صفحة: الكاتب يوسف القويري- من مفكرة رجل لم يولد
كتب في دفتر مذكراته الأصفر: “أتاحت لي الظروف أثناء خمسين سنة مضت أن أحطَّ الرَّحال في مدن وقرى وسهوب فطرية قاحلة لا تنبت سوى الصبار الأركن، وأن أرى بحاراً، وأنهاراً وجبالاً، وبراكين خامدة، ومباني بطرز معمار كثيرة في أرجاء هذا العالم الفسيح. ولم أشعر قط في أي وقت من الأوقات بأنني سائح أو غريب يتعرض بسبب مفارقات السلوك العفوية لفضول مؤذٍ، فالعيون من حولي سادرة في إنشغالها الخاص، ذاهلة عني وعن أي فحص أو إستهجان معقود اللسان، حتى لو كانت معظم تلك البلدان التي زرتها وتجولت في أرجائها تتكلم بلغات ولهجات وإشارات لا أعرف عنها في معظم الأحوال – شيئاً – فلغات العالم كثيرة جداً وتُعدُّ بالآلاف، إن بعض ما يبدو لنا نابياً أو ناشزاً أو معيباً، به قليل من قلة الحياة، يكون في مجتمع آخر مقبولاً، بل معقولاً جداً وعادياً كنمط سلوك يكتسبه المرء الأصلي بالتربية، أو يحكيه شخص آخر أقام وسط بيئة ما لفترة طويلة.
لقد جدبتني سجايا الآخرين وزجت بي في تيارها الدائم فكأنني واحد منهم، في أي بلد متمدن أدخله بلا مفتاح ألسني يُعتَدُّ به، وهو الأداة الضرورية المعهودة للعلاقات بين الإنسان وأخيه الآخر المجهول، لكنها بالنسبة لي سجايا مأنوسة كالسحاب الأبيض، والزرقة الشاسعة في الأغالي، ونزق العصافير أثناء طيرانها الرشيق. لذا ظلّ إحساسي بالأنس والألفة بين أقوام وبيئات وحضارات لم أعايشها قبلاً حقائق موضوعية آتية من خارج النفس تلازم تلك الرحلات وتمنحني إطمئناناً وبهجة لا سبيل إلى وصفهما، فأقصى ما يمكن أن يقال عنهما هنا إنهما أقرب إلى الحس بالمؤثرات الكونية كبهاء تلألؤ النجوم وإنتثارها في ليل الريف، أو ألوان قوس قزح ذات يوم مطير، أو بريق وجه البدر فوق الشجر، هي حقائق مستقلة تشعّ بالدفء ونداء الإنتساب الخفيّ الممنوح دون صوت، دون لغة أو إشعار ثاقب قوي التنبيه، أو أية مسحة رسمية متشنجة أو مصقولة، وبعبارة أخرى هي إنثيال سجايا غائرة كمياه ينابيع الأرض العذبة تسيل من الأعماق بلا إنقطاع.
كنتُ في مدينة “كاتانيا” الإيطالية زائراً خلال عقد الستينيات من القرن الماضي، وهي واحدة من كبريات مدن الجنوب في سيشيليا أو “صقلية”. وقتئذاك كان يواجهني بركان “أتنا” الشهير الذي يبلغ إرتفاعه الإجمالي عشرة آلاف وسبعمائة وخمسة وخمسين قدماً، بقمة مخروطية الشكل يصل علوها إلى نحو ثلاثة آلاف قدم، وتمتد قاعدته على مساحة 460 ميل مربع، ويشبه بركان “أتنا” بهيئته العامة جبلاً يطل على المدينة الحسناء المبقعة بالكربون الأسود.
لاح لعيني العابرتين كأنه صرح وثنيّ هائل الحجم ينتسب إلى عصر سحيق في القدم، من عصور ما قبل التاريخ لم يكن فيه الفنانون العظام قد ظهروا بعد ورصعوا الحضارات الوثنية الأكثر تطوراً بتماثيلهم البديعة، فبدأ “أتنا” كإله أو وثن أو نصب بدائي فظّ، خشن، غشيم التشكيل، نساه المؤمنون المسيحيون الأوائل، أو أن أجيالاً أخرى تركته باقياً كأثر أو علامة غابرة للمشاهدة.
لقد ثار البركان مراراً على مدى تاريخه الطويل ولايزال، فهو ليس من صنف البراكين الميتة.إنه بركان خامد مؤقتاُ، لكنه ينطوي على مفاجأة الثوران في أية لحظة حيث يقذف من فوهته الصخرية القاسية حمماً من الأحجار اللاهبة، ويفيض على أشداقه الوحشية سائل غروي القوام من نار الصهير أو “الماجما” التي تذيب في إندفاعها على السفح المنحدر صوب المدينة كل ما يصادفها من مبان أو زرع أو بشر.
