس على مشروعه الثوري الفاشي لاحتكار السلطة، ولكنه للأسف نجح إلى حد كبير في تعطيل المبدع والإبداع في ليبيا، وأنتج ما نسميه بأنصاف مثقفين يتعاطون فكر معمر القذافي تحت ما سماه النظرية العالمية الثالثة والكتاب الأخضر، والغريب أنه كان يدعي اهتمامه بالثقافة، وعندما يذهب إلى الدول العربية يدعم المثقفين العرب ويزج بمثقفي ليبيا في السجون، ومن أسوأ ما فعله القذافي هو تحريم دخول الكتب إلى الجامعات بدعوى أن هذه الكتب تنشر الفكر الإمبريالي الهدام، كما قام أيضاً بتقليص عدد الصحف إلى ثلاث أو أربع صحف رسمية تعبوية، كأننا في حالة حرب دائمة مع العالم ومع الثقافة، وكان يكتب في هذه الصحف عدد معين من الكتاب الذين يتلونون بحسب ما يريد الخطاب السياسي لينتجوا الخطاب الثقافي، فعلى سبيل المثال عندما اختلف القذافي مع السادات ألزم مثقفي السلطة بتشويه مصر وثقافة مصر ومحاربة السادات، ولهذا كله غاب المثقفون الحقيقيون عن المشهد الثقافي العربي، حيث وضع أمامهم كل العراقيل التي تمنعهم من التواصل، فمثلا عملية نشر الكتب في ليبيا كانت عملية متعثرة ومحصورة بين مجموعة معينة من كتاب السلطة، ولذلك فقدت الثقافة الليبية ما يسمى بالمجايلة الثقافية، وهي أن يستلم جيل من وراء جيل وأن يحدث التحاور، فأصبحت ممارسة الثقافة في ليبيا أشبه بممارسه فردية وظلت الثقافة الحقيقية رهن عقول أصحابها، فبشكل عام الحياة الثقافية في ليبيا كانت لا تختلف عن مؤسسة هتلر الذي كان يديرها “غوبلز” فقط للتعبئة وللخطابات الرنانة .
هل كان هناك نضال من جانب المثقفين في ليبيا تجاه ما كان يفعله القذافي؟
– كان هناك نضال سلمي من جانب بعض المثقفين، فالعديد من مثقفي ليبيا تمت تصفيتهم، ولهذا غاب النص والاسم والكتاب الليبي، فلا نستطيع أن ننسى الكاتب والمثقف الليبي الذي قام القذافي بخطفه والتمثيل بجثته وتقطيع أصابعه، وهذه جريمة ليست عادية، ولكن الشيء المحزن أن أحد الكتاب الليبيين الذين يجيدون شد الشعرة بينه وبين السلطة قام في يوم الحادث نفسه بكتابة مقاله عن قضية سوزان تميم وهشام طلعت مصطفى، ويمكننا أن نذكر أيضاً المثقف والمبدع فتحي الجهمي الذي قال للقذافي ستؤدي بالبلاد إلى التهلكة، فمنع عنه الدواء في السجن حتى مات الرجل، وهناك الكثير من المثقفين الليبيين الذين هاجروا إلى الخارج وكتبوا ومارسوا حرية الفكر والإبداع مثل الروائي إبراهيم الكوني، وغيره من الكتّاب والشعراء والتشكيليين .
وما توقعاتك للمشهد الثقافي الليبي في الفترة المقبلة؟
– المشهد الثقافي الليبي بدأت تتغير ملامحه منذ بداية الثورة، فعندما تحررت بعض الأجزاء من ليبيا أصبحت هناك ممارسات فردية للفعل الثقافي ومبادرات فردية بإنشاء الصحف، حتى وصل عدد الصحف الآن إلى 180 صحيفة، فالمثقف الليبي الآن دخل في ورشة عمل مفتوحة، فهناك ندوات تعقد في كل المدن الليبية ومعارض فنية وأمسيات شعرية، وهذه الأجواء تتصاعد يوميا، فالحياة الثقافية في ليبيا يتم الآن إعادة صياغتها وفقا لاحتياجات المبدع، وهذا ما نريده وما يراه المثقف الليبي في حياته للمرة الأولى، فأصبح هناك وزارة الثقافة والمجتمع المدني وللمرة الأولى نسمع كلمة وزارة في ليبيا بعد أن حرمها القذافي، وهذه الوزارة تقوم بمجهود عظيم الآن ومن خلالها ستستعيد ليبيا مكانتها الثقافية .
