المقالة طيوب عربية

رومنطيقيو المشرق العربي

عمر أبوسعده

رومنطيقيو المشرق العربي.. حازم صاغيّة
رومنطيقيو المشرق العربي.. حازم صاغيّة

بعد أن أخذ على عاتقه في كتابه الأخير (الانهيار المديد) التوثيق للخلفية التاريخية التي اندلعت على إثرها انتفاضات الربيع العربي؛ آثر حازم صاغيّة في كتابه الأحدث هذا، أن يقوم بجردة حساب طويلة ودقيقة وقاسية، لمُجمل الأفكار والمعتقدات السياسية والثقافية والفكرية، التي ضجّ بها المشرق العربي (بين العراق ومصر)، والتي يعود انبعاثها إلى عصر التنظيمات والإصلاحات العثمانية، قبل أن تشتد لاحقا عقب انهيار السلطنة، وما جرّته من تبعات وتفسّخات، ما فتئت تتوالى، عقب كل حدث سياسي تشهده المنطقة.

ومنذ العنوان، يتبدّى حكم الكاتب على أصحاب هذ المسيرة الطويلة والمؤلمة من الأفكار والتصورات، أنها مجرد “رومنطيقيّة”.

يبدأ الكاتب مجلّده بتنبيه مهم، يوضّح فيه مراده: “[هذه الصفحات] لا تقول إن “كلّ” الفكر والإبداع السياسييْن العربيّيْن من صنف رومنطيقيّ، وطبعا لا تقول إن “كلّ” النتاج الرومنطيقي، ولا سيّما في الفن والأدب، مُدان أو رجعيّ أو متخلّف. شيء آخر لا يقوله نقدُها للرومنطيقية، هو تمجيد المبالغة في التجريد العقلاني، أو محو كل أثر خاص في تجربة بعينها، ومن ثم نزع بعض ما هو إنساني أو حميم في حياتنا، وتاليا تحكيم العنف “العقلاني” الذي يُناط به “تصويب” الخطأ في العلاقات الاجتماعية وفي السياسة … مع ذلك تقول تلك الصفحات إن أحد تيارات القوية في الفكر والإبداع السياسييْن المشرقيّين رومنطيقيّ متطرف ومتصلّب، وإن هذا التيار أكثر تيارات هذين الفكر والإبداع نفوذا وتأثيرا، من غير أن يُنتج تلك الأعمالَ الباهرة التي سجلتْها الرومنطيقية الأوروبية. فـ”الإنكار”، بوصفه رفضا للاعتراف بواقعية ما هو واقع، يحتل موقع القلب من هذا التيار، وكلما صُفعنا بالواقع، كما هو، وكلما كانت الصفعة مؤلمة، تصاعد الإنكار ليغدوَ هذيانا”.

هذا عن المنهج، ولكن ما هي الرومنطيقية المقصودة هنا إذن؟!

يعترف الكاتب بصعوبة القبض على تعريف دقيق لها، وبالتالي بناءُ تحليل عليه. لكنّ المؤكد هو أن منابعها أوروبية، وفي القرن التاسع عشر تحديدا، رداً على عقلانيّة وتنويريّة القرن الذي سبقه.

هذا الرد تضمن سِمات جمعت بين كل الرومنطيقيات اللاحقة، على اختلاف جغرافيّتها، ومصادر وعيها، وبواعث نشأتها وظروفها التاريخية. مما “أحدث نظاما في النظر والتأويل، جرى بموجبه تغليب الأصلي والطبيعي الذي يكون متوهَّما، على المصنوع. وتغليب العاطفة على العقل. والثابت الماهَويّ افتراضا على المتحوّل. والقرية على المدينة. والوحدة على التعدد. والجذور على الآفاق.

القرية. الطبيعة. الأرض. الصوفية. الوحدة. القوة (والجيش). الأمة. الجذور. البطل. الذات ومبادرتها، بدل العقل والعلم والعالم. لا بل تمجيد الذات، ولو في بعض الأحيان عبر توكيد معاناتها ومظلوميتها واستعدادها للفناء (لو لم تكن عظيمة لما ظُلمت أو تعرضت للتآمر). هذه هي وحدات الوعي الرومنطيقي المقصود في هذا الكتاب، التي تقف بالتضاد مع التنوير والرأسمالية ومع وحدات وعيهما: الفرد الذي يصنع نفسه. الكونية. الحداثة. المدينة. العلم. التقدم. الديمقراطية. التجربة والتجريب ..الخ. ومثلما كان التنوير والرأسمالية الشيطان الذي استهدفته الرومنطيقية في تجربتها الأوروبية، كان “الغرب” ذاك الشيطان في تجربتنا العربية، أو أقلّه في المشرق الذي تتناوله هذه الصفحات”.

وبعد تحديد المُراد، ونفي التوهّمات، يشرع الكاتب منذ ثاني فصوله في تقصّي مسيرة الفكر العربي، الذي سنرى أنه متخَم بالرومنطيقية، على اختلاف تلاوينها وتمظهراتها. فخلال 10 فصول -من غير احتساب الأول- تمتد رحلة البحث عن بدايات نشوء الوعي الرومنطيقي منذ نهايات الدولة العثمانية بإصلاحتها وتنظيماتها وحروبها، وصولا إلى انهيارها وتأسيس الجمهورية التركية على أنقاضها.

