محمّد نجيب عبد الكافي
… بناة الإقتصاد
لو قلت إن الثقافة لبنة من لبنات صرح الإقتصاد لضحك منّي الكثيرون، بينما قولي هو الحقيقة أو على الأقل ما يقرب منها. فالثقافة ما هي سوى مجموعة أو خليط من العلوم، والمعارف، والأقوال، والأساطير، والتقاليد، والعادات، وما يأتي من كلّ ذلك من تصرفات وأخلاق وآداب، كبير غزير هذا الكنز الذي يحتاج، ليعطي فوائده، انتشارا على أوسع نطاق، ولا يتمّ له ذلك إلاّ بوسائل مثل الكتاب والمجلة والصحيفة والنشرة، وهذه الوسائل تحتاج بدورها لمن يقوم بها فيأتي دور الناشر، الذي سيحتاج هو أيضا إلى مطابع ووسائل توزيع لتصل المنشورات الجماهير عبر نقط عرض وبيع، فإذا هي المكتبات. مكتبات لا تمطر بها السماء، بل لابد من عارف مبادر وَلُوع بالثقافة والمعرفة، فيُقْدم، أو يغامر أحيانا، فينشئ المكتبة، وإن سارت أموره سويا وسّع نشاطه ليغامر مرّة أخرى، فيطبع ويصدر ما أنتجه الكتاب والشعراء المحسنون أو حتى المبدعون . أليس من الإنصاف والحالة هكذا، بأن يحشر مؤسّسو المكتبات ودور النشر في إطار بناة الإقتصاد، خاصة إذا كانت مساعيهم وإنجازاتهم بدأت من عدم، في بلاد فقيرة تحاول أن تقف، لتستطيع السير نحو ما يطمح له بنوها، ومنهم أصحاب المكتبات ودور النشر، من عز ورفاه وتقدم وسؤدد؟ عرفت، وهذا من حسن حظي، رائدين غامرا ونجحا وبقيت أعمالهما بعدهما تثقف وتنير، وهما في العاصمتين، بنغازي المرحوم محمد بوقعيقيص، وطرابلس المرحوم محمد البشير الفرجاني.
● الفرجاني
هو المرحوم محمد بشير الفرجاني الذي ضاقت بطموحاته فصول التدريس التي عمل بها منذ عام 1949، رغم إيمانه بنبلها وبأهمية عمله فيها، لكنه أبى إلا أن يكون إشعاعُ عمله أوسع نطاقا وأكثر فائدة، فغامر وأنشأ عام 1953، نواة مكتبة بدأت بتوزيع الصحف، ثم أخذ شيئا فشيئا يؤثثها بما يفيد من الكتب ليُقْدِم بعد ذلك، بكل جرأة وحزم، على نشر ما ينتجه إخوانه الليبيون من رواد الأدباء منهم عبد القادر بوهروس، وخليفة التليسي، وحتى التونسي صديقنا الأديب الباحث أبو القاسم كرّو الذي كان مقيما بليبيا. سارت المكتبة ودار النشر رويدا رويدا، حتى أصبحت منارة بطرابلس، ارتبطت بذاكرة القراء بما نشرته من مؤلفات تعنى بليبيا وتاريخها وتراثها الفكري”، كما كانت قبلة الباحثين والقراء، وملتقى حملة القلم والمولعين بالقراءة والمطالعة. سعدت بمعرفة هذا المناضل في سبيل الثقافة ونشر المعرفة، ويسعدني أن أرى ينيانه واقفا صامدا على راسه أبناؤه الذين حملوا المشعل بعده عن جدارة واستحقاق.
● بوقعيقيص
كان عليّ أن أقدّم هذا الرائد قبل الآخر لسبقه وتقدمه في المغامرة بإنشاء مكتبة ببنغازي عام 1920 والبلاد تشكو الإحتلال الأجنبي، والفقر، وجروح الجهاد، لكنه رحمه الله آمن بالثقافة والكتاب، فبادر فكان الرائد وقائد الطليعة. عندما زرت العاصمة الثانية بنغازي عام 1955، وأنا حديث العهد بليبيا، سألت عن مكتبة فقيل لي عليك بمكتبة بوقعيقيص بميدان الحدّادة. قصدتها فإذا هي، كما قال عنها السيد عبد السلام الزغيبي: “مركز ثقافي ومنتدى المثقفين”، مكتبة عامرة كاملة يسهر عليها صاحباها السيدان عمر ومحمد بوقعيقيص، فجعلا منها منهلا بما في الكلمة من معنى، يرتوي منه ضمأى العلم والمعرفة. لا أغادر بنغازي قبل ذكر ما لم يكن متوقعا في تلك الأيام والظروف وهو المكتبة المتنقلة أو المتجولة بين الأحياء والشوارع مقدّمة الكتب بأسعار زهيدة والتي، رغم حرصي واستفساري، لم أجد من يفيدني بمن وراء هذه الفكرة الرائدة المفيدة.
● الفكر
سريعا ما سرت العدوى فإذا بشابين هما صالح الشريف وأخوه، يفتحان بطرابلس مكتبة ثانية، تحركها روح وأفكار شابة، جعلت محتواها من المؤلفات يستجيب إلى ميولات وأفكار الشبان قبل غيرهم، مما دفع بي وبتفكيري في تلك الحقبة، إلى تسميتها مكتبة اليسار، وهذا يعني أن الأخرى مكتبة اليمين، وهو ما كان يضحك الأصدقاء، لأن كلتاهما لم تكن لهما غاية سوى سد حاجيات المجتمع المتزايد ثقافة وتعليما وشغفا بالقراءة والمطالعة، فكانتا وما زالتا عند حسن الظن، ومثلهما مكتبة محمد البرّي بمصراته، التي زرتها وحادثت صاحبها رحمه الله.
أتت الريادة أكلها فتطور القطاع ونما، ولا أدلّ على ذلك إلا ما نشاهده اليوم من وفرة ونوعية أذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر، مكتبة قورينا ببنغازي لصاحبها السيد عبد المولى لنقي، الوطني الغيور والوزير الأسبق، ومكتبة ودار النشر الرواد بطرابلس لصاحب الخبرة والتجربة السيد سالم سعدون بطيخ. وهكذا من سار على الدرب وصل.
بالذاكرة المزيد فلي عودة إن طال العمر.