مكثت في “كاتانيا” بضعة أيام رافقها القلق، فقد سبق أن كدر خاطري ما رأيته من نافذة القطار في محطة “كاتانيا” قبل النزول إلى المدينة، حيث بدت لي هامة البركان بقمته الشامخة تنفث من فوهتها خيطاً رفيعاً من الدخان الأبيض الثقيل الضارب إلى اللون الرمادي يتصاعد إلى عنان السماء دون أن يتلاعب به الهواء. وكانت تلك الإشارة الرديئة كافية كي أفهم على الفور أن جوف البركان شرع في الإحتدام، وأنه يوشك – بعد زمن غير محدد – على إطلاق زفيره التالي المدمر.
وكان نطاق التدمير المتوقع الناجم عن قَيٌء الصخور والمعادن المنصهرة هو ما يشغل بالي ويدفعني إلى التساؤل ومراكمة إجابات مختلفة. فخلال إقامتي في المدينة عرفت أن هناك قرى ذات حقول يانعة مترامية عند سفح البركان، آهلة بعدد كثير من الناس. وقد هالني هذا الأمر، وتعجبت من بقاء أولئك الفلاحين بالرغم من الخطر المحدق بهم في نفس مراتعهم.
قال لي رجل إيطالي جاوز الخمسين من العمر، وهو يزيح كأس “الشانزنينو” ببطء على القماش البنفسجي لمنضدة المقهى الروماني الكبير ملتقطاً حبة زيتون سوداء من طبق خزفي صغير:
– تسألني عن الفلاحين؟!.. إسألني عن الحكومة ! هل تظن معي أيها الغريب أنها قد تتقاعس؟! ماذا سيفعلون الآن؟! أوه.. ماذا سيفعلون !؟ لا أعرف ما بوسعهم صنعه اليوم وغداً وبعد غد !!
ثم ناولني سيجارة فاخرة وشرد بعينيه مستطرداً يقول:
– على أي حال لن أُهمل سؤالك ! ظهيرة أمس كنت عند سفح الجبل. هذه هي عادتي بين الحين والحين. فأنا لا أذهب كل يوم لإحضار بعض لوازم البيت، هناك صنف من الخضروات أكثر طزاجة عمّا يتوفر في أسواق المدينة.
إنه يأتي رأساً من الحقل، وفوق ذلك فأنا أحب السوق المحاط بالحقول، قل لي:
لماذا؟! أقول لك: الهواء في الريف نقيّ تماماً ولا يحوطه الأسمنت من جميع النواح.
والمسألة بكاملها فيها تسلية وترويح عن النفس، فحينما أسافر إلى الريف القريب لا أكون مسرعاً، إنني أقود سيارتي الصغيرة على مهل والإنتعاش يغمرني وقتما أجيل النظر في المدى الخالي من الحيطان، وأردد ما قاله الرسام الشهير “بيكاسو” : بعد جولة أعود مفعماً باللون الأخضر.
قلت:
– بلا مجاملة، إن أسواق “كاتانيا” نظيفة، وفيها كل شيء !
عندئذ إلتفت الرجل الإيطالي الوقور إلى صديقي الأوروبي الذي يدرس اللغة اللاتينية في روما ويجيد الإيطالية وقليل من العربية ويقوم بعبء الترجمة في مزيج من الإنجليزية والعربية وقال لصديقي هذا بعد برهة صمت:
– في الواقع لا يوجد كل شيء في سوق خضراوات “كاتانيا” فهناك أصناف إما لا تستجلب إطلاقاً، أو أنهم يأتون بالقليل منها وفق قانون العرض والطلب، فالخضروات الشائعة والأساسية موجودة طبعاً وأنواعها كثيرة والطلب دائم حولها، لكن ثَمَّةَ خضروات لا تلقى إقبالاً فتكون غير رائجة، فهي إذن قليلة جداً أو غير متوفرة بالمرة، والفلاحون بدورهم لا يزرعون تلك الأصناف التي أعنيها بنفس القدر الذي يزرعون به المحاصيل الأخرى التجارية المطلوبة سواء في أسواقهم الريفية أو في أسواق المدينة.
ثم أبتسم مواصلاً حديثه وقد إلتفت نحوي بوجهه من جديد:
– لم ألاحظ ظهيرة أمس ذلك الخيط الرفيع من الدخان البركان، إلا أنه بعد الإياب إلى المدينة قيل لي إن “أتنا” أطلق نفثة طويلة من البخار، ولابد أن الفلاحين وهم بقرب البركان أو عند أطراف سفحه قد لاحظوا ذلك بطبيعة الحال، لكنهم في جميع الظروف وكما كانوا دوماً يستقبلون تلك الإشارات المخيفة دونما توتر أو جزع أو إرتباك. إنهم رابطو الجأش بتأثير المعتقدات، ولن تجد فلاحاً بفزعه خيط دخان أو نفثة بخار ساخن حتى لو كانت صادرة عن بركان ينذر بعواقب وخيمة.