ثم الصراع على الزعامة المشرقية، التي ورثت الوعي الرومنطيقي الألماني من العثمانيين.

 بعد ذلك استعراض مآلات القضية الفلسطينية، التي تتجلى فيها وعلى نحو صاخب وبائس، أعلى مستويات الهذيان الحالم.

وبما أن إسلاميي السنة والشيعة كانت لهم إسهاماتهم الغنيّة والمؤثرة في رفد الرومنطيقية بالبُعد المقدّس، فقد أفرد لكل منهما فصلا خاصا به، الأولون ممثَّلون في سيّد قطب، والآخِرون في الخُميني.

ثم يأتي دور الماركسيين والشيوعيين.

فحداثيو الأدب الرافضين للحداثة (يحضر أدونيس كمثال فاقع).

ثم لما يصفه الكاتب بـ”جائحة نقد الاستشراق”، التي بدأت عالى يد إدوارد سعيد بشيء من الاضطراب والمغالطات، لتصل إلى وائل حلاق، الذي أخذ على عاتقه “تنقية” كل ما شاب النظرية من “براءة”.

فوقفة مطولة وجريئة مع مفهوم الطائفية وأنماط تشكلاتها ووظائفها، كما صاغها بعض الكُتّاب (عزمي بشارة، أسامة مقدسي، ميشال سورا وغيرهم).

ثم الختام مع “إغلاق الدائرة”، حيث المدى الانفجاري الأقصى الذي وصلت إليه الرومنطيقية العدمية، في رفضها للعالم: داعـش.

ولأني من القراء المواظبين لما يكتبه حازم صاغية، من كتب ومقالات، لا أجدني متفاجئا من صراحته بل شجاعته، ولا مذهولا كذلك من سعة اطلاعه وجلَده البحثي، وتنبيهاته واستدراكاته الدقيقة في المتن أو الهامش، إلى جانب موهبته اللغوية الفذّة، التي أضافت لرصانته البحثية، بُعدا أدبيا، يُوظِّف بمهارة، السرد البليغ في التنقل عبر محطات الأفكار، وتواريخ الأحداث. أما موافقتي على ما تضمنه الكتاب، ففضلا عن قصوري عن الإحاطة بمادة الكتاب الضخمة من كافة جوانبها، فأنا ابتداءً من المعجبين بفكر حازم، ورؤيته للأمور، بحيث يتعذر معه أيّة ملاحظات أو تحفظات، مما يمكن أن يحدث مستقبلا.

أكثر من ذلك، فأنا أعتبر هذا الكتاب، إلى جانب كتاب الراحل جورج طرابيشي (المثقفون العرب والتراث: التحليل النفسي لعُصاب جماعي) من الأعمال التأسيسية بالغة الأهمية، لفهم أصول الثقافة والفكر العربييْن، وإدراك كيفية اشتغالهما، والنزَعات التي تصدُر عنهما وتصدِّرهما في آن.

وإضافة إلى النقد، فإن ما يدعو إليه صاغيّة هنا، الدفاع “عن التطابق مع الواقع ومع العالم، والربط بين تغيّرهما باتجاه أكثر ديمقراطية وحداثة وتقدّما وعدالة بالإمكانات والأدوات التي يوفرها هذان الواقع والعالم”.

على أنني أزعم كذلك أن هذا الكتاب بنقديّته اللاذعة، التي نهشَت كثيرا من المحرّمات، وأطاحت بمعظم -إن لم يكن كل- المقدسات الفكرية في السياسة والثقافة العربييْن؛ لن يروق لكثير من القراء، لا سيّما منهم الشباب، الذين يُتوقع احتضانهم لكثير من الرومنطيقية الفكرية “الخلاصية” على اختلاف وجهاتها. كذلك ربما لن يروق لقطاع معتبر من الشيوخ، الذين تشبّع وعيهم، وتشرّبت أدمغتهم، بكثير مما يهجوه الكتاب، لذلك فإن قراءته ستكون في أقل الحالات “مزعجة” لهم.

في نهاية جرده الطويل والمديد، يختم حازم صاغية مجلّده بجملة مكثّفة ذات وقع درامي: “يمكن القول إن “داعش” ومُشابهيه [قوميون وماركسيون وإسلاميون وما بعد حداثيين] أغلقوا الدائرة الرومنطيقية على سكان المشرق العربي إغلاقا مصبوغا بعنف كثير وابتذال أكثر. أما أن تنكسر هذه الدائرة في وقت ما، في مكان ما، فأوّل شروطه أن ترحل الأنظمة السياسية، وتصطحب معها عددا هائلا من الأفكار والقناعات والولاءات التي تحكّمت طويلا بأهل هذه المنطقة”.

مقالات ذات علاقة

مخاض الإبداع في عتمة الزَّنازين

المشرف العام

تحولات المعنى الوجودي في أنساق الحياة

إبراهيم أبوعواد (الأردن)

هرطقات ليبي معزول (9): الشوارع والأرقام والاسماء

مصطفى بديوي

اترك تعليق