6
بين الوعي والكتابة ثمة جسر، الوعي يتخلق من خلال القراءة والبحث عن أجوبة تدور في العقل، الكتابة قد تنشأ من خلال محاولة المشاركة في إبداء رأيك ولكن (الموهبة) تمنح الكتابة ذاك الرواء والطلاوة، هل منحتني القراءة الوعي وفتحت أمامي أبواب السؤال، أم أن أسئلتي وبحثي هي من قادني إلى ضفة الكتاب كي أعرف، ربما لأن الوقت الذي نشأت فيه كان وقتا لتكريم العلم والمتعلم والافتخار به، (لحقت على أيام باهيات في التعليم والمجتمع) كنت محظوظة بمجموعة المعلمات الرائعات: (أبلة نوارة وأبلة اعجيلية وأبلة حليمة وأبلة نجية وأبلة ربيعة. وأيضا أبلة “جمالات” من مصر).
وأن تنتبه معلمة العربي لموهبتي باكرا، وتثني عليها، وأن أكون تلميذة مجتهدة ومهتمة بالعلم، لكن لأعترف لم أكن أهتم بأن أكون الأولى أو أتفوق حتى لا يغلبني أحد، ولا أبكي على درجة ناقصة، كنت أؤدي واجباتي وأدرس وأنجح، وعلمتني أمي أخلاقا رفيعة: لا أعيد كلاما ولا أنقل للبيت ما حدث في المدرسة، وأن أمضي في الشارع لا التفت يمينا أو يسارا، فقط أهتم بالطريق الذي أسير فيه وبخطواتي، وهذه الأم الرائعة كانت حكاّءة طفولتي.
حناي “فاطمة”، أمُّ أمي، كانت مريضة هذا ما أتذكره منها، جميلة جدا بضفيرتها الناعمة الطويلة بخديها الحمراوين وأنفها الدقيق وعيونها السوداء الواسعة. وما أذكره هو رقودها في فراش، وأمي قربها وأنا أجلب فنجان قهوة وأمشي، بهدوء خوف أن أتعثر، أما حناي “صالحة” أم أبي، فهو شخصية عملية، أذكر مشاويري معها كي أؤنسها في ذهابها لمكانين؛ مستوصف (ما طور الشبو)، والذي كان بعيدا عن السانية كثيرا جدا، نقطع المسافة على أقدامنا، جدتي “صالحة” تحب الذهاب للأطباء وتحب ذاك الطبيب اليوناني، والذي تدعو له كلما خرجنا من عنده (إن شاء الله تموت وانت مسلم)، فيرتفع ضحكه ويرتج جسمه المتين، وأيضا مستوصف (الهجارسة)، والذي في الطريق إليه (مصنع البرمبخ)، حيث أساعد جدتي في جمع تلك الخيوط الملونة والناعمة كي تحشو بها المخدات و(المنادير).
ولكن ما أحفظه في ذاكرتي عن جدتي “صالحة” هو احتفاظها بتلك الأشياء الثقيلة على رأسها (عصابة حمرا)، يتدلى من جانبيها أطواق فضة وحيث تماما في وسط الرأس تلك الدائرة الفضية والتي ستتدلى منها الخيوط التي ستمسك بقطع الفضة من الجانبين، هذه الدائرة التي ستترك جدتي صلعاء من الوسط، ولا أتذكر متى تخلت جدتي عن هذه الأشياء، دائما في لحظة من نمونا نكتشف اختفاء أشياء كانت موجودة ولم ننتبه ما الذي حدث؟ هذه سنَّة التطور.
إذا أمي التي لها عائلة كبيرة، ومثل كل امرأة في ذاك الوقت تشارك في أعمال (السانية) من سقي وحصادة وغيرها، مع الاهتمام بالبيت وبالصغار وبالجدة، وتخبز الخبز في الفرن وتطبخ على (طابونة)، ومع ذلك تجد وقتا لتحكي في جلستها على (عالة الشاهي) دائما عندها حكاية، ولكن لكوني البنت الوحيدة والتي تحب الحكايات فقد حظيت بالنصيب الأكبر.
أمي تحكي لي في البيت وأنا أحكي في المدرسة، حكاية (جحا وأخوته الستة مع التاجر اليهودي)، وطبعا ستكون تلك الجملة التي تذكر عندما يذكر لفظ اليهودي (….. )، وستكون البداية مع (خراف الكذب) بين اليهودي والأبناء الستة حيث يستولى على نصيب كل واحد منهم، حتى يأتي دور “جحا” الذي يبدأ حكايته:
(بونا مات وعقب سبعة طُنْجْر، ستة فُرْغْ اوحدة ما فيهاش، واللي ما فيهاش عشينا بيها سبعة خوطر، ستة حرجوا وواحد ما ذاقاش.. واللي ما ذاقاش كسرنا عليه سبع عمدة، ستة خطوه وواحد ما ناشاش)، وهكذا يسترجع نصيب إخوته وتبدأ رحلة “جحا” مع اليهودي، وتمتد حتى يُفْقده زوجته ويأخذ منه (سير جلد)، من قباعته لصبعه الكبير، ليواصل رحلته ويعود بالغنائم لأخوته الذين هزؤا منه. وتضحك البنات وتصفق أبلة “نوارة”، ولكن أمي من كل الحكايات ستظل تركز على حكاية البنت الجميلة التي أحبها ابن الوزير، ولكن ابن السلطان هو من خطبها، ويوم زفافها، فاتت (عزوزة الستوت)، على ولد الوزير، ولقاته متغشش مهموم وعرفت السر، وقالتله: طبك عندي تو نجيبها لعندك، وخذت قصباية، وشرت القمل والصيبان من الصغار ومشت لحوش العرس، وقالت بنشوف العروس ونباركلها، وحطت القمل والصيبان على راسها، وتبرعت تاخذ العروس للحمام، ولكن بعد الحمّام رفعتها لولد الوزير، وخذت بايها وروحت.. والعروسة سايرت ولد الوزير وقالتله: خللي نغسل اطرافي، ونحت دملجها وفضتها كلها، وربطت (العصابة)، في الردي ونقزت من الحيط وهربت. ولد الوزير يسمع في صوت الفضة لان طير الحمام ينقر فيها وبعدين عرف انها هربت، لما وصلت لحوشهم لقت أمها بتشنق روحها ولكن ربي سلم، وتمّ العرس.. ولد الوزير العاشق بعث رسالة مع (عزوزة الستوت)، يحكي على عشقه وامله وردت عليه، (الحق نسيت العبارات كلها ولكن لتركيز أمي على عبارة محددة وتكرارها لم أنسها والعبارة هي: ونحشم سبعة زمايل كبار) يعني ستة خوت وبوها.