فقلت متأثراً:
– هل ضاقت بهم الدنيا فلم يجدوا مكاناً في طول الجنوب الإيطالي وعرضه سوى سفح بركان أو على مقربة من بركان لا يمكن الإطمئنان عند تخومه الملآنة بالمفاجآت؟!
قال صديقي الأوروبي:
سمعت هذا الصباح أن إجراءات نزوح مؤقت للفلاحين ستتخذ على وجه السرعة من طرف الإدارات المحلية المسؤولة.
إعتدل الإيطالي في جلسته قائلاً بهدوء مثير:
وبالرغم من ذلك سوف يبقى بعض الفلاحين هنا ولن يبارحوا حقولهم مهما قيل لهم عن الأخطار المحتملة. وأنا لا أدري هل سيفعلها البركان أم سيكتفي بزفرة أو زفرتين ثم يهمد!
إقتربت بمقعدي وتفرست لهنيهة في ملامحه النبيلة التي تشبه وجه القيصر المسيحي الطيب “قسطنطين” ثم قلت:
– يتراءى لي أن عائلتكم الكريمة من أصول ريفية ..
فقاطعني قائلاً:
نعم !.. هذه فراسة صحيحة، فجدتي من عائلة ريفية، ووالدي رحمه الله من مدينة “باليرمو” هذا تاريخ قديم، لكن أسرتي الآن ومنذ زمن بعيد تقيم في “كاتانيا” فنحن أهالي هذه المدينة.
أردفت راسماً بكلتا يدي مخروطاً في الهواء:
– إنه الصرح الجهنمي ينتصب جاثماً على التربة خلف المدينة تماماً، موحشاً تحت ضوء القمر، وهي قرب الوحش، هذه الحسناء “كاتانيا” الكئيبة الملطخة بالكربون، جاثية عند قدميه الصخريتين كمن يتضرع أو يطلب المغفرة. وقاكم الله جميعاً، إنني أتساءل بالضرورة: لماذا أختير هذا الموقع بالذات لتشييد المدينة عبر الأزمنة بجوار طود من الجلاميد والنار، ألا يقبع الخطر الداهم وراء حياتكم الآمنة إن إصطخب البركان وجُنَّ جنونه على نحو أعنف من كل سوابقه فإندفعت سيوله المهلكة لتطمر الجميع.
سارع الرجل الإيطالي بالقول:
– لا يظن أحد من الناس ومعهم الإختصاصيون الجيولوجيون بأن بركان “أتنا” سوف ينفجر على الغرار المأساوي المروع مثل بركان “فيزوف” الذي دمر مدينة “بومبي” الرومانية الشهيرة قبل عدة قرون وأحالها أثراً بعد عين.
كنا نصغي بفائق الإهتمام حين أكدَّ برنة خاصة:
– إن “كاتانيا” بمنجاة من ذلك المصير الفظيع الماحق لأن بنية البركان وطاقته المدروسة لن تسمحا له بإيذاء شامل.
قلت على الفور معارضاً:
– لكن الخطر الحقيقي يهدد الفلاحين وينبغي عند أدنى بادرة إضطراب في جوف البركان مسارعة الجميع لتنوير الفلاحين ودرء الخطر عنهم وإنقاذ محاصيلهم ومواشيهم.
فقال بنبرات خافتة:
– بالنسبة للفلاحين عند السفح لا يمكن لنا الإستهانة بالخطر، فهم بكاملهم عرضة للهلاك والإنطمار، بل قد تصل بعض مقذوفات البركان إلى الأطراف الخالية أو المأهولة من المدينة، بيد أن هذذا الإحتمال المهدد لضواحي “كاتانيا” ضعيف جداً ولا يقارن بالخطر الشديد الوارد بصدد السفخ وقراه.
وبينما كنا نتهيأ للإنصراف من المقهى إذ بسيارة “فيات” صغيرة، حمراء اللون ذات سقف جلدي منطو إلى الخلف تتوقف بمحاذاة الرصيف وتخرج رشيقاً من بأبها فتاة في ريعان الصبا تلقاها بالعناق فتى حسن الهندام ، وديع القسمات، ثم استغرقا فيما يبدو أنه قُبْلَة طويلة حجبتها خصلة من شعر رأس الفتاة.
وأثار المشهد فضولي فقلت برنة إمتعاض شرقية.
– لابد أنها أخته عائدة لتوها من مهجر الدراسة أو أنها خطيبته بعد غيبة!
فقال الإيطالي الوقور بقلة إكتراث وهو يختلس النظر:
لا تهتم بهما !.. وعلى أي حال هذا أفضل من التليفزون !
فابتسمت ونحن نغادر المكان، وكان صديقي الأوروبي مأخوذاً بالنظر نحو جزء هيكل البركان البعيد البادي من فرجة الفضاء بين مباني “كاتانيا” القريبة، العالية.
نشرت في أحد أعداد مجلة المؤتمر سنة 2007