الرمزية واستعادة الحدث التاريخي من أهم ملامح شعرك . . هل اعتمدت على الرمز حتى تهرب من مقص الرقيب أم لإضفاء قيمة جمالية علي النص الشعري؟
– استخدمت الرمز والتلغيز في بعض الأمور المتصلة بالسلطة، وأيضاً عندما أريد الحديث في أمور تحرج النظام، ولكن بطريقة جمالية وفنية، بحيث لا تكون فجة ومباشرة، فاستخدام الرمز يكثف من الفكرة ويضفي جمالا على النص الشعري، أيضاً استخدمت الأساطير بكثرة فكنت أعيد بها رسم ملامح الهوية الليبية المفقودة الغنية بالأسماء والأحداث، فالأسطورة يمكن أن توظف في الواقع من خلال الربط بين الماضي البعيد والحاضر، فلجأت إلى الأسطورة والرموز التاريخية لإسقاطها على واقع لا أستطيع أن أكون فيه مباشراً، وأيضاً إذا استخدمت المباشرة فسيفقد النص جماله، وفي الوقت نفسه أنا لا أؤمن بالتلغيز الكامل، بحيث يصبح النص مغلقاً على النخبة أو يصبح شكلاً تحريضياً إذا كان مباشراً، ولكنني لن أترك النص من دون أن أستودع فيه مفاتيح لفتحه، ولأنني أدرك أن شعبي يعاني من الاغتراب والاختطاف ومسح الملامح اشتغلت على العمق التاريخي، لأنني أريد أن يستعيد الليبي ذاكرته فهو يعيش على تراث كبير، ولكن للأسف جعلنا الدكتاتور مثل المغتربين البعليين كأن الزمن بدأ معه وسينتهي معه .
كنت مقاطعاً للوسط الثقافي الرسمي في ليبيا، فلا تنشر أعمالك في صحفه أو مجلاته، هل ساعدك النشر الإليكتروني على الانتشار الكافي؟
– قاطعت الصحف ووسائل الإعلام الرسمية لأن نصوصي كانت لا تحتملها السلطة، وأنا أيضاً كنت أرى أنه من الخزي والعار أن تنشر نصوصي في الصحف الصفراء، ولهذا ابتعدت عن السلطة تماما، كما أنني لست معني بالانتشار، ولكنني معني بالقيمة الحقيقية للثقافة، وإذا تحدثنا عن النشر الإلكتروني فسنجد أنه وازن الثقافة الليبية إلى حد ما ومكنها من التواصل مع العالم من خلال الإنترنت وثورة المعلومات، ومن خلاله أصبحت الثقافة عملية تفاعلية افتراضية ولكنها حقيقية، وأعتقد أن الثقافة هي القيمة وهي الحقيقة بصرف النظر عن الوسيلة التي نشرت فيها فهل يمكننا أن نرفض “ملحمة جلجامش” التي كتبت على الطين .
وما رأيك في الحركة الشعرية في وطننا العربي؟
– لا أنظر إلى الشعر كما ينظر إلى النظريات الإحصائية ومؤشرات البورصة العالمية، فالشعر كائن ينمو ويتطور وهو يعكس حالة حضارية ومجتمعية عامة وهو رهن بما يمارس على الشعوب من قمع ومن حصار ومن إبعاد المتلقي من خلال إشغاله بقضايا الخبز والماء، فسنجد أن العرب لم تؤسس لديهم ثقافة القراءة، لأنهم يفكرون أولاً في الطعام ومجابهة السلطة وبين مجابهة السلطة والطعام ضاع العقل العربي، والشاعر أو المثقف لا يستطيع أن يجبر مواطناً عارياً وجائعاً على البحث عن كتاب أو قصيدة، لأن السلطات نفسها أبعدت المثقف حينما جعلته صالونيا، فعندما نجد شاعراً يمتدح السلطان والمواطن لا يجد رغيف الخبز فسوف نكفر بالشعر، ولكن هناك شعراء دفعوا ثمن أشعارهم ودفعوا ثمن الحبر وقمعوا وقتلوا ولا تزال نصوصهم باقية، ولذلك فالمشكلة تكمن في الشاعر وليس في الشعر .
عن صحيفة الخليج
تعليق واحد
البظلم يستنزف اجاسدنا ولكن يكسبنا نقاوة الروح والصلأدة فى المطلب
من المعجبين بهذا الكاتب و المفكر ولكن تشردى فى الغرب لم يحالفنى الحظ بان نطلع
على قصائدة الشعرية ارغب فى الحصول على بعضها فكيف السبيل
ولكم كل الشكر والتقدير