أما الحكاية التي سأظل أقول لأمي (والنبي يام عاوديها) فهي حكاية (ماما طينة) و(قليب بلا همّ). تلك البنت البسيطة الضاحكة، التي بعد حين ستحجب عن الشارع ولكن هي “قلب بلا هم”، ديما تضحك وزاهية، وجاء تاجر جوّاب وقال (نتزوجها ونركب الهَمّْ في قلبها)، تزوجها وأسكنها في بيت عالي، وبعد أسبوع قال لها بنسافر للتجارة، وانت لا تخرجي من الحوش كل شيء عندك، وعلى باب البيت وضع طينا أو كما تقول أمي (مَلْسه بالطين).
“قلب بلاهم” تسمع في أصوات الصغار يلعبوا في الشارع، تاخذ سلة وتعبيها بالحلوى والبشكتي وادليها من الروشن للصغار، وتطلب منهم يعبوها بالطين، وهكذا صنعت امرأة من الطين ولبستها الحوايج والعصابة فوق راسها، ودندشتها بالفضة وسمتها (ماما طينة)، ولما تنوض الصبح، تصبَّح عليها وتنشدها (شن نفطروا اليوم؟ شن انديروا غدانا؟)، وتقعد جنبها في الليل وتهدرز عليها، وحست “قلب بلاهم” أنها حامل ونشدت “ماما طينة” شن ادير (ترد على روحها ديري وديري)، ولما جي موعد الطلق قالتلها (شن اندير يا ماما طينة قالتلها)، مدي رجلك وجيبي عجلك، وجابت عجلها، ولد ما شاء الله، قطعتله السرة، وقمطاته، وقعدت ترضع فيه.
بعد كمل الحول جي هذاك التاجر، في خاطره قال: (تو نلقاها مسلولة وعظامها ناتقات)، ولكن لما خش لقاها ما شاء الله زايدة في الزين، ووجهها بيطرّق منه الدم، وشاف هذيك المرا، نشدها هاذي منو قالتله “ماما طينة” من “ماما طينة”؟، ردت عليه “ماما طينة”! وسمع صوت عياط صغير نشدها هذا منو قالت له هذا ولدك؟!
من الغيظ مشي لهذيك المرا، وركلها جابها كدس عالوطا، وتفتـتـت وهو يرفس فيها، ولكن في مكان القلب بالزبط لقي الدود ينغل، شاف لـ”قلب بلاهم”، وقاللها: صدق من سماك (قليب بلاهم).. ومشيت عليهم وخليتهم وبعيني ما عاد ريتهم…
في عام 2003، سأكتب قراءة لهذه الحكاية الصغيرة، وسأنشرها في مجلة (المـؤتـمر)، وستعجب المبدع الكبير “يوسف القويري”، الذي تمنى أن أواصل الاهتمام بالحكاية الشعبية، وأقوم بدراسة لحكايات أخرى، أمّا المبدع “مفتاح العماري”، فهو فتح آفاقا لقراءة هكذا حكاية بدلالة البيت العالي الدال على المدينة، وأيضا كيف يغدو الطين أداة خلق بين يدي المرأة، وأداة موت بين يدي الرجل، ثم في جلسات الصديقة “فاطمة غندور” في (مكتبة النساء)، بشارع بيروت، اقترحت اجتماعا دوريا لنتبادل فيه الخبرات وقد صار حديث عن الحكايات الشعبية وحكيت هذه الأقصوصة (قلب بلاهم)، وحكت الأستاذة “حواء البدي”، ذات الحكاية ولكن باختلاف ما يعبِّر عن البيئة والمكان ولكن بنفس الرسالة، ربما لو اهتممت أكثر لكنت جمعت الصيغ المختلفة لهذه الحكاية عبر المدن الليبية، وكيف يمنح المكان صيغته للقول، ولكن كعادة “حواء” ظلت هذه القراءة يتيمة ولم أهتم بمواصلة البحث.
(هدرزت هلبة اليوم، والضي ما هربش رغم التحذير بقطعه لمدة نصف نهار كامل، أو 12 ساعة، والساعة توة 6:32 من يوم الأربعاء 12يونيو، والحرارة إن شاء الله لطف من ربي).