المقالة

خارطة (ميراد) آمن!

.

فوق ربوة تطل على منحدر، في ناحية من نواحي الجبل الأخضر، وقف عجوز متكئا على عكازه متطلعا لعدد من رجال يرتدون ستر صفراء، ممسكين بقوائم قياس مسطرة، فيما يواجههم عن بعد آخرون منحنون خلف مناظير قياس ورصد. وبقربهم اثنان يتضاحكون يضع أحدهم نظارة طبية ذهبية يدفعها بين حين وآخر بسبابته لتعتدل فوق أنفه، وعندما انتبه ذو النظارة إلى العجوز، قال لزميله: “تعال نتسلى على هذا الراعي”. فاقتربا منه، فبادر ذو النظارة: “أهلا يا (حويج ) كيف الحال؟”. أجابه: “الحمد لله.. في خيار الخير “بدأ ذو النظارة يستعرض خفة دمه فقال: “يعني لم تسألنا عن سبب وجودنا؟ المفروض أنك تفطرنا (مثروده)، أو الأقل لبن وخبزة تنور، فلقد جئنا من المدينة لنخدمكم ! “أجابه العجوز: “لا يغلى عليكم شيء، لكن صحيح، لقد حاولت أن أعرف ماذا تفعلون ولكنني عجزت؟ “أجاب ذو النظارة ساخرا: “نريد أن نعبد لقريتكم طريق يربطكم بالمدينة.. فتستطيعون الذهاب إلى السينما كل ليلة ! “فرد العجوز متعجبا: “إياه !! كل هذه السيارات.. والرجال الصفر وجنابكم.. من أجل ( ميراد )؟ فقال ذو النظارة: “نعم وصديقي، أيضا، من اجل هذه المهمة.. إنه مهندس طرق كبير من البلدية.. كلنا من أجل راحتكم “ثم استطرد: “باهي، وأنتم ماذا تفعلون عندما تريدون تعبيد طريق؟ “أجاب العجوز: “بسيطه.. نطلق حمار من فوق الجبل ونتبعه.. الحمير شاطره في اختيار أفضل الممرات.. أو (الميراد) كما نسمونه “قاطعه المهندس متفلسفا: “وإن لم تجدوا حمار؟ “أجابه سريعا،وبهدوء: “ساعتها نأتي بمهندس مثلك! “فانفجر رفيقه ذو النظارة ضاحكا وقال: “الحمد لله.. أنا سائق ولست مهندس مثله!”

وعن الحمير، أراد المرحوم الشيخ زايد أن يتخلص من الحمير التي لم تعد لها وظيفة في مجتمع دبي الجديد، فأهداها إلى أرياف مصر ليستفيد منها الفلاحين، ولكن الحكومة المصرية، بعد أن علمت أن رجل أعمال مصري باع للأفغان، عن طريق الأمريكان ستة آلاف بغل، رأت بيع حمير دبي إلى الأمريكان ليستخدمها الأفغان بعد أن ثاروا على الروس، فاستفادت الحكومة المصرية، والأمريكان، والأفغان… ورجال الأعمال فيما ظل الفلاح المصري الذي لايملك مركوبا !! ينتظر حمارا أهداه له رجل صالح!

وهكذا هو الاقتصاد، وكذلك هي الثورة، أحيانا تسئ للناس، بنوايا حسنة، فالمرحوم الشيخ زايد أرسل الحمير إلى مصر بنية طيبة، ولكن الاقتصاد له رأي آخر فصارت بدلا من حمير منتجة، حمير محاربة.. والحرب دائما حرب مهما كانت دوافعها، ومهما من كانوا أطرافها.. والمهندس ذو النظارة الذهبية خيل له أنه سوف يتسلى بنية طيبة مع البدوي البسيط، فوجد نفسه مجرد حمار!

ومجلسنا الانتقالي (المؤقت) أراد بنية حسنة أن يمنح المواطنين مبالغ مالية، فأساء لهم، أيضا، بنية حسنة، فلقد أحس بعض الناس أن هذه الهدية، مثل قطعة الحلوى،التي يمنحها العامل في دكان لأبن صاحب الدكان.. فلا يحق لهذا العامل – أصلا – أن يمنح هذه الهدية من دون موافقة صاحب الدكان، الذي قد يرى أن ابنه يستحق قطعة شكولاطه باللوز مثلا، وليس مجرد (مصاصه). وصاحب ليبيا هو الشعب الحر الذي حرر البلاد، وهو الذي يقرر قيمة الهدية، بعد أن يفهم ظروفه وأرصدته، واحتياطيه المالي واستثماراته.. فقد لا يقرر الهدايا أصلا، أو يقرر أن يستلم كل مواطن مليون دولار، وذلك يعني مجرد ستة ملايين دولار، لا تقاس بالمئة والثلاثين مليارا، المودعة في حسابات القذافي، والستة ملايين، أيضا، لا تقارن بما يزيد عن مئة مليون خصصها المجلس لنفسه!! من دون موافقة صريحة من صاحب ليبيا، الذي لا ينبغي أن يٌصرف سنتا واحدا من دون موافقته في هذه الظروف الراهنة. وطبعا أصحاب ليبيا يعلمون أن رئيس المجلس ينوي زيارة فلسطين مثلا ، ويخشون أن يتهور في عطاياه، مثلما وعد دولة من قبل، ناسيا أن ما يحتاجه البيت يحرم على الجامع، وناسيا، أيضا، أن في ليبيا مواطنين يعيشون تحت خط الفقر وهم أولى بلحوم ثيرانهم! و يريدون، كذلك، أن يلفتوا عناية انتباهه: أن فلسطين دوله لها كوادرها ومؤسستها، وعندها إحصاء سكاني دقيق، وكل مواطن له بطاقة شخصية ليست مزورة، وكلهم يعرفون أراضيهم وحقولهم ومنزلهم.. وأن مستوى التعليم عال جدا.. وباختصار مكونات الدولة كلها متوفرة لديهم، وعندهم مهاجرين بامتداد العالم قادرين على تمويلهم.. أما نحن في ليبيا لا نملك إلاّ الستر والنوايا الطيبة أحيانا، وفوق ذلك بركة ،من عند الله، ومن عند عدد من الصلاح الذين لم يزعلوا، حتى الآن، من التطاول على أضرحتهم. فها حكومتنا التي تفأجئت بقرار السيد المستشار رئيس المجلس( المؤقت ) بمنح ( قطع الحلوى )، لم تجد – حتى الآن – نظاما يمكنها من توزيع هذه الهبات، لأنها لا تملك إحصائية دقيقة غير مزورة للسكان الليبيين!! أفليس المفروض أن ننتبه إلى الداخل ونبني مؤسساتنا، مثلما فعل المرحوم الشيخ زائد، الذي قال عندما طرابلس، بعد أن استلمها الطاغي الأوحد، سنة 1969م دولة حقيقية ملكية دستورية متكاملة: “أنه يتمنى أن تصبح دولة الإمارات مثل طرابلس” فأين ليبيا الآن، بعد اثنان وأربعون عاما، من الشارقة، أو من دبي مثلا؟ لقد اهتمت دولة الإمارات بتأسيس بنية تحتية للمكان وللإنسان، وبعد تجارب متعددة مع عدد من الدول قررت أن تعطي (العيش لخبازيه) فنضج الخبز فائح ومقرمش وشهي! بعدها التفتت نحو من اخوانهم في العروبة وفي الإسلام ، ثم إلى من يستحقون المساعدة.

لم يعد لي ما أقول؟ سوى أن أهمس في أذن من يصر على تولى أمرنا بالكامل، ولكن من دون الرجوع إلى صاحب ليبيا: أن الدولة، أية دولة،لا تبنى بتوزيع (لهيات) حتى وإن كانت من حلقوم ملفوف في ورقة ألف دولار! وإنما تبني بتخطيط متقن، وبعقول مؤهلة للقيادة، وتلك ملكة يوهبها الله لمن يشاء، ومع ذلك يتحتم عليه أن يصقلها بمعرفة التاريخ وبتجارب الآخرين الناجحة في بناء الدولة، وفوق ذلك كله ألاّ يسيء تقدير قدرات هذا الشعب العظيم على الملاحظة والاستنتاج واتخاذ الموقف.. وإشعال الثورة مرة أخرى! حفظ الله ليبيا وشعبها.. وطبعا مجلسها الانتقالي (المؤقت).. (المؤقت)!!

22/3/2012

مقالات ذات علاقة

رومنطيقيو المشرق العربي

المشرف العام

الكينج

منصور أبوشناف

صَرْحٌ مِنْ جهنم

يوسف القويري

اترك تعليق